العدد الرابع - سنة 2021

14 - خاطرة - اللطف الخفيّ - وسيم ميلاد وهبة - العدد 4 سنة 2021

في تجوالي داخل أروقة الأدب الصوفيّ وقعت عيناي على تعبير لابن الفارض، المتصوّف الكبير، يصف فيه اللَّه قائلًا إنّه اللطف الخفيّ.

توقّفت عند هذا التعبير لأنّ فيه اختصارًا لصفات اللَّه الكثيرة. اللطف ميزة إلهيّة منحها اللَّه لخلقه لكي يبقى هو فيهم، إذا شاؤوا. لأنّ اللطفَ هو عكس الشرّ، بل هو الخير بعينه.

اللطيف هو الكريم الجوّاد، هو المعين للمحتاج، هو المداوي للجراح على اختلافها. اللطيف بتعبير آخر هو من لا يؤذي أحدًا.

اللَّه مثال اللطف بالقول والفعل. كلّ تمنّيه أن نكون، نحن خليقتَه، على هذا اللطف، لتنقلب الدنيا إلى ملكوت الآن وهنا. ألعلّنا بعيدون عن هذا اللطف حتّى انتهينا إلى ما نحن عليه من بشاعة طاغية؟

اللَّه غير منظور، لذلك فإنّ لطفه خفيّ، ساكن في الانتظار والترقّب، وهو وحده يعرف الأزمنة والأوقاتَ والظروف، لكي يظهر وينجلي. وسرّ اللَّه أنّه يكشف لطفه الخفيّ عبرَنا، نحن البشرَ الضعفاء، لكي نكون أداته الخيّرة، التي توزّع اللطف، بأنواعه، على كلّ الخليقة المنتظرة رحمته.

سرّ اللَّه وعظمته جعلهما فينا، في قلوبنا التي تتلقّف لطفه، ولا تحجزه، بل تغرسه في بقاعٍ خصيبة ليتوزّع على كلّ الناس. لطف اللَّه الخفيّ هو نحن.

هذا التعبير الصوفيّ من الممكن أن يكون مدخلًا لنا إلى هذا الأدب الغنيّ بالجمال والإيمان الصافي، الذي يشتهي عبره المتصوّف الاتّحاد باللَّه والذي يعبّر فيه عن مبادئ سامية تتلخّص بتعريف التصوّف بأنّه ألّا يملك الإنسان شيئًا وألّا يملكه شيء. يرتقي المتصوّف بهذا كلّه إلى أن يستبدّ به الوجد ويبلغ مقام الفناء وفيه تتعطّل الحواسّ ويفنى الإنسان ويبقى اللَّه.

نحن المسيحيّين، نعيش في مرتبة راقية من مراتب الحبّ الإلهيّ، إذ نحن على اتّحاد دائم باللَّه، يتمّ في كلّ خدمة مباركة، في كلّ قدّاس إلهيّ وذبيحة إلهيّة، نتناول خلالها جسد الربّ ودمه. وفي هذه الأسرار اتّحاد عظيمٌ وجدّيٌّ يختبره كلّ مؤمن يعي أنّ اتّحاد اللَّه بالبشر قد حصل منذ التجسّد والصلب والقيامة، ويحصل خيرَ حصول، في كلّ ذبيحة إلهيّة، في كلّ قربان وخمر يستحيلان جسدًا ليسوع ودمًا له.

ومن أسمى وجوه التعبير عن الحبّ والعشق الإلهيّ في كنيستنا، تبنّينا سفر نشيد الأنشاد في كتاب العهد القديم، وفيه دفقٌ من الرموز الأخّاذة التي تحكي عن توقنا إلى هذه العلاقة الحميمة مع الخالق.

فيه يحدّثنا الوحي عن أعمق ما في حياتنا الروحيّة، أي اتّحاد الحبّ الروحيّ السرّيّ باللَّه، ويستعير ألفاظنا البشريّة في دلائل الحبّ بين العروسين، لا لنفهم علاقتنا به على مستوى الحبّ الجسداني، وإنّما كرموز تحمل في أعماقها أسرار حبٍّ لا يُنطق بها.

هذا الأمر ليس بغريب، فقد استخدمته كلّ الأمم في الحديث عن العشق الإلهيّ والهيام في محبّة اللَّه... حينما تعلن النفس رغبتها في أن ترتمي في أحضان اللَّه لتحيا به ومعه وحده، ليُشبع كلَّ أعماقها. حينما نتحدّث عن السُّكر الصاحي الذي نبلغ إليه وفيه نُقيم وهي أويقات الغياب عن كلّ شيء إلّا اللَّه.

هذا الاتّحاد أيضًا مسيرة طويلة تبدأ وتنتهي بسلوكٍ واستقامة فكريّة مستدامة.

وفي هذه المسيرة تكسير للخوف الذي يتغلغل في أعماق أعماقنا. إذا كان الخوف حالة نعيشها إبّان مشاكل وهموم تعترينا، فتراكم حالات الخوف المتكاثرة جدًّا ينتهي بنا إلى العيش مع القلق، لنصير أسرى عدم الأمان.

الخوف يقصّر قدرة الإنسان على الإبداع والإنتاج.

وفي المقابل يأتي الإيمان بدعوة جدّيّة وعميقة إلى التخلّي عن الخوف لكي ننتهي إلى صبوتنا. فالحبّ على اختلاف أشكاله يكره الخوف ولا يتعايش معه. فحيث يعشعش الخوف، ينتفي الحبّ. لذلك يتجلّى نبذ الخوف في الإيمان أيضًا عبر كلام الربّ لأنبيائه منذ بدء الأيّام حتّى تحقيق الوعد بالمسيح الذي قال «لا تخافوا ها أنا معكم إلى انقضاء الدهر». وبين دفّتي الكتاب المقدّس تكثر وتتكرّر العبارة التي توصي بعدم الخوف: «لا تخف». ويصحب هذه العبارة دائمًا تبريرٌ لعدم الخوف واحدٌ، معناه أنّ اللَّه موجود، ووجوده يكفي كيلا نخاف من شيء على الإطلاق.

«وَالرَّبُّ سَائِرٌ أَمَامَكَ. هُوَ يَكُونُ مَعَكَ. لاَ يُهْمِلُكَ وَلاَ يَتْرُكُكَ. لاَ تَخَفْ وَلاَ تَرْتَعِبْ». (تثنية 31: 8).

لا شكّ في أنّ «الاختطاف الصوفيّ» إلى اللَّه حالة غير عاديّة فيها ما فيها من جمال وسموّ واجتهاد في سبيل  التقديس. وهي مع استقامة السلوك والفكر تبلغ عمق المسيحيّة.

الأكيد هو أنّ السُّكنى بقرب اللَّه تديم علينا النعم وتغمرنا بالسماح، فهو اللطف الخفيّ ذاته الذي متى سكنَنا يطرد الخوف وكلّ بشاعاته، ويملؤنا من عطاياه، لنصير مغمورين باللطف المعلن على وجوهنا.

Loading...

 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search