العدد الأوّل - سنة 2022

07 - لاهوت - اللاهوت السياقيّ - نقولا أبو مراد - العدد 1 سنة 2022

تقول وثيقة «نختار الحياة»، في فقرتها الثالثة، إنّ مقاربتها أوضاع المسيحيّين في الشرق الأوسط تعتمد «على منهجيّة اللاهوت السياقيّ، الذي ينطلق من الواقع...». وأتى تفصيل هذه المقاربة في الفقرات 74-76 التي تدعو إلى تأوين «معطيات الكتاب المقدّس» عبر مراعاة اللاهوت السياقيّ الذي يأخذ في الاعتبار الأبعادَ «الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة» كمنطلق «للتفكير في ما يريده اللَّه منّا، الآنَ وهنا». وتُتَرجَم هذه المقاربة، في الوثيقة، في الدعوة إلى إطلاق ورشة للتجديد والإصلاح الليتورجيّ والطقوسيّ، والتشديد على الانفتاح على الآخر في ثقافةٍ للحوار والتقارب. ثمّ تتابع الوثيقة لتناشد بإيلاء الشباب الاهتمام الذي يستحقّونه، وإصلاح المؤسّسات التربويّة الكنسيّة والمقاربات الخاصّة بالتربية والتعليم.

شاع استعمال مصطلح «اللاهوت السياقيّ» بدءًا من أواسط القرن العشرين، لا سيّما في المدى الآسيويّ والأميركيّ الجنوبيّ، وذلك لتوصيف المقاربات اللاهوتيّة أو التفاسير الكتابيّة التي تمثّل منظورًا ثقافيًّا محدّدًا أو تنطلق منه، أو تلك التي تعالج قضايا اجتماعيّة سياسيّة في بيئة معيّنة. وممّا برز من هذه المقاربات السياقيّة، على سبيل المثال لا الحصر، لاهوت التحرير في أميركا اللاتينيّة، واللاهوت الإفريقيّ، وكذلك لاهوت الأرض المنطلق من المعاناة الفلسطينيّة من جرّاء السياسات الجائرة والفصل العنصريّ التي تمارسها دولة إسرائيل بحقّ الفلسطينيّين.

أتت المقاربة المستندة إلى الأبعاد السياقيّة في صوغ لاهوتٍ ما، أكانَ عقائديًّا أم كتابيًّا أم ليتورجيًّا، كنوعٍ من ردّ فعل على القيمة المعياريّة التي أُعطِيَت للاهوت الذي تمّت صياغتُه في أوروبّا باعتباره قد فرض نفسه، لأسباب عديدة ليس أقلّها بروزًا الاستعمار الأوروبّيّ وما رافقه من تبشير للشعوب المستعمَرة، وتزويدها بلاهوتٍ معلّب، نُزِّل عليها تنزيلًا كما نُزِّلَت جوانب أخرى من حضارة «الرجل الأبيض» وثقافته ومبادئه وقيمه باعتبارها معياريّة وعالميّة وصحيحة في كلّ زمانٍ ومكان.

غيرَ أنّ مثل هذا اللاهوت المعياريّ، باعتباره مجموعةً من المقولات اللاهوتيّة الجامدة التي تدّعي اختزان الرسالة المسيحيّة بتمامها، صافيةً ومجرّدةً، لا وجود له، في الأصل، إلّا في فكرِ الذين ينظرون إليه على هذا النحو. ذلك بأنّ كلّ لاهوتٍ، سواء أكان كتابيًّا تفسيريًّا أم عقائديًّا أم ليتورجيًّا، إنّما هو وليد الزمن الذي وُضِع فيه ورضيع المساقات الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة واللغويّة والفسلفيّة التي تشرّبها صائغوه أو تفاعلوا معها. وبهذا المعنى، فإنّ كلّ لاهوتٍ سياقيّ، وكلّ صياغةٍ لاهوتيّة لا تستقيم ما لم تكن، في أساسها، كلامًا إيمانيًّا بنًّاءً، يخاطب الكنيسة «الآن وهنا»، أي في خصوصيّة السياقَين الزمنيّ والمكانيّ اللذين تحيا فيهما. وأقصد بالكنيسة هنا، لا المفهوم المجرّد، بل الكنيسة المحلّيّة في زمانٍ ومكانٍ محدّدين بأضيق سياقاتهما.

