العدد الثالث - سنة 2021

03 - دراسة كتابيّة - يسوع أمام قيافا والمجلس اليهوديّ - الأب ميخائيل (الدبس) - العدد 3 سنة 2021

يسوع أمام قيافا والمجلس اليهوديّ

 

الأب ميخائيل الدبس

 

لماذا المحاكمة؟

«أيّها الإله الديّان، لمّا وقفتَ أمام قيافا وأسلموكَ إلى بيلاطس اضطربَتِ القوّات السماويّة من الخوف، حينئذٍ رُفعتَ على الخشبة بين لصّين وحُسبتَ مع الأثمة أيّها البريء من الإثم لتخلّص الإنسان، فيا أيّها الربّ الطويل الأناة المجد لك».

لمحاكمة يسوع دلالات لاهوتيّة مهمّة مرتبطة بنظرتنا إلى القوانين والنظم الوضعيّة التي خطّها البشر لخير الناس، والتي يمكن استخدامها ضدّ الخير والحقّ لمصلحة الباطل. كيف لنا أن نتصوّر خالق الكلّ ومنظّم الكون وضمير كلّ قانون، يحاكَم بواسطة قوانين وضعها المخلوق ليحاكم الخالق. هذا يقودنا إلى الإقرار بنسبيّة كلّ قانون بشريّ رغم وجهه الخيّر والإيجابيّ. كلّ نتاج بشريّ وُضع لخير البشر، إذا تفلّت من مصدره المطلق الذي هو اللَّه، يتحوّل إلى أداة شرٍّ عوضًا من خير ومصدر ظلم عوضًا من عدل. وهكذا ندرك نسبيّة كلّ النواميس ومطلقيّة محبّة اللَّه.

كما أنّ مطالعتنا أحداث المحاكمة تساعدنا على فهم الظروف التاريخيّة التي أحاطت بفعل يسوع المسيح الخلاصيّ، والتي تجعلنا ندرك عمق هذا الفعل وامتداداته في حياتنا على هذه الأرض، والتي دُعينا إلى جعلها أكثر توافقًا مع تدبير اللَّه الخلاصيّ لتكون لنا الأرضُ معبر ارتقاءٍ إلى مُلك الربّ السماويّ.

لماذا اخترنا رواية إنجيل لوقا؟

اعتمدنا في مطالعتنا أحداث محاكمة يسوع رواية الإنجيليّ لوقا لسببَين:

1- تلاواتُ النصوص الإنجيليّة، بحسب لوقا، خلال الأسبوع العظيم، هي الأقلّ من بين مثيلاتها في الأناجيل الأخرى: خلال خدمة سحر الخميس العظيم يقرأ ٢٢: ١- ٣٩، وخلال خدمة الآلام المقدّسة وخدمة الساعة السادسة من الساعات الملوكيّة ليوم الجمعة العظيم يقرأ ٢٣: ٣٢- ٤٩. إضافة إلى بعض الآيات المدمجة مع التلاوات الإنجيليّة المطوّلة التي تقرأ في القدّاس الإلهيّ الخميس العظيم وفي غروب الجمعة العظيمة (22، 43- 44 و٢٣: ٣٩- ٤٩). هذا يعني أنّ شعبنا غير مطّلع على أحداث الآلام حسب الإنجيليّ لوقا.

2- يقدّم لنا لوقا عرضًا تاريخيًّا أكثر دقّة من باقي الإنجيليّين (لوقا ١: 3- 4). مع أنّ لوقا، شأنه شأن باقي الإنجيليّين لم يبغِ، كهدفٍ أوّل له في إنجيله، دقّةً تاريخيّةً بل تفسيرًا لاهوتيًّا لأحداث الخلاص بعامّة. على سبيل المثال لا الحصر نذكر:

- يردّ لوقا سبب مساهمة يهوذا، إلى جانب رؤساء اليهود، في اعتقال يسوع إلى نيّتهم في إلقاء القبض عليه منفردًا وبعيدًا عن الشعب «لأنّهم كانوا يخافون الشعب» (لوقا 22: 2)، ويهوذا، كتلميذ له، كان يعرف مكان إقامة يسوع بعيدًا عن الشعب.

- انعقاد المجلس للمحاكمة جرى صباح يوم الجمعة وليس ليلًا كما هي الحال عند باقي الإنجيليّين (22: 66 - قابل مع متّى 26: 57- 68 ومرقس 14: 53 - 65).

- في العشاء الأخير يذكر لوقا كأسَين (22: 17 و20)، وهذا ما يتوافق كلّيًّا مع ترتيب عشاء الفصح عند اليهود في زمن يسوع.

