كيف للكنيسة أن تكون الصوت النبويّ لتدافع عن حقوق الضعفاء في المجتمع؟ ولا تتقوقع في دائرة شؤونها الداخليّة! ما هو دور الكنيسة الأرثوذكسيّة الذي يمكن أن تقوم به في ظلّ مواقف الطوائف الأخرى الرافضة للزواج المدنيّ؟ هل من توافق ما بين الزواج الكنسيّ والزواج المدنيّ؟ هل من أسباب محقّة دينيًّا تقف عائقًا أمام إقرار الزواج المدنيّ في لبنان؟
تنظر الكنيسة اليوم إلى الزواج الحاصل ضمن طقوسها وقوانينها على أنّه «سرّ من أسرار الكنيسة، يتمّ بموجبه اتّحاد رجل وامرأة ليتعاونا على الحياة الزوجيّة وحمل أعباء العائلة وتربية الأولاد، وإن اتّخذ قانونًا صيغة العقد». ومن شروط انعقاد الزواج «أن يكون أحد طالبي الزواج أو كلاهما أرثوذكسيًّا، على ألّا يكون الثاني من دين آخر».
أمّا الزواج المدنيّ فهو العقد القائم بظلّ القوانين المدنيّة التي ترعى عقد الزواج، وكلّ ما ينتج منه من مفاعيل كالطلاق والنفقة والميراث.
موضوع الزواج المدنيّ في لبنان قديم ويتجدّد طرحه كلّ مرّة نشهد عندها قصورًا في الحياة السياسيّة، مردّه إلى تنازع ما أو تدخّل إحدى المرجعيّات الدينيّة على حساب مصلحة لبنان العليا. وبسب ذلك يعتبر الكثيرون أنّ المدخل إلى تحقيق المواطنة الكاملة هو إقرار قانون الزواج المدنيّ. في هذا الإطار، عرضت تسعة مشاريع قوانين على اللجنة النيابيّة اللبنانيّة لدراستها. ولم تمرّ إلى جلسة المناقشة العامّة ولا حتّى مرّة واحدة. ومن أبرز تلك المشاريع ما عرف بمشروع الرئيس إلياس الهرواي العام 1998. كما طرحت صيغتان لقانون مدنيّ يرعى الزواج داخل الأراضي اللبنانيّة: الأولى إلزاميّة أسوة بالدول الأجنبيّة، وأخرى اختياريّة لمن يريد سواء كان الزوجان من الطوائف التي تنعم بنظام خاصّ لأحوالها الشخصيّة، أو كانا من أتباع أديان أخرى أو حتّى لا يؤمنان بوجود اللَّه.
الوضع الحاليّ
هنا علينا أن نشير إلى أنّ النظام الحاليّ للأحوال الشخصيّة في لبنان يعود إلى مرحلة الانتداب الفرنسيّ، وما زال معمولًا به إلى اليوم، وهو ما أقرّه المفوّض السامي دي مارتيل في القرار الشهير الذي يحمل رقم 60 ل/ر. استمرّ الانتداب الفرنسيّ في الخطّ ذاته الذي انتهجه الحكم العثمانيّ في إعطاء الطوائف الكبرى الصلاحيّة الكاملة في كلّ ما يتعلّق بأحوالها الشخصيّة. ومنذ ذلك الوقت أصبح البطريرك هو الباش ملّة. إلّا أنّ قرار سلطة الانتداب عينه لحظ ما بات يعرف بطائفة القانون المدنيّ، إذ ذكر إمكانيّة خضوع اللبنانيّين والسوريّين غير المنتمين إلى إحدى الطوائف الدينيّة أن يخضعوا للقانون المدنيّ . وإلى اليوم لم تصدر السلطة التشريعيّة تفاصيل هذا القانون وطرائق تطبيقه، ما أبقى على المبدأ من دون أن يمدّه بآليّة تنفيذيّة واضحة وكاملة، تواكب كلّ مراحل عقد الزواج وما يستتبعه من آثار أو مفاعيل.