والحقيقة أنّ طابع الجمود والصنميّة، إذا ما أُضْفِيَ على الخطاب اللاهوتيّ للكنائس، فأقفلت، كما تقول الوثيقة، «باب التفسير والاجتهاد»، لتضحي كلمة الإنجيل، في جانبٍ من جوانب تناقلها، «محنّطةً»، ولا تلامس الواقع، إنّما هو علامة، ليس فقط على فشل المعنيّين بالتعليم الكنسيّ والقائمين عليه، بل على «خطيئة» كبرى من قبيل «إطفاء الروح» والإخلال بالاجتهاد في واجب تعلّم الكلمة الإلهيّة وتعليمها، وإهمال هذا الواجب.

ومع وضوحِ الكتاب المقدّس، في مواضع كثيرة، بشأن مخاطبة الناس بالكلمة من منطلَق السياق الذي هم فيه، فقد طغى في الكنيسة بعامّة، وعلى مدى العصور، تجميد للاهوت، سواء في صياغات المجامع المسكونيّة، باعتبارها، مقولاتٍ منزّلة، لا يجوز المساس بحرفيّتها، أو في مصنّفات عقائديّة وُضِعَت هنا وثمّة.

إذا ما قرأنا الكتاب المقدّس، ندرك سريعًا، ومنذ بداءته، أنّ اللَّه فيه، لا يشبه الإله الذي تتحدّث عنه هذه المصنّفات، وأنّ الكلام عليه لا يأتي في مقولاتٍ من قبيل مُثُل أفلاطون أو أزليّة المادّة والنفوس البشريّة، بل، على العكس. فاللَّه الخالق المطلَق والضابط الكلّ والفاعل الأوحد في الكون أجمَع، كما يصوّره لنا الإصحاح الأوّل من سفر التكوين، يتحوّل، بدءًا من الاصحاحِ الثاني، إلى ربٍّ يتفاعل مع شخصيّاتٍ محدّدة، فيخاطب آدم وامرأته، ويعظ قايين وينتقم لهابيل، ويتعامل مع نوح وابراهيم وإسحق ويعقوب ويوسف والأسباط، ويسير إلى جانبهم، وتُروى قصّته معهم في الأماكن التي أقاموا فيها، في ضيقها ورحابتها، وفي سلامها وعدائيّتها، وفي طاعتهم وتمرّدهم، وفي عقرهم وإثمارهم، وفي كلّ جانبٍ من جوانب المسيرة البشريّة على الأرض.   

وإنّ هذه الجدليّة بين الخصوصيّة والشموليّة في الصورة الإلهيّة، في أسفار الكتاب المقدّس، بعهديه القديم والجديد، أي العلاقة بين الإله الخالق للكون من جهة والإله في مسيرته مع فردٍ أو جماعة، هي في أساس صوغه، وتشكّل حجر الزاوية في منظور الكتّاب. ففي القصد الإلهيّ بخلاص البشر جميعًا، وعودة الأرض بأممها وشعوبها وما عليها إلى حالة الحسن الأولى التي خلقها اللَّه عليها، ينزل الربّ إلى سياقاتٍ ويختار من الناس عائلةً وعشيرةً، تتخبّط في تعرّجات تاريخها ووجودها، ليجعل من هذه السياقيّة المحدودة مثالًا للناس جميعًا على أنّ الكلمة الإلهيّة الداعية إلى المحبّة، إنّما هي نور وحياة للأرض كلّها. وما النبوءات الكتابيّة إلّا تحقيق لهذه الجدليّة بين المكانيّة والشموليّة، وبين المعهود في سلوك الناس والمرجوّ منه.

