العدد الرابع - سنة 2021

05 - دراسة كتابيّة - يسوع أمام بيلاطس وهيرودوس - الأب ميخائيل (الدبس) - العدد 4 سنة 2021

أ - يسوع أمام بيلاطس. لوقا 23: 1– 7

1– 2: «ثمّ قام الحضور بأجمعهم ومضوا به إلى بيلاطس وأخذوا يتّهمونه قائلين: تبيّن لنا أنّ هذا الرجل يفتن أمّتنا ويحظر عليها أداء الجزية إلى قيصر ويزعم أنّه المسيح الملك».

من المعلوم أنّ حكم مجلس اليهود لا قيمة له من دون موافقة الحاكم الرومانيّ، بخاصّة إذا كان حكمًا بالموت. كما أنّ التهمة الموجّهة إلى يسوع المُساق أمام هذا الحاكم على أنّه يجدّف باعتبار ذاته ابن اللَّه، لا يمكن أن يُبنى عليها لإصدار حكم ضدّ يسوع. لذا من الضروريّ تلفيق تهمة سياسيّة له. فكانت التهمة بأنّه «يفتّت أمّتنا ويحظر عليها أداء الجزية لقيصر ويزعم أنّه المسيح الملك». يُتّهم بأنّه متمرّد شديد الخطورة سياسيًّا يضمر العداوة للسلطات الرومانيّة وتحديدًا يشكّل تهديدًا لقيصر لكونه ملكًا. تقود هذه التهم، تلقائيًّا إلى تصنيفه من بين الغُيُر zylotai لكون المنتمين إلى هذا الحزب السياسيّ – العسكريّ يَدعون إلى طرد الرومان وإقامةِ مُلْكٍ يهوديّ. من أنشطتهم منع اليهود من دفع الضرائب للرومان. لا تمتّ هذه التهمة للحقيقة بصلة، لأنّ يسوع لم يعطِ هذا الانطباع عندما سُئِل عن رأيه في دفع الضريبة لقيصر (لوقا 20، 21 ...). تفرّد لوقا عن باقي الإنجيليّين بذكر هذه التهمة بهدف إبراز واقعةٍ مهمّة كانت سائدة في زمن كتابة إنجيله، وهي أنّ موقف السلطات الرومانيّة ضدّ المسيحيّين في زمن الكنيسة الأولى بُنِيَ على تهمٍ يهوديّة كاذبة. لكنّ يسوع اعتُبِرَ بريئًا من هذه التهمة عند كلّ من بيلاطس، كممثّل للسلطة الرومانيّة، وعند هيرودوس أنتيباس ذي المكانة المرموقة لدى الأمبراطور طيباريوس في روما.

3: فسأله بيلاطس قائلًا: «أأنت ملك اليهود؟» فأجاب قائلًا له: «أنت تقول هذا». يسأله بيلاطس مباشرةً بعد توجيه هذه التهمة إلى يسوع، أأنت ملك اليهود؟ يعتبر بعض المفسّرين أنّ بيلاطس، بما عُرف عن موقفه تجاه اليهود وتجاه ديانتهم (راجع مقالة الكاتب في العدد 1-2021 «بيلاطس وهيرودوس»)، كان يستهزئ بالمعتقدات اليهوديّة المسيانيّة فاعتبر هذا الموقف فرصةً مناسبةً للتهكّم. جواب يسوع: «أنت تقول هذا» يحملُ وجهَيْن، وجهًا يؤكّد فيه يسوع هذه الصفة المُعطاة له ووجهًا آخر يتملّص يسوع فيه من تأكيد هذه الصفة: أنا لم أقل هذا بل أنت تقول، أنت صاحب السلطة والقول. ويمكن تفسير جواب يسوع رفضًا لهذا اللقب، وهذا ما يفسّر غياب ردّ الفعل السلبيّ من طرف بيلاطس مقابل هذا الجواب. يُلقي جواب يسوع، بحسب إنجيل يوحنّا (18، 36) «إنّ مملكتي ليست من هذا العالم»، الضوء على المعنى الحقيقيّ لهذا الجواب. بحسب يوحنّا يشير جواب يسوع إلى الصفة اللادنيويّة لمُلْك المسيح بمعنى أنّ يسوع يوافق بيلاطس وفي الوقت عينه يخالفه: هو، من جهة، ملكٌ لكن، من جهة أخرى، مملكته لا علاقة لها بما تتضمّنه هذه العبارة عند الرومان.