المفارقة القانونيّة أنّ الدولة اللبنانيّة تعترف بجميع عقود الزواج المدنيّة الحاصلة خارج الوطن، وتسمح بتسجيلها قانونًا، ويمكن للمتخاصمين اللجوء إلى القضاء اللبنانيّ والذي عليه تطبيق قانون البلد الذي عقد فيه الزواج. والمحصّلة أنّ القاضي اللبنانيّ يطبّق قوانين الدول جمعاء باسم الشعب اللبنانيّ من دون أن يكون للبنان قانون خاصّ به.
موقف المطران جورج (خضر)
من الزواج المدنيّ.
سيادة المطران جورج (خضر) لا يخجل من نقد المقدّسات والمسلّمات التي يُعتبر الزواج الدينيّ اليوم إحداها. فيقبل بالزواج المدنيّ الاختياريّ صونًا لقدسيّة الزواج الكنسيّ الذي لا يجوز اقتباله شكليًّا من دون اعتقاد داخليّ صريح وعميق. وفي مقالة بعنوان «الزواج المدنيّ» يسرد المطران جورج الأسناد الدينيّة -التاريخيّة الداعمة لفكرة وجود زواج مدنيّ في لبنان لمن يريد إلى ذلك سبيلًا:
1- في بدء المسيحيّة لم يكن من مفرّ لعقد زواج بين مؤمن ووثنيّة لقلّة عدد المسيحيّين.
2- تشكّل طقس خدمة الإكليل في المسيحيّة في القرن السابع.
3- ما تذكره رسائل القدّيس إغناطيوس (117م) أنّ التراضي في الزواج أمام الاسقف مع شريك غير معمّد، كان يتمّ من دون أيّة صيغة احتفاليّة خاصّة.
4- يكتفي الأسقف بمباركة من عقد زواجه أمام السلطات الرومانيّة.
يلخّص المطران جورج إشكاليّة الزواج المدنيّ في لبنان، إذ إنّ «استمرار الأحوال الشخصيّة يقيم فاصلًا بين المسلمين والمسيحيّين على مستوى القانون، أي على المستوى الداخليّ لحكم كلّ منطقة». في كلّ هذا الطرح، لم يتخلّ المطران عن جبّته، وأصّر على أن يتزوّج المسيحيّون في الكنيسة، ولم «يعتقد بقدسيّة الزواج المدنيّ ولو اعتقد بقانونيّته». غير أنّ طرحه الزواج المدنيّ الاختياريّ في لبنان جاء به لينزع عن الطقوس لغة السحر. ففي اليوم الأخير ندرك بالتمام ما إذا اتّحد شخصان وأصبحا يؤلّفان شخصًا واحدًا. والمبتغى الثاني من وراء طرحه يتمثّل بالدفاع عن كلّ من لا يعتقد داخليًّا بدينه، أو أنّ الدولة اللبنانيّة لا تعترف بأحوال شخصيّة خاصّة له بأن ينعم في لبنان بالحرّيّة، وأن يختار الانسجام بين ذاته وقناعاته وطريقة زواجه.
في الكنيسة الأولى ، كان الزواج يتمّ بحسب القانون الرومانيّ السائد وقتها. ونستشفّ من دفاع القدّيس أثيناغوراس الأثينيّ (القرن الثاني) عن المسيحيّين أمام الأمبراطور مرقس أوريليوس، موافقة الشرائع الداخليّة للمسيحيّين بتلك القوانين التي للأمبراطور. والقدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم يربط الزواج الشرعيّ بالعمل بالقانون أو العرف المحلّيّ (القرن الرابع).
الكاهن الذي يخدم الأسرار الإلهيّة يخدم أيضًا سرّ الزواج، لارتباط هذا الأخير بالقدّاس الإلهيّ، حيث كانت خدمة الإكليل كشرطنة الكهنة والمعموديّة تتمّ ضمن القدّاس الإلهيّ. ومن إحدى صور القدّاس الإلهيّ بالنسبة إلى نيقولاوس كاباسيلاس أنّه القدّاس الإلهيّ ذاته «عيد زوجيّ بهج». وعبر تداخل رتبة الزواج بالقدّاس الإلهيّ، غدا الكاهن الذي يقود الجماعة إلى اللَّه هو أيضًا الموظّف الرسميّ الذي يوثّق عقود الزواج.
