العدد الرابع - سنة 2021

13 - الإيمان على دروب العصر - المرافقة في الجماعة الإفخارستيّة - د. جورج معلولي - العدد 4 سنة 2021

المخاض:

إذا كانت الحياة المسيحيّة طريقًا  كما يسمّيها سفر أعمال الرسل، فالمرافقة مخاض يرافق مخاضًا. «أَنَا غَرَسْتُ وَأَبُلُّوسُ سَقَى، لكِنَّ اللَّهَ كَانَ يُنْمِي»، (ا كورنثوس 3: 6). يصف بولس الرسول هذه المسيرة بقوله: «يَا أَطْفَالِي الَّذِينَ أَتَمَخَّضُ بِكُمْ مَرَّةً أُخْرَى إِلَى أَنْ تَتَشَكَّلَ فِيكُمْ صُورَةُ الْمَسِيحِ» (غلاطية 4: 19). ويعلّق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم بما معناه: «الآلام الجسديّة تكون لفترة محدّدة ثمّ تتوقّف، وذلك عندما ينزلق الطفل خارج الرحم. أمّا الولادة الروحيّة فعلى العكس تستغرق شهورًا كاملة. بولس حَبلَ مرّات عديدة لمدّة عام كامل ولم يلد أولئك الذين حبل بهم. في الولادة الجسديّة، نجد أنّ الألم ألم الجسد، أمّا في الولادة الروحيّة فنجد أنّ الآلام لا تعذّب الرحم، بل تمزّق قوّة النفس ذاتها تمزيقًا. ولكي تتعلّموا أنّ هذه الأتعاب أكثر حدَّة. أتساءل: من صلّى من قبل بدافع عطفه على خلاص أولاده الذين ولدهم بشأن استعداده لأن يتحمّل الجحيم من أجلهم؟ إلّا أنّ بولس لم يكتف فقط بطلب ذلك (تحمّل الجحيم)، بل صلّى أن يكون محرومًا من المسيح لكي يجعل من اليهود أولاده، ولم يتوقّف إطلاقًا عن التألّم من أجلهم». ولادة الأشخاص ونموّهم في الجماعة الإفخارستيّة يحضنهما المؤمنون في حياتهم في المسيح في أدوار متعددة تتخلّلها المرافقة أو تتقاطع معها كالتعليم والبشارة ومهامّ العرّاب قبل المعموديّة وبعدها والرعاية والأبوّة الروحيّة والأخوّة بكامل جوانبها الحياتيّة.

البحث والسفر واللقاءات المحوّلة: تدبير الروح القدس

يبدو السائرون في هذه الطريق حجّاجًا يسافرون إلى اللَّه ويجدونه لأنّه قد وجدهم أوّلًا. يظهر المرافِق هنا فرصة أو إشارة في مسيرة المرافَق  أو قل إنّه سائح غريب يمتدّ إلى الأمام ويفتح آفاق التلميذ على ما يتجاوزهما. هو برق أو شرارة توقظ في المرافَق عطشه إلى الطريق. النموذج بامتياز هو المسيح القائم الذي يظهر لبرهة ثمّ يختفي أمام التلاميذ ليفتح أعينهم على الرؤية الأخرى. يتّخذ يسوع في حادثة تلميذي عمواس اسم «الغريب»: «هَلْ أَنْتَ غريب وَحْدَكَ فِي أُورُشَلِيمَ وَلَمْ تَعْلَمِ الأُمُورَ الَّتِي حَدَثَتْ فِيهَا فِي هذِهِ الأَيَّامِ؟» (لوقا 24: 18). هذا حوار بين السائرين في الطريق والمرافق الغريب. نموذج المرافق الغريب نجده أيضًا في لقاء يدبّره الروح القدس بين فيلبّس وخصيّ الحبشة: «وَكَلَّمَ مَلاكٌ مِنْ عِندِ الربِّ فِيلِبُّسَ فَقالَ: قُمْ وَاذْهَبْ جَنُوبًا إلَى الطَّرِيقِ الصَّحراوِيَّةِ النّازِلَةِ مِنَ القُدسِ إلَى غَزَّةَ. فَاسْتَعَدَّ وَذَهَبَ. وَكانَ هُناكَ رَجُلٌ حَبَشِيٌّ... وَكانَ فِي طَرِيقِ عَودَتِهِ جالِسًا فِي عَرَبَتِهِ يَقرَأُ كِتابَ النَّبِيِّ إشَعْياءَ... فَقالَ الرُّوحُ لِفِيلِبُّسَ: «إذْهَبْ إلَى تِلكَ العَرَبَةِ وَلازِمها. عِندَما رَكَضَ فِيلِبُّسُ إلَى العَرَبَةِ، سَمِعَ الرَّجُلَ يَقرَأُ كِتابَ النَّبِيِّ إشَعْياءَ. فَقالَ لَهُ فِيلِبُّسُ: أتَفهَمُ ما تَقرَأُهُ؟ فَقالَ: وَكَيفَ يُمكِنُنِي أنْ أفهَمَ إنْ لَمْ يُفَسِّرْهُ لِي أحَدٌ؟ وَدَعا فِيلِبُّسَ أنْ يَصْعَدَ وَيَجلِسَ مَعَهُ» (أعمال 8). يتزامن البحث الداخليّ مع اللقاء الخارجيّ وتنفتح الطريق ببلاغة ترسم خطوطها السماء. شرط المرافقة الأوّل أن يضع المرافِق نفسه في وضعيّة المصغي إلى البحث الداخليّ الذي يتبرعم في نفس المرافَق.