وفي العهد الجديد استكمال للخطّ عينه، حيث يصير يسوع، معلّم الاثني عشر، بأسمائهم، وبضعفاتهم، وشكوكهم، وخيانتهم، وجهلهم، وسذاجتهم، وكذلك أيضًا بتبعيّتهم، وأمانتهم، وإيمانهم، وفهمهم، ومحبّتهم، يصير يسوع معلّم الأمم أجمع، لتغدو السياقيّة في قصص يسوع، هي الموحية بالشموليّة، لا العكس. ولذلك كانت الكنيسة، على مدى العصور، رسوليّة في جوهرها، كما أنّها، في أسسها الكتابيّة نبويّة، بمعنى أنّ إيمانها قائم على ما علّمه الربّ يسوع لجماعة الاثني عشر، تنقله بقوّة الأنبياء الذين خاطبوا الناس، أوّلًا، في سياقاتهم التي عَرَفَت الظلم والاضطهاد والقمع وإقصاء الفقير والمعوز.

ومن هذا المنطلق، لم يكنْ في الكنيسة، في الأساسِ، لاهوت جامد، ومقولات معلّبة، بل كان هناك تعليم ووعظ في وسط الجماعة في بعدها المحلّيّ. فممّا وَصَلَنا من كتابات القرون الأولى، ومن كتابات الآباء المفسّرين، أنّ العظة كانت محورًا في الاجتماع العباديّ للمؤمنين حول كلمة الربّ وللاشتراك في سرّ الشكر. ونموذج هذا الاجتماع كان ويبقى سفر أعمال الرسل، حيث الاجتماع لكسر الخبز لم يكن منفصلًا عن الوعظ بكلمة الربّ، ومحورها موت المسيح على الصليب ومعناه في حياة المؤمنين، وعن عيش هذه الكلمة في الشركة والالتفات إلى المساكين. هذا، تحديدًا، هو عمق اللاهوت، وعموده الفقريّ.

وما لاشكّ فيه عندي أنّ كلّ عمليّة تأوينيّة للخطاب اللاهوتيّ ومعطيات الكتاب المقدّس، لا بدّ من أن تستند إلى قراءةٍ للكتاب من منطلق أنّه، في جوهره وبطبيعته، كلمة إلى «أناسٍ» في سياق معيّن. وعندما أقول هذا، لا أقصد بالضرورة، أنّ الكتاب المقدّس هو «المحدود» في الزمان والمكان، بل المحدود فيهما، بالحريّ، هو الإنسان، وأنّ الكلمة الإلهيّة، إنّما «تخرج» من إطلاقيّتها، إذا صحّ التعبير، ومِن تعاليها، لتأتي إلى الناس، و«تنصب خيمتها في ما بينهم»، كما يقول الإنجيليّ يوحنّا (1: 14)، وتصير منهم وإليهم، في آنٍ، حتّى إذا ما خرجوا هم، بدورهم، من سياقات العنف والظلم والقمع واحتقار المحتاج وإقصاء المهمّشين، يتحوّلون إلى مقيمين على هذه الأرض حقيقيّين، ينشرون فيها السلام والحقّ والعدل وقيم الحرّيّة والمساواة والعيش الكريم واحترام كرامة الناس، وعدم التمييز على أساس الدين واللون والمكانة الاجتماعيّة. أليست هذه هي التي تجعل من المؤمنين الحقيقيّين ملحًا يملّح الأرض كلّها، وخميرة تخمّر العجين كلّه؟

هذه الحركيّة التي تتميّز بها «الكلمة الإلهيّة»، من جهة «خروجِها» مِن عليائها آتيةً، هي، إلى البشر، نقرأ عنها، إلى جانب الإصحاح الأوّل من يوحنّا، في إشعياء وفي سفر الأمثال. في إشعياء (55: 11)، تشبه كلمة اللَّه المطر الذي ينزل من السماء على الأرض ليرويها ويجعلها تنبت وتثمر، فهي تخرج من فم اللَّه العليّ وتأتي إلى الناس في يوميّاتهم، ولا تعود إلى مصدرها قبل أن تتمّ ما أرسلها اللَّه لأجله، أي تحقيق السلام على الأرض.

