العدد الثالث - سنة 2021

04 - الإيمان على دروب العصر - ضحايا العنف - د. جورج معلولي - العدد 3 سنة 2021

خلاصة المقال:

w تعصف في نفس الضحايا مشاعر كثيرة: الحقد والهلع والعنف تجاه الآخرين وتجاه النفس.

w محبّة الآخرين مرحلة ضروريّة لتعيد الضحيّة ترميم علاقتها بنفسها.

w يتعلّم الضحايا أن يرفضوا هيمنة العنف عليهم داخليًّا وأن يقولوا: لا.

w الغفران ثمرة مسيرة طويلة تسندها العدالة البشريّة والامتداد إلى بداءات جديدة يغذّيها الإيمان.

 

عواصف النفس بعد اختبار العنف :

ماذا يحصل في نفس من تعرّض للعنف (الجسديّ أو ّالمعنويّ)؟ ما يخبرنا إيّاه ضحايا العنف يدور في فلكين. الأوّل هو الكره، أو الإحساس بالقرف أو شعور لا يوصف من الهلع. هذا ما يمكن فهمه. كيف لا نكره من اغتصب جسدنا أو روحنا؟ كيف لا نرغب في إقصاء كلّ ما يشبه من بعيد أو قريب المعتدي علينا، المجتمع، الجنس البشريّ وأحيانًا الوجود كلّه؟ إذا كان ما يستحيل احتماله ممكن الحصول ألا يعني هذا انحرافًا في أساس كلّ الوجود؟ كيف لا نرغب في الانتقام من هذا كلّه؟ ثانيًا يمكن للضحيّة أن تختبر ردّود فعل عنيفة. يمكن أن تختبر أيضًا حزنًا شديدًا إذا توجّه العنف إلى نفسها فتراودها أفكار اللوم ضدّ نفسها. عندما يحدث العنف، ندخل في مناخ الاضطهاد واللعنات ضدّ الآخرين، وما هو أسوأ، ضدّ النفس. تتملّك أفكار الحقد والذنب قلب الضحيّة. تستدخل الضحيّة العنف والاكتئاب وجهين لعلاقة العبوديّة. يلحق الشرّ الأوّل شرّ آخر فيصبح المرء عبدًا لأفكاره الداخليّة وظالـمّا لنفسه. تدخل النفس في حلقة مفرغة، في كابوس لا ينتهي. كيف تخرج من هذا الكابوس؟ هل تمارس العنف بدورها فتقتل أو تنتحر؟ تحاول أن تخنق العنف بالعنف. يصبح الشرّ كرة ثلج، عدوى جماعيّة كالوباء، ويصبح ضحايا الأمس جلّادي اليوم، وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية. لماذا؟ لأنّ الذي تُرك وحده في خبرة العذاب، إن لم تمتدّ إليه يد الودّ الشافي من الآخرين أو إصغاء المعالج المرمّم، يغرق في ذكرى الألم ولا يتمكّن من تجاوزها. هاجس الألم الذي يتملّكه يشلّ كلّ الأفكار لديه. تغزو المعاناة كلّ ثنايا النفس. ولكن في قلب المعاناة تبرز ضرورة الفكر، ضرورة الفهم، ضرورة القفز إلى رؤية جديدة.

بداءة الشفاء:

يمرّ هذا المخاض بمراحل عديدة. تبدأ الأولى مع الآخر. وساطة الآخرين ضروريّة لنخرج من تملّك الأفكار المؤلمة. من لا يستطيع حمل نفسه يتمّكن من الوقوف إن حمله آخر. هذه مبادرة عميقة تمحي فعل العنف. من يمارس علينا العنف يزرع فينا الشكّ في الإنسانيّة. ولكن من يأتي ليحملنا في الوقت الذي لا نستطيع فيه أن نحمل أنفسنا يرمّم فينا علاقتنا مع الإنسانيّة. من هنا أهمّيّة التعاضد البشريّ. كلّ إنسان، إن بنى نفسه إنسانًا وعرف أن يصبح سندًا، يغدو رسولًا للانطلاق، للقفزة، للفصح للمحتاجين إليه. أن نرى أشخاصًا  كاملين في إنسانيّتهم وقادرين على التعاضد يفدي كلّ الذين هشّموا الإنسانيّة.

حرارة اللقاء قوّة الانطلاق الجديد عند المتألّم. يشعر الإنسان الضحيّة أنّه مجروح، مرذول، لا يشتهي أحد أن ينظر إليه. ولكن إذ تمتدّ إليه يد صديق، أو تلاقيه نظرة حنان ومحبّة، تظهر حضرة جديدة. حضرة فيها من الخفر واللطف ما يكفي ليبدأ الشفاء. تظهر يد لا تريد أن تستهلك وتدمي، وينطق فم بكلمات لا تمزّق ولا تهشّم، وتمتدّ ذراعان قادرتان على الاستقبال والقبول. كنّا نشكّ في الحياة وها هي الحياة تبدأ من جديد.