من هو قيافا؟

هو رئيس الكهنة زمن يسوع من العام 18م حتّى 36م. رئيس الكهنة هو أعلى رتبة في الكهنوت اليهوديّ. كان المنصب وراثيًّا ومدى الحياة لكون متولّيه من أصل هارون. يجمع إضافة إلى السلطة الدينيّة سلطة سياسيّة، إذ يعتبَر رئيسُ الكهنة ممثّلًا للشعب اليهوديّ أمام السلطة السياسيّة المسيطرة عليه. تذكَر شروطُ تنصيبه في سفر العدد 25: 2- 13 وسفر اللاويّين الإصحاح 20. إضافة إلى هذه الشروط ساهمت مواقف قيافا، المتذلّلة تجاه الرومان ولامبالاته لمصالح شعبه، في وصوله إلى سدّة رئاسة الكهنوت زمن يسوع. أدّى دورًا بارزًا وفاعلًا في مجمل الأحداث في ذلك الحين بما فيها أحداث محاكمة يسوع وصلبه. أمّا حنّان فلم يذكره لوقا ويُذكَر في إنجيل يوحنّا 18: 12- 13 و19- 25 على أنّه حمو قيافا وسابقُه في منصب رئاسة الكهنوت، وأنّ يسوع مَثَلَ أوّلًا أمامه ثمّ أرسله مقيّدًا إلى صهره قيافا. كان اليهود يستشيرون حنّان في مجمل الأمور ويقفون عند رأيه.

ما المقصود بالمجلس؟

هو المجلس الكبير الذي يضمّ ممثّلين عن كلّ فئات الرئاسات اليهوديّة (من رؤساء كهنة حاليّين وسابقين، وصدّوقيّين وكتبة) والبالغ عددهم 71 عضوًا. يسمّى كبيرًا لتمييزه عن المجالس المحلّيّة وله صفة قضائيّة. خلال الحكم الرومانيّ لم يكن للمجلس الكبير الحقّ في إصدار أحكام بالموت على أحد. حكم كهذا كان يتطلّب مصادقة الحاكم الرومانيّ.

يسوع أمام المجمع (لوقا 22، 66 – 71)

تعتبر روايةُ لوقا حول محاكمة يسوع الأكثر اقتضابًا من باقي الإنجيليّين إذ يغيب عنها:

(أ) ذكرُ شهود الزور. (ب) حكمُ المجلس الصريح على يسوع بالموت. (ج) محاكمةُ يسوع في جلسة مسائيّة، إذ يذكر، بوضوح محاكمة صباحيّة بينما يذكر مرقس ومتّى تفاصيل المحاكمة الليليّة، ولا تُذكر عندهم المحاكمة الصباحيّة إلاّ بجملة مقتضبة (مرقس 15: 1 متّى 27: 1– 2). ربّما نحن أمام محاكمة واحدة بدأت ليلًا وانتهت صباحًا.

هنا لا بدّ من أن نذكر مرّة أخرى أنّ الإنجيليّين ليسوا مقرّرين أو مؤرّخين ونصوصهم هي شهادةٌ لإيمان الكنيسة الأولى، وهدفُهم من نقل أحداث المحاكمة هو (1) إظهار مجاهرة يسوع بصفته المسيانيّة أمام المجلس، صفةً تستّر عنها يسوع قبلًا لأسباب تربويّة. (2) موقف الرئاسة الدينيّة اليهوديّة ضدّ يسوع بعد هذه المجاهرة. أمّا مسألة شرعيّة هذا المجمع أو عدم شرعيّته فهي لا تعنينا بشيء في مطالعتنا هذه النصوص. ما يعنينا هو إظهار إيمان الكنيسة بيسوع كمسيّا وبأنّ موته على الصليب كان فديةً لتحرير البشريّة من عبوديّتها للشيطان وللخطيئة.

الآيات 66 – 69

«عند الصباح اجتمع مجلس الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة واستحضروه لدى مجلسهم وقالوا: إن كنت المسيح فقلْ لنا. قال لهم: لو قلت لكم لما آمنتم ولو سألتكم لما أجبتم. غير أنّ ابن الإنسان سيجلس من الآن عن يمين قدرة الَّه».

صباحًا، يسأل أعضاء المجلس يسوع إن كان هو المسيح. يشمل جواب يسوع الأوّل عن هذا السؤال وجهَين، وجهًا تبريريًّا دفاعيًّا يبرّر فيه عدم جوابه، ووجهًا كتابيًّا مستقى من المزمور 109: 1، «قال الربّ لربّي اجلس عن يميني حتّى أجعل أعداءك موطئًا لقدمَيك»، ومن دانيال 7، 13، «فإذا بمثل ابن البشر آتيًا على سحاب السماء، فبلغ إلى القديم الأيّام وقُرِّبَ أمامه». وعبر هذا الوجه الكتابيّ يجيب يسوع بطريقةٍ غير مباشرة وإيجابًا عن سؤالهم: «غير أنّ ابن الإنسان سيجلس عن يمين قدرة اللَّه».

