العدد الأوّل - سنة 2022

13 - خاطرة - «دمّروا الكنائس» - إلياس عادل توما - العدد 1 سنة 2022

لست سوى رجل قد تراه الغالبيّة على حافة الجنون، وهو يصرخ: دمِّروا الكنائس. ما الذي أصاب هذا الرجل؟ وكيف يقوى على التفوّه بتلك العبارة؟ أهي جرأة أم وقاحة؟ حتمًا إنّها وقاحة، لا بل هذه صفاقة! وستسمع وتسمع كلامًا من هذا القبيل مُفعمًا بالإيمان واللاهوت والعُمق الأرثوذكسيّ.

في حقيقة أمري، لست سوى رجل وقف لبضع دقائق أمام يسوع، متأمِّلًا إيّاه على مقعد، وسط ضجيج الصنوج والطبول وأهازيج الفرح، وسط مكان فيه المئات من أقداح الخمر المشروب ابتهاجًا بالعروسين اللطيفين. أنا، لست سوى رجل، وقف يتأمّل يسوع وهو يبتسم ويصفّق ويضحك ويفرح ويهزّ الرأس سرورًا بجبلته، وهي على أعتاب إعادة الخلق بتكوين أسرة وعالم جديدَين.

جلست مستسلمًا لأفكاري، متسائلًا في داخلي: هل تندرج حادثة قانا الجليل تحت بند الأساطير؟ أم أنّها فصل تعليميّ توضيحيّ من حياة يسوع لكشف مشروع الشراكة مع الإنسان؟ أمّا السؤال الأهمّ: لماذا بدأ يسوع أوّل تماسٍ له مع البشريّة على مستوى المعجزات بهذا الحدث وبهذه الظرفيّة المكانيّة؟

يقول جبران خليل جبران: «لم يأتِ المسيح ليعلّم الناس بناء الكنائس الشاهقة بقرب الأكواخ الحقيرة والباردة، بل جاء ليجعل قلب الإنسان هيكلًا ونفسه مذبحًا وعقله كاهنًا».

أمام هذا كلّه وجدت نفسي أصرخ: أعطوني مجرفة لأبدأ بهدم كلّ الكنائس، لا لكي أفسخ عقد الشراكة مع يسوع، حاشى! وإنّما كي أُطلق يسوع في كلّ الأرجاء، يسوع «غير المنظور... وغير المدرك» كما نراه في الليتورجيا التي أنتم تعتنقونها، والتي من حروفها الحيّة نستقي الإجابة لا من الحروف الجامدة.

إنّ قضيّة تعاطينا مع يسوع بحاجة إلى إعادة منهجة وبلورة، بحاجة إلى الحسّ النبيل، فيسوعنا ليس فرضيّة أو نظريّة لنحدّه لا بمكان ولا بزمان، ذلك بأنّه يطوف في كلّ تفاصيل جِبلته حبًّا وجمالًا.

يُختزل كلّ الكلام لمقاربة هذا الموضوع في لفظة «الميل»، الذي هو ذاك الشعور الداخليّ القلبيّ الحسّيّ النابع من لبِنات بُنياننا الطفوليّ وأساسات هيكليّة إيماننا وماهيّة الأرض التي بُني عليها.

نعم! ميلنا يحكم سلوكنا ومقاربتنا للعلاقة مع يسوع. لا، بل ويحكم على يسوع وعلى وجوده، ويحدّه بين جدران نحن بنيناها، وما أبسط حجارة الكنيسة أمام جدران تعصّبنا الذي يأسر يسوع في إطار النظريّة والقوالب، ويجعلنا نقول عن الكنيسة ومرافقها إنّها أمكنة للعبادة والتصوّف لا للفرح والبهجة، فنقبض على البهجة بقبضة الميل المنحرف تجاه دوائر نرسمها نحن ونقعد وسطها، ونمارس حقّنا الباطل في طرح أفكار ورؤى تُكبّل يسوع وتُغيّبه في أماكن أخرى، وعندها، يمسي واقع الحال أليمًا ماقتًا للفرح، ونمسي نحن جوقةً منبوذةً في نظر من يملكون العقل ويعتنقون اللاتعصّب والحبّ سلوكَ حياةٍ ونهجًا للخلاص.

