موضوع العدالة واسع ويستوجب بحثه بجدّيّة، إذ يجب أن يتناول مثلّث العدالة: القاضي والمحامي والمتقاضين. برأيي الشخصيّ العمل القضائيّ مبنيٌّ على هذا المثلّت المتساوي الأضلاع. لذلك، رأيت ان أعدّل في العنوان ليصبح، عطفًا على عملي كقاضٍ والمستمرّ منذ سبع وثلاثين سنة، العدالة وأن تكون قاضيًا مسيحيًّا.
من ولّي القضاء فقد ذبح بغير سكّينٍ
(أبي هريرة)
بدءًا أستعير جزءًا من الأودية الأولى من صلاة المطالبسي: «ليس قدّوسٌ كإلهنا وليس عادلٌ سواك يا ربّ»، اللَّه هو العادل الوحيد «عادلٌ أنت أيّها الربّ وجميع أحكامك مستقيمةٌ وطرقك كلّها رحمةٌ وحقٌّ وحكمٌ» (طوبيّا 3: 2)، وأعلى ما نصبو إليه هو بعضٌ من العدالة التي من عند السيّد المبارك العادل الوحيد بالمطلق.
العدالة مفهومٌ فلسفيّ أخلاقيٌّ يقوم على الحقّ، وهذه ثابتة أولى لا يسوغ إنكارها، وعلى الاستقامة والعقلانيّة، وعلى القانون الطبيعيّ (القانون الطبيعيّ: مجموعة الحقوق الموجودة منذ بدء التكوين لكلّ الناس بوصفهم مخلوقات لها عقل). وعلى الإنصاف، بحيث تعطي كلّ فردٍ حقّه أو ما يستحقّه. وهو مبنيٌّ على أركان أربعة، هي أقرب إلى الفضائل المستمدّة من نفحات إلهيّة والتي يصعب على الإنسان، مهما علا شأنه ووسع علمه وتنقّى بترفّعه، أن يبلغها، وهي: الحكمة، والشجاعة، والحياد، والمساواة. تاليًا تشكّل العدالة المفهوم المعاكس للظلم والجور والتطرّف.
تطوّر المفهوم الفلسفيّ للعدالة إلى ما يستفاد منه تجرّد من يكلّفون بممارستها وعدم انحيازهم إلى فريق دون آخر ممّن يحتكمون لديهم. وتاليًا التعاطي معهم وفق قواعد التوازن والمساواة (مفهوم العدالة يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالمساواة، المساواة في ما بين المحتكمين: «يا أيّها الناس إنّا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند اللَّه أتقاكم إنّ اللَّه عليمٌ خبير» (سورة الحجرات، الآية 13)؛ ومستتبعة بحديث منسوب إلى رسول المسلمين «الناس سواسية كأسنان المشط الواحد، لا فضل لعربيّ على أعجميّ إلّا بالتقوى»). ويُشترط عدم المحاباة وحماية المصالح الفرديّة والعامّة. كما يوصي السيّد على فم يوحنّا الإنجيليّ: «لا تحكموا بما هو ظاهر، بل احكموا حكمًا عادلًا» (يوحنّا 7: 24).
بالنتيجة، تتجلّى العدالة، (على خلاف الظلم والجور وعدم الصدق والتطرّف)، برؤيةٍ إنسانيّة للمجتمع الذي تتعايش فيه مكوّناتٌ بشريّة مختلفة من حيث الجنس واللون والفكر والمعتقد والطباع والأنساب والأعمال... على أنّ من ينظّم هذه الرؤية هو قانونٌ وضعيٌّ يشارك في صوغه، من حيث المبدأ، المجتمع بمكوّناته كافّة، فينقله من فكرةٍ مجرّدة concept abstrait إلى واقعٍ ملموسٍ réalité tangible ، وذلك بمقتضى مجموعة من الأحكام والقواعد، يغلب عليها الطابع الزجريّ التنظيميّ، والتي من شأنها أن تضبط تصرّفات الحكّام والمحكومين على السواء. يقول مونتسكيو في كتابه روح القوانين :De l’esprit des lois إنّ من ولّي الأحكام قد يسيء الحكم فيها tout homme qui a du pouvoir est porté à en abuser; بالمقابل قد يتطرّف المحتكمون في تصرّفهم فيتجوّرون بحقدٍ وكراهيّة وسوء أداء... بحيث تكون الغاية من التشريع (القانون) أن تتعايش سائر مكوّنات المجتمع بفئاتها كافّة: «ليس عبدٌ ولا حرٌ، ليس يونانيٌ ولا يهوديٌّ، لا ذكرٌ ولا أنثى، لا غنيٌّ ولا فقير»، (غلاطية 3: 28)، بلياقةٍ وانضباط («كلّ شيء مباحٌ لي ولكن ليس كلّ شيء يوافق» 1كورنثوس 6: 12). «الناموس الكامل، ناموس الحرّيّة» (يعقوب1: 25 و2: 12) موضوعٌ لخدمة أولاد اللَّه المفديّين. فلا ينظر بمقتضاه الى الإنسان بموقعه، ولا بماله ولا دينه وخلقه وعاداته... بل بكينونته الإنسانيّة condition humaine .
