العدد الأوّل - سنة 2022

11 - الإيمان على دروب العصر - التنّين والمرأة اللابسة الشمس - د. جورج معلولي - العدد 1 سنة 2022

«أخيرًا أراني الأيقونة الكبيرة لوالدة الإله وقال لي: هل تعلمين من هي؟

ابتسمتُ قليلًا وقلت: هي والدة الإله!

- أنظري جيّدًا. لا تجيبي سريعًا. فكّري قبل أن تجيبي!

- إن لم تكن والدة الإله من هي إذًا؟

- هي السماء بكاملها. إنّها أمّنا. نحن أبناء وبنات الأمّ الوحيدة الموجودة في العالم.

- إذًا هي أعطتنا الكون كلّه؟»(١)

 

الآية:

« وظهرت آية عظيمة في السماء: إمرأة متسربلة بالشمس و القمر تحت رجليها» (رؤيا 12: 1 ). إن كانت تلتحف الشمس، فهي إذًا ما في الداخل، تحت السربال، أي باطن ما يظهر. هي اللبّ أو القلب، كنه الأشياء. هي أنوثة الخليقة أو رحمها، الحشا الذي يستقبل فكر اللَّه أو قصده في ما يخصّ الكون، حيث تتكثّف كلمات اللَّه الخلّاقة أو أفكاره المُريدة، لهب الأشياء الذي يبثّه اللَّه ليكون كلّ شيء ممّا كان. هي البيت الذي تبنيه حكمة اللَّه من البدء لتساكن البشر. الشمس التي تتسربلها والقمر الذي تحت رجليها هما النيّران الأكبر و الأصغر اللذان ظهرا للوجود في اليوم الرابع من التكوين لحكم النهار والليل مع كلّ الأنوار الأخرى «لتكون لآيات وأوقات وأيّام وسنين»، أي ليكون الزمن (تكوين 1: 14- 19). الآية العظيمة التي أمامنا هي إذًا الكون الجديد الآخذ في التكوّن. نحن في فجر الخليقة الجديدة التي تتمخّض. ذلك بأنّها حبلى بالمواعيد، «تصرخ متمخّضة ومتوجّعة لتلد». بعد آية تابوت العهد في الإصحاح 11 (رؤيا 11: 19)، رمز حضور اللَّه بين البشر، تظهر  المرأة في آلام مخاضها حوّاء جديدة (تكوين 3: 16): مثل حوّاء القديمة تواجه الحيّة ولكن على نقيضها لا تنصاع لغوايتها، كأنّها عذريّة الكون المستعادة، نقاء الأرض الخام التي يرفرف عليها روح اللَّه ينبوع خصوبة متجدّدة. عند أنبياء العهد القديم، تمثّل صورة المرأة الحبلى تشخيصًا لشعب اللَّه المتألّم والتجارب التي يمرّ عبرها في انتظار المواعيد المسيّانيّة. هي صورة الشعب الأمين، أو الشعب الذي يتكوّن من انتظار اللَّه الذي يأتي. وتصبح في الرؤيا صورة أورشليم الجديدة، العروس التي تقول مع الروح للعريس: تعال.

 

التنّين:

في تزامن عجيب، تظهر آية أخرى في السماء: التنّين الأحمر الواقف أمام المرأة العتيدة أن تلد حتّى يبتلع وليدها متى ولدت (رؤيا 12: 4). هل يولّد كلّ جديد مقاومة القديم الشرسة؟ الخمر الجديدة إن انسكبت في زقاق عتيقة تمزّقها وهذا التمزّق قد يكون صاخبًا أحيانًا كصراخ تنّين. ومن اعتاد الخمر القديم لن يرغب حالًا في الخمر الجديد. غير أنّ الحكمة مزجت خمرها وهيّأت مائدتها وخرجت إلى الشوارع تنادي للجهّال أن يدخلوا وللعطشى أن يشربوا. كيف يمكن أن تهيّئ الحكـمة زقـاقًا جديدة لخمرها الجديد؟ هل تتجدّد الخوابي القديمة في مسيرة تحوّل صبورة كصبر الخميرة في العجين؟ أينمو الملكوت سرّيًّا في تراب الأرض كحبّة خردل أو ينهار فجأة كأمطار شديدة على البيوت امتحانًا لأساساتها؟ يُجنّ هيـرودس عنـدما تقول علامات الكون إنّ ملكًا جديدًا سيـولد. مـا سرّ هـذه الوداعـة التي تهدّد عروش الأقوياء وتجذب النجوم إليها؟ إنّ جمال الوليد الجديد يستقطب الشمس والقمر والأفلاك، فترفض الأرض الجديدة أن تسلّمه إلى التنّين، كما فعل والدا موسى إذ «أخفياه ثلاثة أشهر، لأنّهما رأيا الصبيّ جميلًا، ولم يخشيا أمر الملك» (عبرانيّين 11: 23).

