العدد الثالث - سنة 2021

06 - مسكونيّات - في خدمة الشركة وثيقة أرثوذكسيّة-كاثوليكيّة جديدة - أسعد إلياس قطّان - العدد 3 سنة 2021

قبل بضعة أسابيع، صدرت عن الجامعة الأنطونيّة الغرّاء الطبعة العربيّة لوثيقة Serving Communion (وثيقة غراتس) التي كانت حلقة القدّيس إيريناوس الأرثوذكسيّة-الكاثوليكيّة قد أطلقتها بالإنكليزيّة العام 2018 في مدينة غراتس من أعمال النمسا. يحمل النصّ العربيّ عنوان «في خدمة الشركة: إعادة التفكير في العلاقة بين الأوّليّة والمجمعيّة». ويتصدّره مقدّمة معرّبة عن الفرنسيّة للأب الدومينيكيّ وأستاذ اللاهوت العقائديّ هرفيه لوغران، وتوطئة لناشرَي الطبعة العربيّة الأب ميشال جلخ الأنطونيّ وأسعد قطّان. تضمّ حلقة القدّيس إيريناوس، التي تأسّست العام 2004 في مدينة بادربورن في ألمانيا، ثلاثة عشر لاهوتيًّا أرثوذكسيًّا وثلاثة عشر لاهوتيًّا كاثوليكيًّا ينتمون إلى بلدان مختلفة (هي حاليًّا الأرجنتين والنمسا وبلغاريا وفرنسا وألمانيا واليونان وإيطاليا ولبنان ومالطا وهولندا ورومانيا وروسيا وصربيا وأوكرانيا والمملكة المتّحدة والولايات المتّحدة الأميركيّة). ولا تنتدب الكنائس هؤلاء الأعضاء، بل تجري دعوتهم بالاستناد إلى جدارتهم اللاهوتيّة. وتاليًا، فإنّ حلقة القدّيس إيريناوس ليست لجنة حوار رسميّة، بل هي فريق عمل غير رسميّ يتألّف من خبراء يلتقون مرّةً في السنة بهدف دعم الحوار الأرثوذكسيّ-الكاثوليكيّ على المستوى العالميّ.

تمتاز الوثيقة التي نحن في صددها بأنّها توائم، من حيث المنهج، بين المقاربة التاريخيّة (نسبةً إلى التاريخ الكنسيّ) والمقاربة النظاميّة (نسبةً إلى اللاهوت النظاميّ systematic) مؤسِّسةً كلا المـقـاربـتيـن على قاعدة نظريّة صلبة قوامها مجموعة من الملاحظات المتّصلة بكيفيّة تأويل النصوص والتعامل معها تفسيريًّا. وهي تنطوي، بالإضافة إلى المقدّمة والخاتمة، على ثلاثة فصول، أوّلها تأويليّ، ويحمل عنوان «تفكّرات تأويليّة»، والثاني تاريخيّ، وعنوانه «ملاحظات تاريخيّة»، والثالث نظاميّ، ويتّخذ عنوان «مطارحات نظاميّة». وتشتمل الوثيقة، بصرف النظر عن تقسيمها إلى فصول، على ستّ عشرة أطروحة مشتركة (common statement) يرافق كلًّا منها عدد من التعليقات والشروح التي تهدف إلى توضيح الفكرة الأساسيّة، وذلك من طريق الأمثلة وشرح المصطلحات ورصد التطوّرات وصوغ أسئلة معلّقة.

يشكّل الفصل الأوّل من هذه الوثيقة نوعًا من «خارطة طريق». وهو، بلا شكّ، النصّ الأوّل في تاريخ الحوار المسكونيّ الذي يعمل فيه لاهوتيّون أرثوذكس وكاثوليك على صوغ مشترك لعدد من المبادئ التأويليّة التي تهدف إلى شحذ المقاربتين التاريخيّة والنظاميّة وتوجيههما. وينطوي هذا الفصل على ملاحظات تتّصل بضرورة الانتباه إلى الرهانات التأويليّة في الحوار المسكونيّ عمومًا، وفي التعاطي مع اللغة اللاهوتيّة والعقائد والقوانين الكنسيّة والعوامل غير اللاهوتيّة على وجه خاصّ. كما تشدّد هذه الملاحظات على أهمّيّة علم التاريخ ومناهج دراسة التاريخ بالنسبة إلى اللاهوت. تكمن فرادة هذا الفصل الأوّل في ما يفصح عنه من اتّفاق في المقاربة المنهجيّة بين لاهوتيّين أرثوذكس وكاثوليك ينتمون إلى فروع دراسيّة مختلفة كالكتاب المقدّس والتاريخ الكنسيّ والآبائيّات والعقيدة والليتورجيا والقانون الكنسيّ. فالمعروف أنّ عدم قدرة الحوار الأرثوذكسيّ-الكاثوليكيّ، في العقود الأخيرة، على تقديم مقاربة مشتركة متكاملة للأحداث التاريخيّة يجب عزوه لا إلى مواقف عقائديّة مختلفة فحسب، بل أيضًا إلى غياب منهجيّة علميّة مشتركة.