من اللافت أنّ يسوع في جوابه الأوّل الإيجابيّ وغير المباشر يستخدم لقب «ابن الإنسان»، مريدًا بذلك أن يصحّح النظرة اليهوديّة إلى الرجاء المسيّانيّ: هو بالتأكيد مسّيّا ولكنّه ليس الزعيم السياسيّ على النمط اليهوديّ، بل هو ابنُ الإنسان المزمع أن يتألّم ويعود بمجدٍ ليدين الجميع. يربط الإنجيليّون هذا اللقب الخريستولوجيّ بالمسيح المتألّم وبالمسيح الديّان المنتظر في آخر الأزمنة. ومن مفارقات التاريخ العجيبة أنّ ديّان كلّ البشر يُدان بالصلب من قبل البشر (راجع ترانيم الجمعة العظيمة).

الآيات 66 – 69

«فقالوا جميعًا: أأنت ابن اللَّه؟ فقال لهم: أنا هو كما تقولون. فقالوا أيّ حاجة بنا إلى الشهود؟ فقد سمعنا ما نطق به لسانُه».

يكرّر مجمل أعضاء المجلس السؤال على يسوع فيجيب إيجابًا، مباشرة وبوضوح. اللافت في تكرار السؤال استعمال أعضاء المجلس اللقب المسيّانيّ «ابن اللَّه» والذي لم يكن من الألقاب المسيانيّة السائدة حينها أو الواردة في العهد القديم. يمكننا تفسير ورود هذا اللقب في هذه الآية إمّا بسبب استخدام أعضاء المجلس التسمية التي تبنّاها أتباعُ يسوع «أنت هو المسيح ابن اللَّه الحيّ» (متّى 4: 3 و16: 16)، والتي كانت في نظر المجتمعين تجديفًا، إمّا بسبب تأثّر لوقا أثناء كتابة الإنجيل وفي صوغه هذا السؤال بالقاموس المسيّانيّ المسيحيّ السائد في الكنيسة الأولى.

جواب يسوع يثير سخط المجتمعين ولكنّه لم يُنْعَتْ منهم صراحةً، في إنجيل لوقا، «بالتجديف» كما هي الحال عند مرقس (14: 64) وعند متّى (26: 65). مع الأخذ بالاعتبار أنّ لوقا وجّه إنجيله إلى جماعةٍ غير يهوديّة ما يفسّر عدم ذكر لوقا نقاشات وجدالات وعبارات لا يفقهها الوثنيّون. ولكن يُستشفّ هذا النعت من ردّ فعلهم ومن أفعالهم اللاحقة. عدم ذكر لوقا الحكم الصادر عن المجلس لا يعني ما استنتجه بعض المؤرّخين والمفسّرين بأنّ مسؤوليّة الحكم على يسوع بالموت تُلقى على الرومان وليس على اليهود. لوقا، بالأخصّ، لم يرفع هذه المسؤوليّة عن اليهود وهذا ما عبّر عنه بوضوح في مواضع عدّة من أعمال الرسل: «الذين أنتم صلبتموه سيّدًا ومسيحًا» (2: 36)، «إنّ إله آبائنا أقام يسوع الذي علّقتموه على الخشبة وقتلتموه» (7، 52)، وفي مواضع أخرى كثيرة لا مجال لذكرها. إضافة إلى أنّ إلقاء مسؤوليّة الحكم على يسوع كاملةً على الرومان لا يتناسب مع ما ذكرناه حول القرّاء الذين وجّه لوقا إليهم إنجيله.

في العام 1933، في القدس، جرت إعادة محاكمةٍ رمزيّةٍ ليسوع شارك فيها خمسة قضاة يهود، اعتبروا أنّ الحكم الصادر عن المجلس الكبير ضدّ يسوع كان «خطًأ رهيبًا». هذه الواقعة لا تزيد فهمنا نصوصنا المقدّسة ولا تنقصه إذ لا تبدّل شيئًا من جوهر هذه الأحداث الخلاصيّة. فمسؤوليّة صلب يسوع تقع على الخطيئة السائدة في العالم وفي نفوس البشر من جهة، وعلى محبّة اللَّه للعالم لكونه صلب ومات طوعًا تعبيرًا عن هذه المحبّة الإلهيّة.

Loading...
 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search