يتعامل الناس مع المصيبة كلّ واحد بحسب تلقّيه لها وتوقّعاته منها ولأسبابها. وفي كثير من الأحيان أو في معظمها يُرجع بعض «المؤمنين» المسؤوليّة إلى اللَّه بإيجابيّة أو سلبيّة، فمنهم من يعتبر أنّها مشيئة الربّ ولا بدّ لنا كمؤمنين من التسليم بها. ويعتبر بعضهم أنّه لم يتدخّل ويمنعها، ومنهم من يعتبر أنّه أنزل بهم مصيبة كقصاص وغيره من الأسباب، وتاليًا يبرّرون لأنفسهم ملامة اللَّه وحتّى رفضهم هذا الإله وما يفعله في بعض الأحيان.
في حالات كهذه يتعاملون مع المصيبة وكأنّ اللَّه أنزلها عليهم. ونحن هنا أمام تغليب للعواطف والفكر البشريّ وإسقاطه على اللَّه من دون وجه حقّ، فاللَّه معنا مظلوم وليس بظالم.
يتلقّى مؤمنون آخرون المصائب بإيمان راسخ بأنّها من هذا العالم، أي ليست من اللَّه، بل يتلقّونها باتّكال على اللَّه، وهذا موقف منسجم مع إيماننا باللَّه المحبّ. (1يوحنّا 4: 8)
قد تسبّب المصيبة صدمة، ففي حالة الموت يمرّ الحداد بحسب علم النفس بمراحل متعدّدة (سبع) لكلّ منها مدّتها حسب الظرف والشخص(٢). فتقبّل المصيبة يأتي على مراحل متعدّدة ولكلّ مرحلة كلامها وأسلوبها المختلف إن أردنا التعزية بمحبّة وحكمة.
في المراحل الأولى لا يفيد النقاش والجدال مع المعاتبين أو القائلين برفض اللَّه، فليس الوقت للنقاش العقلانيّ ولا تعزية في ذلك.
بعضنا يمسك العقيدة والتعليم ويحاجج غيرة على سمعة اللَّه... لا، لندع الشاكي يخرج ما لديه يعاتب كما يريد ويلوم كما يشاء، إنّه وقت السماع والحبّ، التعزية الآن تأتي بالتألّم مع المتألّمين وفي صمت المحبّ أكثر من أيّ كلام في هذا الوقت بالذات.
ومع انتظار الوقت المناسب للحوار والاستعداد لتقبّل البحث في أسئلة يطرحها المتألّم ليتعزّى. وللقائلين بمسؤوليّة اللَّه عن مصائبنا، لا بدّ من تأكيد أنّ تدبير اللَّه لم يكن في هلاك الإنسان بل في فرحه، لم يكن بالموت بل في الحياة.
أراد الإنسان بملء حرّيّته أن ينسلخ عن حبّ اللَّه فوقع في الخطيئة، سقط وبدأ مشواره مع المرض والتعب وصولًا إلى الموت (تكوين 3: 1- 6)
هذا من صنع الإنسان
لنتأمّل مثلًا في (أفسس 2: 1- 10)
الإنسان الحرّ بإرادته اختار البعد عن اللَّه وحصل على نتيجة اختياره الحتميّة ومنها المرض والموت، لكنّ اللَّه بمحبّته الفائقة لم يترك الإنسان لسقوطه ومعاناته، بل بتدبيره وضع طريق الخلاص، فأرسل الأنبياء ثمّ تجسّد وأخذ طبيعتنا البشريّة كاملة ما عدا الخطيئة، وحمل خطايانا على الصليب ليخلّصنا منها، حمل نتيجة جحودنا به، وتعالى عليها هو العليّ ليتنازل ويأخذ صورتنا ليعيدنا إلى بهاء صورته، إلى حالتنا ما قبل السقوط، تنازل وأصبح إنسانًا ليصبح الإنسان بدوره إلهًا. ليعيد إلى البشر لمعان الصورة الإلهيّة الموجودة فيه والتي فقدها لحظة المعصية.
الإله الذي أحبّنا حتّى الموت، نحن صلبناه، قتلناه وما زلنا نقتله.
خلّصنا وما زال مخلّصنا (يخلّصنا) ليعيدنا إلى الحياة الأبديّة، لنعود ونختار بإرادتنا ما كنّا تخلّينا عنه بإرادتنا أيضًا
في اللَّه ديمومة حبّ لا تنتهي ولا تنقطع
هذا من صنع اللَّه
لذا فاللَّه لا يريد الموت ولم يخلق موتًا بل خلق حياة وجدّدها، هو إله أحياء وليس إله أموات. أمّا الموت فنحن أتيناه بخطيئتنا (يوحنّا 1: 4) (رومية6: 23).