4– 5: «فقال بيلاطس للأحبار والجموع: لا أجد ما يجرّم هذا الرجل فلجّوا في قولهم: إنّه يثير الشعب بتعليمه في جميع اليهوديّة، من الجليل إلى ههنا». بعد ذلك يعلن بيلاطس براءة يسوع في وجه اليهود الذين يصرّون على إدانته بتهمة تحريض الشعب بتعليمه بدءًا من الجليل إلى ههنا. الواضح أنّ الرئاسات اليهوديّة التي، كما هو معروف، كانت تتعاون مع الحكّام الرومان، أرادت أن تقنع بيلاطس بأنّ هذا الجليليّ (يسوع) يحرّض الشعب على التمرّد ضدّهم. وللرومان خبرة مريرة بالحركات الثوريّة التي كانت تنطلق من الجليل الثائر.

6– 7: «فسأل بيلاطس عند ذلك: هل هذا الرجل جليليّ؟ فلمّا عرف أنّه من ولاية هيرودوس بعث به إليه وهو يومئذٍ نازل في أورشليم». عند سماع بيلاطس، ذي النفوذ المتراجع في روما، عبارة «الجليل» قرّر إرساله إلى هيرودوس أنتيباس، حاكم الجليل المقرّب من روما، والموجود عادةً، خلال موسم الفصح، في أورشليم (راجع المقالة عينها للكاتب)، وتحديدًا بعد التهديدات التي وجّهها إليه رؤساء اليهود بأنّه ليس صديقًا لقيصر لكونه يتغاضى عن تجريم شخص يدّعي أنّه ملك.

ب - يسوع أمام هيرودوس لوقا 23:  8- 12

8: «فلمّا رأى هيرودوس يسوعَ سُرَّ سرورًا عظيمًا، لأنّه كان يتمنّى من زمنٍ بعيد أن يراه لِما يسمع عنه ويرجو أن يشهد آيةً يأتي بها». هو هيرودوس أنتيباس ابن هيرودوس الكبير وأمير الربع على الجليل (راجع المقالة عينها للكاتب). بحسب رواية لوقا يفرح هيرودوس عند مثول يسوع أمامه لا لأنّه متشوّق إلى سماع بشارته، بل لأنّه كان يرغب في رؤية معجزة من معجزاته. لكنّ يسوع لم يتجاوب مع رغبته المشهديّة وفضوله الاستعراضيّ بل بقي صامتًا بالكلّيّة تجاه أسئلته. ولا بدّ من أن نذكر مجدّدًا أنّ يسوع نعته بالثعلب عندما قال له بعض الفرّيسيّين إنّ هيرودوس يريد أن يقتله (لوقا 13: 31– 32).

9: «فسأله مسائل كثيرة فلم يجبه عن شيء». هناك حالات يكون فيه الصمت أكثر بيانًا من الكلام يكفي أن يحدّد المرء متى وأين يصمت أو يتكلّم. تكلّم يوحنّا المعمدان وأنّب هيرودوس عندما رأى أنّ الظرف يقتضي ذلك. يسوع هنا يصمت لأنّ ليس عنده ما يقول، وهو ماضٍ إلى الآلام طوعًا، أمام نيّات هذا الحاكم الذي سبق ونعته بالثعلب. يذكّرنا صمت يسوع بنبوءة أشعياء: «قدِّم وهو خاضع ولم يفتح فاه، كشاةٍ سيق إلى الذبح وكحملٍ صامتٍ أمام الذين يجزّونه ولم يفتح فاه» (أشعياء 53، 7). أمام افتراءات رؤساء الكهنة وأمام صمت يسوع هَزِئ هيرودوس وجنودُه بيسوع الذي وقف صامتًا تجاههم متقبّلًا طوعًا هذا الهزء.

10– 11: «فقام الأحبار والكتبة يتّهمونه مشدّدين عليه. فازدراه هيرودوس وجنوده وسخر منه فألبسه ثوبًا برّاقًا، وردّه إلى بيلاطس». ارتبط هذا الهزء بالصفة الملوكيّة التي، بحسب اليهود، نُسِبَتْ إلى يسوع. هذا واضح «بالثوب البرّاق» الذي ألبسه هيرودوس له. موقف هيرودوس الهزئيّ هذا هو ذروة الهزء بيسوع كملك، لأنّ اللباس البرّاق كان حصرًا للملوك.