على هذا الأساس شرّعت القوانين على أسس ومفاهيم الاستقرار الاجتماعيّ، والترابط، والكرامة، والمساواة ومعاملة الأفراد معاملةً عادلة ومنصفة، باعتبار أنّ البشر متساوون في كلّ شيءٍ، فجميعهم يمتلكون الكرامة الإنسانيّة ذاتها. سواءً أكانت القوانين مدنيّة أم تجاريّة، التي تهدف أساسًا إلى تنظيم العلاقات المدنيّة والتجاريّة بين مكوّنات المجتمع، والحؤول دون التعدّي عليها أو إساءة استعمالها، أو كانت قوانين عقوبات (التي يفترض أنّها عادلة)، المتمثّلة في الإجراءات والأحكام المترتّبة على مرتكبي الجرائم، والتي ترمي إلى ردع الأفعال الجرميّة ومرتكبيها ومن حولهم من محرّضين ومشتركين ومتدخّلين، وتعويض المتضرّرين تعويضًا عادلًا عن الضرر المادّيّ والمعنويّ اللاحق بهم، بحيث يفترض أن يكون التعويض عادلًا يتناسب مع الأضرار التي لحقت بالشخص (المتضرّر).
القانون الوضعيّ، الذي هو من صنع البشر (التشريعات التي تحكم علاقات الناس ببعضها البعض ومنها القانون المدنيّ الذي يحكم علاقات الأفراد لجهة موجباتهم وحقوقهم وعقودهم من حيث إنشائها وإلغائها وإبطالها وما قد ينتج منها؛ والقوانين الدستوريّة السياسيّة التي من ناحية ترسم النظام السياسيّ في الدولة (مبدأ فصل السلطات الثلاث: التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة، وكيفيّة تجلّيه)، ومن ناحية أخرى تحكم العلاقات بين الأفراد والدولة)، يختلف عن العدالة التي هي نفحةٌ من الإلهيّات، وقد ينسجم أحيانًا مع العدالة كما قد لا ينسجم معها.
وانطلاقًا ممّا أشرنا إليه حول مقولة مونتسكيو إنّ من ولّي الأحكام قد يسيء الحكم فيها(١)، ومخافة أن يستبدّ القاضي بالمتقاضين أمامه أو يخرج عن حياده، عمدت مختلف التشريعات، سواءً في لبنان أو العالم، الى إيجاد نصوصٍ خاصّة ترمي الى تنحية القاضي أو ردّه عن النظر في دعوى عالقة تحت يده، إذا تبيّن أنّ للقاضي أو لزوجه (أو خطيبته) مصلحة مباشرة أو غير مباشرة في الدعوى؛ أو تبيّن أنّ بينه وبين أحد الخصوم صلة قرابة أو مصاهرة أو سبق أن كان وكيلًا لأحد الخصوم أو ممثّلًا قانونيًّا له، أو سبق له أو لأحد أقاربه أو أصهاره أن نظر بالدعوى كقاضٍ، أو إذا كان أبدى رأيًا في الدعوى بالذات ولو كان ذلك قبل تعيينه في القضاء أو إذا كانت بينه وبين أحد الخصوم عداوة أو مودّة يرجّح معها عدم استطاعته، أو كان أحد الخصوم دائنًا أو مدينًا أو خادمًا للقاضي وفق أحكام المادّة 120 المدنيّة المعدّلة (في لبنان)
وإذا تبيّن أنّ القاضي قد خرج عن حدود تجرّده وحياديّته، باعتبار أنّ الحياد والتجرّد سمتان جوهريّتان من سمات العمل القضائيّ، يستوجب ردّه. لكنّ الأمر المهمّ الذي تجب الإشارة إليه في هذا الإطار أنّه يقتضي أن تكون العداوة أو المودّة التي يعوّل عليها لردّ القاضي ثابتة وأكيدة وعلى درجة عالية من الشدّة والوضوح، بحيث تتحكّم في إرادة القاضي وتجعله في وضع لا يستطيع معه أو يصعب عليه الاحتفاظ بتجرّده وحياده في الحكم ما بين الخصوم والتي تجعله يميل إلى صالح من يبادله المودّة وضدّ من يضمر له العداء. كما يجب أن تكون العداوة شخصيّة ومبنيّة على أسباب تدلّ عليها بشكلٍ واضحٍ وجليٍّ وثابت وأكيد.