يتكلّم كاتب شابّ اسمه «سامر عوض» عن الفرق بين الحقّ والحقيقة بكلام جميل جدًّا، فيقول في الحقّ إنّه مطابقة القول للواقع وإنّ الحقيقة ثابتة. من هذا المنطلق، نبحث عن حقوقنا ونتناسى حقيقتنا. نبحث عن حقوقنا من منظور عجرفتنا وأنانيّتنا، ونتشدّق بملاحظات وتفصيل قوانين ونظريّات تنهي وتمنع وتأسر وتكبّل، بل وتلفّ أعناقنا بحبال آلهةٍ غريبة لتلقينا في أعماق المحيط حيث لا مخرج. نبحث عن حقوقنا من منظور خللنا النفسيّ المبنيّ على الزاوية التي أطلقنا منها الأحكام على الآخر، والتي جعلت الآخر بعيدًا عن الفكر الكنسيّ والخطّ المستقيم الرأي. وصرنا بذلك غير مدركين أنّ زاويتنا تلك هي أساسًا مشوّهة بخلل كروموزوم الحُبّ الوراثيّ، فبُنياننا الإلهيّ كهياكل للروح يخضع لتركيبة وراثيّة في الحُبّ، لا يدمّرها سوى فعل هوى الحسد والغيرة والإدانة، التي نغرق فيها بفعل شيطان الأنا الذي نصّبناه إمامًا وداعية من دون أن نشعر بذلك.

وما النتيجة إذًا؟ جنينٌ مشوّه ينمو ويكبر ويُمسي أيضًا داعية يضرب أجيالًا بعد أجيال بعواصف اللاحبّ، فيصير يسوع وحيدًا جالسًا في الكنيسة، نُغيّبه عندما نريد في المقهى والمطعم والسوق والعمل والمنزل والمخدع، ونُعلنه إلهًا في الكنيسة وصالاتها على أبعد تقدير. وأمام هذا المشهد يصرخ يسوع باعتصار القلب ووجع الروح تجاه أبنائه، ويتردّد صدى محبّته في كلّ الأرجاء؛ أمّا نحن فنصمّ الآذان عن هذا الصدى وكأنّه ضجيج دنيويّ.

وفيما يجول يسوع وحيدًا بيننا ليلمس أكتاف الكلّ بيمينه الشافية، نُدير نحن ظهورنا متجاهلين ذلك الحبّ المطلق، وواهمين أنفسنا بأنّنا نشعر بوهم اللمسة لا اللمسة ذاتها، وبأنّ الأعجوبة هي أسطورة، وبأنّ الماء بقي ماءً ولم يصر خمرًا البتّة.

وفيما يلوّح يسوع وسط ضجيج الكون المتنامي والمستذئب بصمته الحنون والعطوف والناظر كلّ شيء، نغضّ نحن الطرف ونُبقي الفقير فقيرًا لا شريكًا لنا في الإنسانيّة، ونُبقي نحن الحزين حزينًا لا أخًا في الوجع.

إنَّ يسوع هو هو الألف والياء، به كان كلّ شيء، وبغيره لم يكن شيء ممّا كوّن.

 أمام صراع الأفكار هذه، والعودة إلى داخل النفس، خاطبتُ نفسي من جديد لأقول: «توقّف عن الضياع، وانتبه. قاتل وتمنطق بسيف الحبّ. لا تُحاسب، فيسوعك ما كان يومًا قاضيًا في محكمة، ولا وجود لمنطق القضاء والتقاضي في قاموس حبّه. قف، وافرح وارقص وابتهج وأحبب وتلذّذ، فكلّ شيء مبارك عبر يسوع لا بمعزل عنه. وأنا، بهذه الروح، لن أدمّر الكنائس ولن أقود المجراف باتّجاهها لا خوفًا من الناس ومن الفعل بحدّ ذاته، ولكن لأنّ قصّة الفداء التي هي الحقيقة، والتي تعلو فوق كلّ الحقوق، تروي في فصولها حكاية إنسان هو هو الخالق، وهو هو نفسه الإله الذي احتمل اللطم والبصاق والمسامير والحربة، من دون أن يقترف أيّ ذنب، سوى أنّه أحبّنا حتّى المنتهى، وبذل نفسه وأهرق دمه ليُسكب قربانًا عن جميعنا.

خلاصة الكلام نراها في ما قاله يومًا بولس ملاك حلب المغيّب: «أحبب، فالمحبّة قوّة تأخذك للتمثّل باللَّه».

Loading...
 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search