وفي سفر الأمثال (8: 1- 36)، نرى كلمة اللَّه، في ثوبها الحكميّ، تتمشّى بين الناس، تأتي إليهم من الشواهق، وتسير في طرقاتهم، وتجوب ساحاتهم، وتدخل أسواقهم، وتقرع على أبواب بيوتهم، داعيةً إيّاهم إلى الفهم والاستقامة والحقّ ومخافة الربّ والحياد عن الشرّ والكبرياء والتعظّم. ولئلّا تبقى كلمة اللَّه وحكمته مجرّدةً، تجسّدت في يسوع المسيح، الذي ترجم هذه الكلمة قولًا وعملًا، وكلّل فعله بموته على الصليب إظهارًا لمحبّة اللَّه للناس التي ما تردّدت في أن يكون بذل الذات حتّى الموت أوضح تجلّياتها للناس.

بهذا المعنى قلت، في البداءة، إنّ كلّ لاهوتٍ سياقيّ. فإذا كان اللاهوت، في أساسه ومبرّر وجوده، تردادًا للكلمة الإلهيّة، وتعليمًا لها، ودعوةً إلى العيش بها، فلا يمكنه أن يقيم في برج عاجيّ، مؤطّرٍ بصياغات جامدة، ومحرَّمٍ فيه الاجتهاد والنقد والتأوين الفعليّ، إذا كانت الكلمة التي هي موضوعه الأساس، قد كسرت الحواجز ومزّقت الحجب وخرجت إلى الناس، وحلّت بينهم في أصدق تعابير وجودهم وحياتهم.

من هنا أنّ دعوة الوثيقة وأصحابها إلى مقاربة تستند إلى مقتضيات اللاهوت السياقيّ لتأوين المعطيات الكتابيّة واللاهوتيّة والليتورجيّة، لإنسان الشرق الأوسط، إنّما هي دعوة إلى القيام بما يتوجّب على الكنيسة أن تقوم به من منطلق دعوتها الأصليّة، أي أن تنثر بين الناس، في تعرّجات تاريخهم ووجودهم، بـذور الكلمـة لعـلّهـا تـنبـت وتـنمـو وتثمر. وإذا كنّا نأخـذ على الدول المستعمِرَة، في خطاباتنا، أنّها طوّعت الكتاب المقدّس، لتبرّر لذاتها، في كثير من الأحيان، قمع المستعمَرين، فما الذي يختلف فيه هذا عن فعل الكنيسة، إذا ما طوّعت اللاهوت، فجمّدته وحنّطتـه وصنّمتـه، لتقمع الفكر والعقل والحرّيّة، وتقـود النـاس قيـادة الغنم إلـى ما لا يدركونه ولا يفهونه ولا ينتمي إلى يوميّاتهم ولا يخاطبهم في حياتهم، في فرحهم وحزنهم، ومعاناتهم وضيقهم ومشكلاتهم والتحدّيات التي يواجهونها؟

يقول قائل إنّ اللاهوت لا يُكتَب من على الشبابيك، بل في الشوارع والأزقّة. واللاهوت الحقيقيّ، إذا شاء أن يُترجِم ذاته تعليمًا لكلمة اللَّه، في هذا الشرق، لا بدّ له ولصانعيه وصائغيه، من أن يلتفتوا إلى الناس، بدءًا من ذواتهم، لعلّ الكلمة الإلهيّة تأتي، بكلماتهم، كالمطر على الأرض، فتنبت أرض الشرق عدلًا وسلامًا وحرّيّة.

Loading...
 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search