من عناصر رتبة الزواج والتي يستدلّ منها على أنّها كانت أكثر انفتاحًا على واقع الحياة، وأصبحت مع الوقت تفسّر بشكل ضيّق جدًّا، علامة احتساء العروسين الخمر من كأس واحد. أن يحتسي العروسان الخمر عوضًا من المناولة كان تدبيرًا خاصًّا لحالات عدّة، منها إن كان أحد العروسين غير معمّد، ما يؤكّد فكرة وجود الزواج المختلط حتّى القرن العاشر أقلّه.
النظرة إلى خادم سرّ الزواج، بحسب الكنيستين الكاثوليكيّة والأرثوذكسيّة، ليس سوى متمّم للطقس، إذ إنّ اللَّه نفسه هو من يعقد الزواج ويجمع الزوجين في رباط لا ينفكّ. صفة العهد الزوجيّ تغلب على معناه صفة الأبديّة والديمومة، أمّا صفة العقد فتغلب عليه صفة الوقت المحدّد والوقتيّ. في اليوم الأخير نعلم ما إذا اتّحد الزوجان وأصبحا يؤلّفان جسدًا واحدًا. هذا هو سرّ الزواج في نظر المطران جورج. وأمّا خدمة الإكليل فليست سوى الخطوة الأولى في هذا المشوار الطويل.
الرضى جهارًا مطلوب في كلّ عقد زواج. أمّا في الزواج الأرثوذكسيّ، فيستدلّ عليه ضمنًا من حضور العروسين والمشاركة في صلوات رتبة الزواج، حيث ما زال طابع هذه الرتبة يميل إلى طلب البركة الروحيّة من اللَّه أكثر منه إتمام عقد أمام مرجع مختصّ وبشكل محدّد.
في رسالة المجمع الأنطاكيّ «العائلة فرح الحياة» الصادرة العام 2019، توجّه المجتمعون إلى داخل الكنيسة من أبناء الكرسيّ الأنطاكيّ في الوطن وبلاد الانتشار على السواء، بغية مواجهة التحدّيات التي تواجه العائلة بشكل خاصّ. وفي القسم الأوّل الذي يتطرّق إلى الأسس اللاهوتيّة المتعلّقة بمفهوم الزواج المسيحيّ، نشهد خطابًا روحيًّا يسمح للمؤمن الملتزم بتعاليم الكنيسة بأن يقارب زواجه كطريق للاتّحاد بالمسيح وبأنّ العائلة «كنيسة صغيرة». لم تعالج الرسالة قضيّة الزواج المدنيّ أو مشاكل المجتمع بشكله الواسع الذي يتخطّى المظهر الاجتماعيّ للكنيسة الأرثوذكسيّة. ولم تسدِ النصائح لمن هم في بلاد الانتشار حيث الزواج المدنيّ إلزاميّ، ما يوحي بالتزام المجتمعين الأوضاع السائدة في الأبرشيّات، وأنّ جل اهتمامهم هو النهوض بأبناء الأبرشيّة روحيًّا عبر تذكيرهم بمسلّمات الإيمان الأساسيّة.
ما هو خطاب الكنيسة الأرثوذكسيّة في البلاد حيث الزواج المدنيّ إلزاميّ؟
بالعودة إلى رسالة الكنيسة الأرثوذكسيّة في أميركا والتابعة للبطريركيّة المسكونيّة، حيث الزواج المدنيّ إلزاميّ للجميع، نراها لا تثير صوابيّة الزواج المدنيّ أو تحرّض على رفضه، إذ هو واقع بحكم قوّة القانون. الكنيسة عبر رسالتها «من أجل حياة العالم» تضع المسؤوليّة لا على الأفراد وإنّما على الكنيسة في مواكبة المتزوّجين ليكتشفوا البعد الأسراريّ للحياة الزوجيّة.
نعم، اللَّه لا يسود العقد المدنيّ والعالم الذي نحيا فيه اليوم يعاني نقص سيادة اللَّه على أمور الحياة، ولكن هل بالإمكان فرض اللَّه على من لا يريدونه، فنظهر مدافعين عن وجود اللَّه أكثر من اللَّه نفسه!