يشير هزء هيرودوس من يسوع إلى أنّ الأوّل لم يعتبر الأخير مذنبًا، بل حالِمًا خطرًا على نفسه ولا يشكّل أيّ تهديد للأمن والاستقرار، اللذين كانا دومًا مسؤوليّة كلّ حاكم تجاه روما. بهذا اللباس أرسل أميرُ الربع يسوعَ إلى بيلاطس مجدّدًا وسُوِّيَت بعد ذلك الخلافات بين الحاكمَين.

12: «وتصافى هيرودوس وبيلاطس يومئذٍ وكانا قبلًا متعادِيَيْن». يبدو أنّ بيلاطس كان قد تعدّى على صلاحيّات هيرودوس عندما ذبح عددًا من الجليليّين (لوقا 13، 1)، فاسترجع عبر إرسال يسوع الجليليّ إلى هيرودوس علاقاتِه مع الأخير المقرّب من الأمبراطور طيباريوس. هدف لوقا من ذكر هذه الرواية هو التشدّد على أنّ الحاكمَين أقرّا ببراءة يسوع وبأنّ التُّهم الموجَّهة إليه واهية. هذا ما تؤكّده رواية متّى (27، 19، 24 – 25) حول حلم زوجة بيلاطس وغسل الأخير يدَيه أمام الجمع. نشد الإنجيليّون من وراء تركيزهم على مسؤوليّة اليهود عن الحكم على يسوع بالموت أهدافًا دفاعيّة: وحدها افتراءات اليهود كانت وراء الموقف العدائيّ الذي اتّخذته السلطات الرومانيّة في الكنيسة الأولى من المسيحيّة التي اعتُبر مؤسّسُها بريئًا من جهة الحكّام الرومان حينها. هذا ما أراده الإنجيليّون في تعاملهم مع الرومان. أمّا تجاه اليهود فلم تكن مواقفهم عدائيّة بل كانت غايتهم تبشيريّة، هم يدعونهم إلى التوبة والإيمان ببشارة المسيح لأنّ ما فعلوه فعلوه عن جهل (راجع العظات الأولى للرسل في أعمال 2: 38 + 3: 17– 19 + 17: 30 وغيرها). هنا نعود ونشدّد على أنّ الإنجيليّين ما كانوا مؤرّخين بل رجالَ وحيٍ هدفهم تبشيريّ، تعليميّ ودفاعيّ.

ج - حكم بيلاطس (لوقا 23– 13– 25)

13– 15: فدعا بيلاطس الأحبار والرؤساء والشعب وقال لهم: «أحضرتم لديّ هذا الرجل على أنّه يفتن الشعب وقد فحصت عن الأمر بمحضر منكم، فلم يثبت لديّ أنّ هذا الرجل اقترف شيئًا ممّا تتّهمونه به، ولا هيرودوس ثبت لديه مثل ذلك، لأنّه ردّه إلينا، فهو إذًا لم يقترف ما يستوجب به الموت».

بعد عودة يسوع من عند هيرودوس، يعود بيلاطس ليعترف مجدّدًا بعدم وجود أساس لمجمل التّهم الموجَّهة إلى يسوع (الآية 15 و22) داعمًا موقفه بموقف هيرودوس. في محاولة منه لإطلاق يسوع يقترح على اليهود، حسب عادة سائدة حينها، أن يطلق لهم، لمناسبة عيد الفصح أحد السجناء، فخيَّرهم بين يسوع وباراباس.

16– 25: «فسأطلقه بعدما أجلده، فصاحوا بأجمعهم: اقتل هذا وأطلق لنا باراباس. وكان الأخير قد وضع في السجن لفتنةٍ حدثت في المدينة وجريمةِ قتل. فخاطبهم بيلاطس ثانية لرغبته في إطلاق يسوع. فصاحوا: اصلبه، اصلبه. فقال لهم ثالثة: أيّة جريمة اقترف هذا الرجل؟ لم أجد عليه ما يستوجب به الموت، فسأطلقه بعدما أجلده. فألحّوا عليه بأعلى أصواتهم طالبين أن يصلب واشتدّ ضجيجهم. فقضى بيلاطس بإجابة طلبهم. فأطلق من كان في السجن لفتنة وقتل، ذاك الذي طلبوه، وأسلم يسوع إلى مشيئة أهوائهم».