يظهر التنّين هكذا عدوّ كلّ من التصق باللَّه. فيجرّ وراءه الكثير من قوى الكون (النجوم أو الملائكة). يهتزّ الكون كما اهتزّت أورشليم (متّى 2: 3) لـمّا علمت ما قرأ المجوس في علامات السماء. تمثّل هذه الصورة وقاحة هذا الكائن الذي يريد أن يتحدّى اللَّه من دون أن يستطيع مواجهته مباشرة. التنّين هو كلّ ما لا يتحمّل ولادة الكون الجديد عبر هذا المولود. يريد أن يردّه إلى غياهب الأرض وعتماتها. فإذا كانت المرأة اللابسة الشمس هي الرحم (أو الأرض) المولّدة التي تطلق الوليد إلى الظهور، فالتنّين هو الرحم (أو الأرض) التي تريد أن تبتلع الوليد وتخنق ولادته. هل تكون المرأة والتنّين اتّجاهين أو حركتين تتخبّط بينهما الخليقة؟ بين الخروج من العدم والعودة إلى العدم، حالة غير مستقرّة هي حالة الخليقة بأسرها. الخليقة تمشي على جسر ماسيّ (والجسر كلمة اللَّه الخالقة)، فوق هوّة عدميّتها وتحت هوّة لانهائيّة اللَّه، كما يقول فيلاريت أسقف موسكو. غير أنّ الطفل الذي يرعى الأرض بعصا من حديد حتّى لا تعود إلى العدم يولد على كلّ حال رغم المقاومين. وهو إذ ينتمي إلى السماء، يُرفع أو يُختطف إلى اللَّه وعرشه ليمارس رعايته من السماء وحُفظت طفوليّته من جشع التنّين. الظلمة لم تدركه أي لم تستطع أن تبتلعه ولا أن تلغي طفوليّته. هذا رفع فصحيّ يفضح الحرب غير المنظورة الحادثة في كلّ لحظة في نسيج الخليـقة: «وَنَشِبَتْ حَرْبٌ فِي السَّمَاءِ، إِذْ هَاجَمَ مِيخَائِيلُ وَمَلائِكَتُهُ التِّنِّينَ وَمَلائِكَتَهُ، وَحَارَبَ التِّنِّينُ وَمَلائِكَتُهُ، لَكِنَّـهُمُ انْهَـزَمُوا وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ مَكَانٌ فِي السَّمَاءِ» (رؤيا 12: 7). في المدى الروحيّ أو اللامنظور، في السماء أو في القلب، قلب الخليقة وقلـوب المؤمنين، الحـرب قائمة بين العودة إلى العدم والخـروج إلـى نور اللَّه، وفي هذا المدى النتيجة محسـومــة ولا يبقـى مكان للتنّين. فصـح الـوليـد نصر نهائيّ. ليس للتنّين الكلمة الأخيرة. وسلطان المسيح المعلن في رؤيا 11: 15 محقّق منذ الفصح. هـذه هـي القنـاعة التـي تؤسّس الرجـاء في سفر الرؤيا.

