قبل أيّام، زارني في كنيستنا شابّ، ترعرع في أحياء أحيا في خدمتها، ترافقه شابّة قال لي، عندما رتّبنا أن نلتقي، إنّ خطيبته ستكون معه. قعدنا في قاعة تعطينا، في زمان هذا الوباء اللعين، أن نحفظ المسافة الآمنة. هدف الزيارة كان أن يعرّفني، عن قرب، برفيقته التي سيكمل حياته معها.
يعمل الشابّ في دولة عربيّة في مؤسّسة قرّر أصحابها أن ينقلوا مكاتبهم إلى البعيد، إلى إحدى الدول الغربيّة. كشف لي عن أسفه من هذه النقلة التي ستحدّ كثيرًا من زياراته إلى لبنان التي كان يوقّعها، من دون الأعياد الكبرى والفرص، مرّةً في الشهر. كان حزينًا من شيئَين، من النقلة ومن الفراغ الذي بات يعرّي هذا البلد الذي قال إنّه يحبّ أن يحيا فيه أو في قربه. قال لي: «منذ يوم الرابع من آب (2020)، اليوم المدمِّر، إلى هذا اليوم، لم يبقَ لي صديق واحد في لبنان. أصدقائي كلّهم صاروا في الخارج»!
عندما كان هذان الشابّان أمامي، تمنّيت لو كان قادة هذا البلد كلّهم معنا. أعرف أن ما من زعامة تُبنى من عدم. الزعماء لهم ناسهم الذين يحبّونهم، صغارًا وكبارًا، بل الذين يفدونهم بدمائهم! ولكن، ماذا تقول أمام زعيمك سوى ما تعرف أنّه يحبّ أن يسمعه منك ومن سواك؟!
لا أريد أن أتكلّم في السياسة أو في نتائجها المعروفة. قلتُ، ربّما هنا أو على صفحات أخرى، إنّنا في لبنان، وفي غيره من البلدان العربيّة التي يعنينا ازدهارها، من المستحيل أن تنهض الممارسة السياسيّة فيه قبل أن نكتسب عقلًا نقديًّا! أترك لكم هذه الكلمات قبل أن أعبر إلى قصدي من هذه السطور.
يحزنني أنّنا، بعد ثمانية عقود على مصالحة النهضة في كنيسة أنطاكية، ما زال الكثيرون بيننا بعيدون عن اعتبار أنّ الكنيسة هي حياتنا وحدها. الكثيرون، بفعل هذه المصالحة، اختبروا شيئًا من الحياة في الكنيسة، من المشاركة في الصلاة، الجماعيّة والفرديّة، ومن المعرفة، والخدمة... ولكنّنا لم نختبر كلّنا بأجمعنا بعدُ، بقوّةٍ انبثقت في العنصرة، أنّ نهضة الكنيسة في مدانا هي طموحنا كلّه في هذا الوجود.
هذه ليست كلمات ملامة أو انتقاد أرشقها على الذين أداروا أظهرهم لهذا المدى المنكوب وللحياة فيه! هذه كلمات أخويّة تستدعي فحص النفس، فرديًّا وجماعيًّا. أعتقد أنّنا بمعظمنا مصابون بهذا المرض البغيض الذي اسمه الفرديّة. كلّنا نعرف أنّ الفرد لا يمكن أن يحيا سليمًا في جماعة لم يختبر أعضاؤها الحياة الجماعيّة فعلًا. هذا هو، في أحيان كثيرة، حالنا فعلًا. الذين يرحلون من بيننا مخلّفين وراءهم كلّ شيء إنّما يرحلون أفرادًا من جماعاتٍ معظمُ مَن فيها لا يهمّه سوى نفسه أيضًا.
هل ننتظر اليوم انتفاضةً على كلّ شيء؟ لستُ نبيًّا. لكنّي أثق بأنّ اللَّه سيُخرج من بيننا، أيضًا اليوم وهنا، أشخاصًا يحفظون قلوبنا في حبّهم للَّه ولكنيسته. لن ينقطع عهد تجديدنا. منذ مدّة، اتّصل بي أحد الإخوة الكهنة. كنّا في يوم وداع عيد كنسيّ كبير. عيّدني. قال لي حرفيًّا: «أريد أن أكون الشخص الأخير الذي يقول لك تمنّيات العيد!». كان هذا الأخ قد التحق قديمًا بفرقة حركيّة كنتُ عضوًا فيها. قال لي أيضًا: «قلتَ لي في مطلع رسامتي كاهنًا: كن أبًا لأهل بيتك ولرعيّتك. جئتُ أسألك أنت، أنت الذي أحزنتُكَ بسفر سابق: عُرضت عليَّ رعيّة في الخارج. البلد، الذي الرعيّة فيه، أعرفه ولغته. هذا سهّل العرض عليّ. المبلغ، الذي يقولون إنّهم سيخصّصونه لي في السنة، يعادل ما أتقاضاه هنا في عشرين سنة تقريبًا! سأخدم الرعيّة التي أكون فيها. أكون لها أبًا ولبيتي. ماذا تقول؟». قلتُ له بضع كلمات. قلت: «لا علاقة لنا بهذا العرض. نحن موجودون هنا لقصدٍ حدّدَهُ اللَّه». قال: «اتّصلتُ بك من أجل هذه الكلمات التي لم يكفني أنّني ردّدتُها على نفسي. أردتُ أن أسمعها من شخص آخر أيضًا». بمنطق العالم، كان هذا حوار شخصَين مجنونَين. ولكنّه بمنطقٍ يقنعنا، هذا حوار كاهنَين مرتبطَين بيوم رسامتهما!
هي بضع كلمات. هذا مدًى يحتاج إلينا. لنبقى فيه، لا يمكننا أن نبقى فيه إذا لم نثبّت عينَينا في ما يريده اللَّه منّا، أي في ما هي ثروتنا الحقيقيّة! الذي يردّد في لبنان كثيرًا، في لبنان وسورية والعراق وفلسطين...، أنّنا لا نستطيع أن نحيا من دون إعانة الذين يعملون في الخارج. لا تُرفض المحبّة! أرجو أن يكون هذا صحيحًا، أي أن يكون الذين هجرونا يدفعون إلى ذويهم ما يساعدهم على الحياة بكرامة. أعرف بعضًا يفعلون. أصلّي من أجل أن يعظم الحبّ في الأرض. ولكنّ رأيي آخر. رأيي في أنّ الذين تركونا لا يستطيعون، هم قبلنا، أن يحيوا، من دون وجودنا في أرضنا، في سلام. لا أتكلّم على صعوبات البعد وتأثيراته على سلام حياتنا، بل على أنّنا، حاضرين في أرضنا، نثبّت لمَن له رغبة في أن يعود إلى بلده، قرار عودته.
هل أُعفي دولنا من مسؤوليّتها عن هجرة الناس؟ أحبّ أن أعتقد أنّ معظم الذين تركونا، بمعنى أو بآخر، طردتهم بلداننا. سامح الله الفاعلين. قلت إنّني لا ألوم أحدًا تركنا. أعترف بحرّيّة الناس وبإخلاص المخلصين منهم في قرراتٍ تقنعهم. الذي أرجوه أن تبقى بلدانهم في مدى عينَيهم. هذا شأننا أن نحفظ أبدًا أنّنا واحد مع الإخوة. هذا أساس الحياة، أساس الخدمة القائمة والمرجوّة، منهم ومنّا.