بتحريض من رؤساء اليهود، يختار الشعب إطلاق باراباس الذي كان متَّهمًا بتمرّدٍ سياسيّ وجريمةِ قتلٍ. ينعته يوحنّا الإنجيليّ «باللصّ» (18: 40) وهذه صفة كانت تُلصَق بأعضاء حزب الغُيُر. بعد تكرار اقتراحه بإطلاق يسوع، يواجه بيلاطس الجموع عبر صراخهم: اصلبه (الآية 20). بعد اعترافه الثالث (الآية 22) ببراءة يسوع يزداد صراخ الجمهور ورؤساءِ الكهنة ويطالبون بصلبه (الآية 23) وأمام إصرار اليهود الشديد على صلب يسوع يطلق باراباس ويُسْلِمُهم يسوع «إلى مشيئة أهوائهم» (الآية 25). ورُبّ سائلٍ، من جهة كيف أنّ الشعب الذي كان رؤساءُ اليهود يتجنّبون غضبه في حال ألقوا القبض على يسوع أمامه (22: 6)، يطلب الآن صلبه؟ ومن جهة أخرى، لماذا يظهر بيلاطس هذا التعاطف مع يسوع؟

1) في ما خصّ التساؤل الأوّل لا بدّ من وجود احتمالَين، الأوّل، أنّ الجمهور الذي كان يصرخ أمام بيلاطس اصلبه هو غير الجمهور الذي كان الرؤساء يخشَون غضبَه في حال اعتقال يسوع علنًا أمامه، جمهورٌ حشده رؤساء الكهنة لتلبية رغبتهم في قتل يسوع. والاحتمال الثاني، أنّ هذا الجمهور تحوّل من التعاطف إلى العداء ليسوع بتأثيرٍ من الرؤساء الدينيّين أو بسبب عدم تلبية يسوع لرغائبهم المسيانيّة بإنشاء مُلكٍ أرضيّ لهم يحرّرهم من الاحتلال الرومانيّ.

2) في ما خصّ التساؤل الثاني المرتبط بتعاطف بيلاطس مع يسوع، فالإجابة عنه أكثر صعوبة. بيلاطس معروف بقساوته ولا إنسانيّته (راجع المقالة عينها للكاتب). البعض يجيب بأنّ بيلاطس أُعْجِبَ بشخص يسوع وانجذب إليه. في كتب الأبوكريفا يعتبر بيلاطس بَطلًا وشاهدًا للمسيح. الأقباط يكرّمونه كشهيد، إضافةً إلى أنّ كنيستنا تكرّم زوجته بروكلا كقدّيسة وتعيّد لها يوم 27 تشرين الأوّل. من منظارٍ تاريخيّ يُفَسَّرُ موقفُ بيلاطس انطلاقًا من كرهه لليهود، فكانت حالة يسوع المُسَلَّم إليه من طرفهم فرصةً له ليهزأ برجائهم المسيانيّ في شخص هذا «المعلّم» البريء سياسيًّا وغير الخطير ويرفض طلبهم. لكنّه تراجع أخيرًا وأسلمه لهم لأنّ منطقه النفعيّ الأنانيّ غلب كرهه لليهود. فالتهديدات التي وُجّهَت إليه أثناء محاكمة يسوع، بأنّه إذا أبرأ يسوع يُعتبر خائنًا لقيصر (يوحنّا 19: 12)، فعلت فعلَها. فمصلحته المستقبليّة والسياسيّة تقضي بتسليم المعلّم المُتَّهَم ظلمًا وإطلاق المجرم الحقيقيّ باراباس. كما أنّ الحكم على بريء لن يشكّل له أزمة ضميرٍ، إذ إنّ فعله هذا لم يكن سابقةً وحيدةً في تاريخ حياته السياسيّة.

لا بدّ من أن نشير، أخيرًا إلى أنّ الإنجيليّين لم يهتمّوا بتحليلٍ نفسيّ للأشخاص الذين كان لهم دورٌ في أحداث المحاكمة والآلام، ولا بدقّة الوقائع التاريخيّة بحدّ ذاتها ولا بتفسير سلوك هؤلاء الأشخاص. همّهم إبراز التبعات الخلاصيّة لآلام الربّ في إطارٍ تاريخيٍّ، لا يمكن تجنُّب ذِكره، تحقّقت ضمنه الإرادة الإلهيّة.

Loading...
 

 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search