اللَّه أتى بالحياة والإنسان أتى بالموت، يهرب الإنسان من اللَّه ليحيا فيصل إلى الموت. ليس الموت بمفهومنا المسيحيّ فناء الجسد وزواله، بل وبتعريف بسيط له: هو كلّ بعد عن اللَّه أو تخلّ واستغناء عنه، وأعظم دليل على هذا هو مثل لعازر والغنيّ. إن انفصلنا عن اللَّه، متنا. إن انفصلت روحنا عن جسدنا، متنا. الانفصال هو «موت»، والموت الحقيقيّ هو الانفصال عن اللَّه
لم ينتظرنا اللَّه لنعود فقط، هو العارف بمدى جهلنا واستسلامنا لأهوائنا التي تبعدنا عنه، بل نزل إلينا ليلاقينا ويعيد اللحمة (فيليبّي 2 : 7)، أخذنا بكلّ نتانتنا ليلبسنا الثوب البهيّ النقيّ. ما علينا إلّا أن نقبل ونقبل، فقط نقبل تواضعه ومحبّته ونصيرها كلّها. أما زلنا نتردّد ونرفض؟ أنرفض الحياة؟
للَّه في هذا كلام آخر أيضًا، هو الأب الحنون، سيبقى يبحث عن أبنائه الضالّين، ويحمل رفضنا له ليغلب الموت فينا ويقيمنا إليه إن أردنا الحياة.
المسيح لم يصالحنا مع الموت، هو غلب الموت، فجّره، فما عاد له وجود.
صالحنا مع ذواتنا عندما أعطانا فرصة أن نعود إلى أصل ما كنّا قد خلقنا عليه.
مع المسيح لا يوجد موت، حياة فقط، حياة فوق حياة.
هذا من سرّ الفداء، وسر الحبّ.
المسيح سحق الخطيئة وانتصر على الألم والمرض والموت...
أنتخيّل أنّ اللَّه المتواضع المحبّ الذي أخلى ذاته وأخذ صورتنا، يكون سببًا في أذيّة أحبّائه؟!
وهل يبقى لنا أن نفكر أنّ الله هو المسؤول عن الظلم؟!
هل هو من حرمنا من عزيز؟!.
هل هو من ينزل بنا مصيبة تلو الأخرى؟! لنبحث عن اللَّه، لنبحث عن الكَشْف.
فنحن لا نعرف اللَّه إلّا عبر كشف ذاته لنا ونحن على قدر ما نستطيع نعرف، بالقلب نعرف، بالذهن نعرف، بالعقل نعرف، نعرف الكائن بالكيان.
كَشْف اللَّه لنا أتى بيسوع المسيح، به عرفنا اللَّه ومنه وفيه، هو اللَّه المتجسّد. بيسوع نعرف ونجيب
كيف تعامل يسوع مع المرض والموت؟! هل أرسل مرضًا لمن أهانه أو نكره أو اضطهده أو رفضه أو أذاه؟؟ ...
هل أمات يسوع شخصًا ما لسبب ما؟ يسوع شفى وعزّى وأقام، يسوع الكلمة المتجسّد، هو اللَّه، هو الأقنوم الثاني.
أتى ليخلّصنا لا ليبلينا ويرسل مصائب وتجارب، بل أخذ كلّ مصائبنا وارتفع بها على صليبه مسمّرًا إيّاها ليخلّصنا منها.
لم يقل يومًا إنّه لن تكون مصائب ونكبات بعد، ولن يكون وجع وبكاء وألم، لم يقل هذا، بل هو بكى وتألّم وأهين (يوحنّا 11: 35) (مرقس 15: 19) (متّى 27: 26) (لوقا 22: 63- 64)
قال لنا: لقد ارتضيت أن آخذ طبيعتكم البشريّة بكلّ ضعفاتها لكي تعرفوا أنّكم، إن شئتم، فبها وعبرها تستطيعون الغلبة على الشرير كما فعلت أنا، كلّ ما يحلّ بكم حلّ بي، ما يصير معكم يصير معي.
أنظروا ماذا يفعلون! آمنوا بأنّي أنا هو. تحمّلوا معي كما تحمّلت لكم. سيصير ضيق ولكنّني الغالب (يوحنّا 16 : 33)
حمل كلّ مصائبنا وآلامنا وميتاتنا وأخذها على صليبه .. ليقيمنا معه.
هذا هو اللَّه، جبّار عندما قُتل ليحيي، غافِر غالِب، مصلوب ينزف حبًّا، محبّ قائم.
صار به ما صار بنا ليصير بنا ما صار به. قام وأقامنا. نحن المعمّدون قائمون مع المسيح عندما قام (رومية 6: 3- 8). لنحمل آلامنا ونضعها معه على الصليب. لنتوكّل عليه فمعه لا نخيب. به العزاء هو الحياة فيه الخلاص.