قد يظهر التنّين في ذهن القارئ صورة عن اللاإنسانيّ، المسخ المشوّه الذي يجرّ قوى الخليقة إلى الانحراف وراءه. وفيه تتكثّف كلّ انحرافات النفس المتمركزة حول ذاتها التي لا تريد أن تتمركز حول الطفل الإلهيّ، أو قل إنّه حالة الكون المنغلق على نفسه الفاقد شفافيّته للنور. إنّ انحراف الوعي العميق أو الرؤية الرافضة للمسيح يولّدان رغبة التسلّط والاستغـلال، الاستعباد والتلاعب بالأقدار كإله كاذب أو فرعون عقليّ. ومن هذا يتولّد جنـون التمـلّك واسـتـهـلاك البشر والطبيـعة استهـلاكًا نهـمًا لا يشبع، وتنازع الملك والأراضي واندلاع الحروب. يتمزّق جسد الكون وجسد الإنسان وتضيع المعاني وتنفد موارد الأرض المادّيّة والروحيّة فتحلّ المجاعات المتتالية. ويغدو العقل والكلام عبيدًا لرغبة التسلّط والعودة إلى الخواء. 

نشيد الظفر

إذا كان كلّ من يغلب موعودًا بأن يُعطى أن يحكم الأمم بعصا من حديد (رؤيا 2: 26-27)، فالطفل المولود صورة عن جسد المسيح الظافر أي المؤمنين باسمه. في اتّحاد الجسد بالمسيح، يتحرّر هذا الجسد (أي الشعب المؤمن) من براثن التنّين ويشترك في ملوكيّة المسيح. النصر محقّق لكنّ التنّين يواصل تخبّطه ويلاحق المرأة الوالدة، الجماعة الجديدة أو أورشليم النازلة من السماء. ما يزال يحاول أن يجيّش قوى الكون لمآربه فيطلق من جوفه ما يشبه النهر، مادّة الكون القديم، المياه السائلة غير المستقرّة التي لا تعرف حدودها والعائدة الى الخواء الأوّل، لتغرق المرأة. غير أنّ المرأة تبقى في عناية اللَّه ورعايته، فتهبّ الأرض اليابسة لتمتصّ المياه القاتلة وتحمي المرأة أي قدرة الكون والجماعة المؤمنة على توليد كلمة اللَّه كلّ حين طفلًا جديدًا يصنع كلّ شيء جديدًا.

عندما قرأنا الإصحاح 12 من رؤيا يوحنّا في مجموعة من الشابّات والشبّان، تساءلنا ماذا يمكن أن يموت فينا بسبب التعرّض المستمرّ لشتّى الأزمات والتنانين هذه الأيّام. قالت شابة: «حبّي للاكتشاف» وقال آخر: «قدرتي على الرجاء». الشفافيّة، المجّانيّة، القدرة على الاندهاش، القدرة على الإبداع، الفضول، العفويّة، كلّها عناصر من روح الطفوليّة المهدّدة بالجفاف والموت إن لم يرسل اللَّه ملائكته ليحفظوها كحدقة العين في نفوسنا. فصّل كوستي بندلي هذه العناصر في أحد كتبه(2) مظهرًا ارتباطها بوصيّة الربّ: «إن لم تعودوا كالأطفال لن تدخلوا ملكوت السموات» (متّى 18). تتأصّل هذه الروح الأصيلة في انتظار لا يتوقّف لمن سيأتي، لمن تناديه قلوبنا: أيّها الربّ يسوع تعال!  هؤلاء الذين لم يحبّوا حياتهم حتّى الموت، أي الذين أحبّوا حتّى المنتهى، غلبوا التنّين بدم الحمل: «الآنَ تَمَّ خَلاصُ إِلَهِنَا، وَآلَتِ الْقُـدْرَةِ وَالْمُـلْكُ إِلَـيْـهِ وَالسُّـلْطَـانُ إِلَى مَسِيـحِهِ! فَـإِنَّهُ قَدْ طُرِحَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ الْمُشْتَكِي الَّذِي يَتَّهِمُ إِخْوَتَنَا أَمَامَ إِلهِنَا لَيْلًا وَنَهَارًا» (رؤيا 12: 10). هؤلاء هم أولاد المرأة التي تلد الكون الجديد في نسيج أرضـنـا وزمـاننا، الذيـن يعملـون بوصايا إلهنا وعنـدهم الشهـادة ليسـوع. هؤلاء الذين يغدون كمريم مولّدين للمسيح في العالم إذ يرتضي لحبّه بالبشر أن يولد طفلًا جديدًا بالروح في من يريدون ولادته (القدّيس مكسيموس المعترف) و يبقى سرّه جديدًا لا يشيخ والمرأة اللابسة الشمس تتمخّض به ضدّ كلّ التنانين.

Loading...
 

 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search