إنّ أحد مواطن القوّة في وثيقة «في خدمة الشركة» هو فصلها التاريخيّ. طبعًا، لا يدّعي المؤلّفون أنّهم قاموا بدراسة تاريخيّة فريدة من نوعها. فهم يشيرون، في المقدّمة، إلى محدوديّة نصّهم، وخصوصًا في قسمه التاريخيّ، ويعون استنادهم إلى مئات البحوث التاريخيّة التي قام بها دارسون ثقات. ولكنّ أهمّيّة هذا الفصل، الثاني في ترتيبه، تكمن في أنّه يقوم للمرّة الأولى في تاريخ الحوار الأرثوذكسيّ-الكاثوليكيّ بتوصيف مشترك لألفي سنة من تاريخ كنيستي الشرق والغرب، وذلك من زاوية العلاقة بين الأوّليّة والمجمعيّة. ويقسم هذا الفصل المادّة التاريخيّة إلى حقب خمس: مرحلة الكنيسة القديمة (من القرن الأوّل إلى القرن الثامن)، مرحلة التغرّب (من القرن التاسع إلى القرن الخامس عشر)، مرحلة التمذهب (من القرن السادس عشر إلى القرن الثامن عشر)، مرحلة الانطواء الإكليزيولوجيّ (القرن التاسع عشر)، ومرحلة النهضة الإكليزيولوجيّة (القرنان العشرون والحادي والعشرون). ولعلّ أبرز ما يشتمل عليه هذا الفصل قراءة سياقيّة مشتركة للمجمع الفـاتيكانيّ الأوّل. من النافل القول إنّ هذه القراءة لا تسعى إلى التقليل من الصعوبات التي تختزنها نصوص هذا المجمع، ولا سيّما التحديدات العقائديّة المرتبطة بعصمة البابا من السدّة (ex cathedra) وولايته على كنائس الأرض جميعها. ولـكنّهـا تـبـيّن أنّ الـمجـمع الفاتيكانيّ الأوّل كان ردّ فعـل «قابل للفهم» على تحدّيات الحداثة الغربيّة، وأنّ نصوصه خضعت، في قلب الكنيسة الكـاثوليـكيّة ذاتـها، لتفسيرات فيها الكثير من الغلوّ، بمعنى أنّها لا تنسجم مع المقاصد الأصليّة لآباء المجمع، وخصوصًا أنّ هؤلاء رسموا حدودًا واضـحـة المـعـالم للعصمة البابويّة، وجعلوها تعبـيـرًا عن عصمة الكنيسة ككلّ وخاضعةً لمضامين الكتاب المقدّس والتقليد الرسوليّ.

أمّا الفصل الثالث، فيسعى، بالدرجة الأولى، إلى تظهير الرهانات اللاهوتيّة لمفهوم الشركة، أو الكينونيّا (koinonia)، بوصفها قاعدة الحياة الكنسيّة، وتبيان كيف أنّ السلطة في الكنيسة هي في خدمة الشركة. فضلًا عن ذلك، يقدّم مؤلّفو الوثيقة تأويلًا لاهوتيًّا لمفهومَي الأوّليّة والمجمعيّة، وذلك بالارتكاز على معطيات مستمدّة من الكتاب المقدّس والتاريخ الكنسيّ والقوانين. وهم يؤكّدون أنّ مبدئَي الأوّليّة والمجمعيّة، في مقاربة لخبرة الكنيسة تستند إلى مفهوم الشركة، ليسا مجـرّد بنيـة طـارئة، بـل يـشـكّلان جـزءًا لا يتجزّأ من طبيعة الكنيسة ذاتها ويتداخلان الواحد في الآخر. وتُختتم الوثيقة بخلاصة تستعيد، على نحو موجز، أهمّ محطّات النصّ من جهة، وتقدّم عددًا من الأفكار ذات الطابع الاستشرافيّ من جهة أخرى.

لئن كانت وثيقة غراتس لا تتّسم بطابع رسميّ، إلّا أنّها تشكّل، من دون أدنى شكّ، فتحًا كبيرًا في الحوار اللاهوتيّ بين الأرثوذكس والكاثوليك. فهي، إلى جانب وضعها مداميك مقاربة تأويليّة مشتركة، تنجح في تقديم توصيف متّفق عليه للعلاقات بين الكنيستين على مدى ألفيّتين من الـزمن، مشـدّدةً عـلى الـعـلاقـة الـوثيـقـة بـيـن الأوّلـيّة والمـجمعيّة مـن حيـث كـونـهما مبدئين غـيـر منفـصـلـيـن، بل يكمّل واحدهما الآخر. هذا لا يــعــنــي، طـبــعًا، أنّ الــعـوائــق الـلاهــوتــيّــة بين الكنيستين الأرثوذكسيّة والكاثوليكيّة أزيلت كلّها. ولكنّ هذا النصّ يبنى عليه، ولا شكّ، بوصفه خطوةً على جانب كبير من الأهمّيّة في طريق إزالتها.

Loading...
 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search