والواجب على من تولّى القضاء أن يتّقي اللَّه، وأن يراقب اللَّه، وأن يحرص على إصابة الحقّ قدر المستطاع. فلا يمكن للقاضي أن يتولّى الحكم بين الناس إذا لم يكن ملهمه الروح المنسكب عليه من فوق.
لا يمكنك أن تقضي بين الناس ما لم تر في وجه كلّ واحدٍ أمامك إلّا وجه السيّد المجرّح المطروح مكلومًا على الصليب «لا صورة له ولا جمال فننظر إليه، ولا منظر فنشتهيه» (أشعياء 53 :2)، كلّ من يحضر أمامك يسكنه الخوف، وإن حاول إظهار عدم الخوف. لذلك، لا يمكنك إلّا أن تنظر ما أنت فاعل، لأنّك لا تقضي لإنسان إنّما للَّه، فهيبة الربّ أمامك. «لأنّه ليس عند الربّ إلهنا ظلمٌ ولا محاباةٌ ولا ارتشاءٌ» (2أخبار الأيّام 19: 7). إيّاك أن تسيء إلى هيبة اللَّه، الظلم يسيء إلى هيبة اللَّه، هذه كانت وصيّة جدّتي لي، عندما دخلت محراب القضاء. أنت تطبّق القانون الذي بين يديك، عليك أن توصّفه، وأن تفسّره إذا شابه إبهام... علّك تدرك بعضًا من العدالة وإيفاء كلّ ذي حقٍّ حقّه. وأظنّ أنّ الوصول إلى العدالة المطلقة أمر صعب ورهيب. على أيّ حال ثمّة من يذكر تلك المقولة المنسوبة إلى رسول الإسلام: «القضاة ثلاثةٌ: اثنان في النار، وواحدٌ في الجنّة: رجلٌ عرف الحقّ فقضى به، فهو في الجنّة، ورجلٌ عرف الحقّ فلم يقض به، وجار في الحكم، فهو في النار، ورجلٌ لم يعرف الحقّ، فقضى للناس على جهلٍ، فهو في النار».
أعرف أنّ كثيرين يتساءلون في هذه الأيّام السوداء عن حال القضاء في لبنان راهنًا:
فلنوصّف واقع الحال القضائيّ العدليّ بأقسامه الإداريّ والماليّ والروحيّ.
لهذا سأستعير بعضًا من كلمة رئيس مجلس القضاء، الرئيس سهيل عبود، في تخريج الدفعة الأخيرة من القضاة الجدد مؤخّرًا.
«قد يظنّ كثيرون، أنّه زمن الإحباط، لكنّه زمن الأمل أيضًا. قد يظّن البعض الآخر، أنّه زمن اليأس، لكنّه زمن الصمود أيضًا. قد يظنّ آخرون، أنّه زمن السقوط، لكنّه سيتحوّل حتمًا زمنًا للنهوض، إنّه في الحقيقة والواقع، زمن لتكريس استقلاليّة السلطة القضائيّة».
ونسأل ما هو المطلوب من القضاء؟
إذا كان المطلوب، أن يكون القاضي مستقلًّا، ونزيهًا، أن يكون منتجًا ومتجرّدًا وحرًّا، وإذا كان المطلوب أن يكون القضاء غايتنا الوحيدة ولا غاية سواها، لا أن يكون وسيلةً إلى مناصب سياسيّةٍ أو مواقع أخرى، فهذه نظرتنا إلى القضاء، الذي ترغبون ونرغب فيه، ... هذا هو القضاء الذي نعمل له جميعًا، ونسعى إليه.
القضاء الذي نصبو إليه ونريده، قضاءٌ حرٌّ ومتحرّر، يعمل، بوحيٍ من ضميرٍ حيّ ومخافة اللَّه والكتاب (النصّ القانونيّ الذي بين يديه) في خدمة الشعب الذي يحكم باسمه، بعيدًا عن كلّ تحيّزٍ أو استنسابيّةٍ أو فئويّةٍ، ومتمتّعًا بحرّيّة واستقلاليّة غير منقوصة. مع التأكيد على أنّه، إذا دخلت السياسة والمحسوبيّات أبواب المحاكم باختصاصاتها كافّة ونوعيّتها، خرجت العدالة من نوافذها.
صلاتنا في ألّا نسهم في خروج العدالة من نوافذ قصور العدل.