الحرب غير المنظورة :

تمرّ المرحلة الثانية عبر الذات. مخاض الفصح الجديد يمرّ بالفكر، بالتحوّل الداخليّ. يمكننا أن نترك أنفسنا عبيدًا للشرّ الذي تملّك فينا، وتاليًا نصبح جلّادين لذواتنا. ويمكن أن نقول لا. أن نرفض. أن نثور. نرفض أن نتآمر مع نفسنا ضدّ نفسنا. هذا يسمّى جهادًا داخليًّا، حربًا غير منظورة، رفضًا التجربة. نرفض أن نقوم بدور الضحيّة. لن ينتصر الشرّ علينا مرّتين. نكتشف مبدأ المقاومة هذا عندما نفكّر بنفسنا. نعيد الارتباط بذاتنا، نقاوم التفكّك، نصدّ الجنون. أن نحيا أو أن نُجنّ، هذا هو الخيار. العقل ضدّ الجنون. ينتصب الإنسان ضدّ ما يعاديه. أن نعقل، أن نفكّر، هو أن نقول لا. هذه مواقف نتعلّمها. أن نكتشف المصارع الذي في داخلنا. ربّما نتعلّمها من كلّ مقاوم حقّ يظهر في حضارة البشر ليبثّ رسالة شجاعة حقيقيّة، تمسّكًا لا ينثني بالنور ولا يتذلّل. لا نصارع لأنّنا أقوياء بل نصبح أقوياء لأنّنا نصارع. الثقافة الحقّ هي في تثبيت الأشخاص في قوّتهم، في عدم الخجل بقوّتهم. عندها تتمكّن الضحيّة من أن تنتصب، أن تحمل سريرها وتمشي، أن تتخلّص من تخلّعها. تحوّل التجربة المرّة إلى قوّة داخليّة. يستطيع الإنسان عندها أن يعود إلى الحياة وأن يقول: أريد أن أحيا. هذا صراخ ما بعد الصراخ. يمكن لصراخ الألم أن يتحوّل نداء للحياة.

قفزة الغفران:

ترتبط المرحلة الثالثة بما يتجاوزنا. لأنّ هذا العالم لا يكفي. هذه امتداد للمراحل السابقة نحو السماء. يمكننا أن ننتقم بالعنف أو بالانتحار وتتوقّف الحياة. ماذا بعد؟ في البشريّة وحوش كثيرة، ولكن فيها أيضًا أطفال يلعبون، أصدقاء يستقبلون، وناس يبتسمون. هل أكسر الخير الموجود باسم شرّ موجود؟ ألا أكون ظالـمًا أنا أيضا كالظلم الذي أحكم عليه؟ لماذا أحطّم الغد؟

غالبًا ما ظننا أنّ الغفران هو التبرير. من يغتصب ويمارس العنف ليس مبرّرًا. العنف لا يمكن تبريره. ولكن يحدث أنّ الضحيّة، رغم اختبارها التعنيف، تقوى على أن تذهب إلى ما هو أبعد، أن تعطي مستقبلًا لمستقبلها، أن تعيد بدء الزمن وأن تقفز فوق الأسوار. هذا من مفاعيل الغفران الحقّ. ليس هذا نسيانًا. محو الماضي ليس فقط مستحيلًا بل غير محبّذ. ليس تبريرًا بل هو كسر حلقة الحقد المفرغة. يمكن أن نبقى في زمن مقفول، زمن الأسى المهيمن. ولكنّنا نقرّر أن نذهب إلى أبعد، إلى بداءات جديدة. الغفران هو ألاّ نحجز كلّ البشر والحياة لأنّ واحدًا، في لحظة أو أكثر، كبّلنا واحتجز حياتنا. هذا انتقال إلى بعد رؤيويّ من الوجود، مسيحانيّ، انغراس في خلاص المسيح وقوّة قيامته. العنف صراخ الضعفاء. أمّا الوداعة فهي صوت الأقوياء. لقد أراد العنيف أن يكون قويًّا فما استطاع، فاستخدم العنف وهمًا للقوّة. التاريخ حولنا مليء بالضعفاء الذين يمارسون العنف ليختبروا القوّة، وبالودعاء الأقوياء الذين يقع العنف على رؤوسهم. طوبى للودعاء لأنّهم يحوّلون الأرض بقوّة ليست من هذا العالم. رأى بعض المترجمين أنّ الطوبى تعني: أكملوا السير !. تابعوا المشي أيّها الودعاء ولا تتوقّفوا لأنّكم بهذا ترثون الأرض التي تغدو بكم ملكوتًا. غير أنّ هذا لا ينفي أن نعمل لنوقف أعمال العنف. محبّة الظالم والمظلوم تحصرنا. لذلك نعمل على أن يكفّ الظالم يده عن العنف. تضطرّنا المحبّة إلى أن نستخدم الطرائق القانونيّة والنضال اللاعنفيّ لنقول للظالم إنّه ظالم ولنحمي الودعاء من ظلمه والأنقياء من فساده. «الرحمة والحقّ تلاقيا، البرّ والسلام تلاثما»، يقول المزمور (مزمور 85 : 10). تدلّ الدراسات الحديثة على أنّ العدالة تسهّل عمليّة الغفران، بخاصّة إن تركّزت على تأمين الحقوق لمن سُلب حقّه (أكثر من العدالة المرتكزة فقط على العقاب). العدالة البشرية تسند المهمّشين والإيمان بالدينونة الأخيرة يسند الإيمان بالحقّ والخير حتّى لا يخور أمام طغيان العنف. يمكن عندها لضحايا العنف، أن يقوموا كإلههم في اليوم الثالث ويقولوا لنا: هاتوا إصبعكم وجسّوا آثار المسامير والطعنة في كياننا القائم.

Loading...
 

 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search