المرافقة المتمركزة حول الشخص:

١- يمكن لكل شخص أن يقوم بالتعلّم والتحوّل إذا وضع في المناخ المناسب (مناخ مريح، آمن، مساند، مرافق لخطوات التحوّل). احترام فرادة الأشخاص، وتنوّع إيقاعاتهم، ومسؤوليّتهم الشخصيّة عنصر أوّل في هذه المسيرة. فإذا كانت المرافقة حسّاسة لهذا البحث الداخليّ فالطريق ممكنة. ربّما يواجه المتعلّم إشكاليّة تعني له شخصيًّا (أي هي ذات قيمة بالنسبة إليه) وحاول التعاطي معها من دون أن ينجح كلّيًّا. هو إذّا في حالة استعداد للتعلّم (والتحوّل) لكنّه ربّما في قلق أو خوف ممّا سيكتشفه (أو من التغيّر الذي يمكن أن يحصل له). هذا هو بدء الطريق.

٢- أن يكون المرافق صادقًا، شفّافًا، أهلًا للثقة، متقبّلًا لنفسه (يعرف نفسه) هو المكوّن الثاني لهذه المسيرة. فالمرافق لا «يمثّل» دورًا ما ولا يلبس الأقنعة في إتمام دوره. كلّما نقص هذا المكوّن (الصدق)، كلّما تضاءلت فرص التعلّم أو التغيّر عند المتعلّم. إذا أحسّ المتعلّم أنّ كلام المرافِق مجرّد «واجهة» أو «ترداد غير شخصيّ» أو كلام مصطنع، يصبح المتعلّم حذرًا أو مرتابًا وغير قابل للانفتاح والتعلّم والتغيّر.

٣- النظرة الإيجابيّة غير المشروطة مكوّن ثالث في طريق المرافقة. أن يختبر المرافِق علاقة عناية واهتمام تجاه المتعلّم، أي عناية مجّانيّة ومحبّة غير متملّكة لا تطلب مكافأة شخصيّة ولا شروط استحقاق، يفتح للبراعم الفرصة لتزهر. يتقبّل المرافِق ما يختبره المتعلّم (ويعبّر عنه) من أفكار أو مشاعر (سلبيّة أو إيجابيّة: غضب، خوف، ضجر، حماس) بحيث يحقّ للمتعلّم أن يشعر ويفكّر كشخص مختلف في مسيرة بحثه. إذا أمّن المرافِق هذا المناخ من الأمان، يرتفع احتمال التعلّم والتغيّر (أي التوبة) عند المتعلّم. ذلك بأنّ «الإنسان في حركيّة دائمة وأنا أساهم في حركته إلى الخير... بقدر ما أحبّ الخاطئ يتبدّل ويتوب. أن أراه يذهب إلى المثال الإلهيّ هو ضمن تعاملي وإيّاه» على ما يشرح المطران جورج خضر. و«قاطف العنب النبيه يأكل البالغ منه ولا يكترث بالحصرم... أمّا العادم الفطنة فيفحص عن المذمّات والنقائص» (القدّيس يوحنّا السلّميّ، سلّم الفضائل). النظرة الإيجابيّة غير المشروطة هي غياب تامّ للحكم على الآخر وقبول الإنسان كما هو، خلف أقنعته أو الصور التي نسقطها عليه. تتّجه حركة القبول هذه إلى الشخص نفسه في كيانه الذاتيّ القابل للتحوّل متجاوزة أفعاله الآنيّة التي ربّما لا نوافق عليها. ليس هذا قبولًا انتقائيًّا بل هو قبول مجّانيّ حرّ من الأفكار المسبقة والخلفيّات من المشاعر والأحكام. الأحكام لا تشجّع على نموّ الشخصيّة ولا تشكّل جزءًا من علاقة المرافقة الناجحة. ذلك بأنّ الهدف أن يصل الإنسان إلى الإدراك أنّ مركز المسؤوليّة قائم في شخصه وليس في شخص المرافق.

٤- التعاطف هو المكوّن الرابع. هو أن يضع المرافق نفسه مكان المتعلّم كأنّه يشعر بعالم المتعلّم الخاصّ: أن يتحسّس المرافق خوف المتعلّم وارتباكه وضياعه من دون أن يكون المرافِق خائفًا ومرتبكًا وضائعًا. وهذا لا بدّ من أن يبدو في صوت المرافق وحركاته. تقع ملاحظات المرافق في موقعها المناسب من محتوى كلام المتعلّم وحالته. هذه كفاءة تجسّديّة بامتياز. يمكّننا التعاطف من ولوج كون الآخر الداخليّ  لدرجة نفقد فيها كلّ رغبة في الحكم. الفهم العميق لحياة الآخر وجراحاته ومعاناته (التي تنتج منها سلوكيّاته السلبيّة الدفاعيّة والعدائيّة) يدخلنا في احتكاك حقيقيّ مع شخصه يُسقط الأقنعة ويسهل علينا النفاذ إلى جمال صورته الأولى.

٥- إن اختبر المرافَق هذه المكوّنات بطريقة ثابتة طـويـلـة الأمد تـتفتّح إمكاناته ومواهبه والأنوار الكامنة في نفسه، ويبدأ مسيرة الشفاء والنموّ في المسيح. 

الطريق سير لا ينتهي

تجد الطريق الباحث عنها فتصبح الدعوة قوّة جاذبة له وهدفًا. هذه عناية إلهيّة وتدبير: إنّنا نجد الطريق لأنّ اللَّه سبق فرآنا ووجدنا. فيظهر وجودنا لغزًا واتّجاهًا ومعنى: هو لغز لأنّ الطريق لا تنكشف إلّا خلال السير فيها. وترسل لنا العناية الإلهيّة أشخاصًا يسهّلون لنا السير في الطريق ويرافقوننا إلى أن ينبلج في نفوسنا النور الذي لا يغرب.

Loading...
 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search