العدد الثالث - سنة 2021

07 - تأمّل - تأمّل في زمن الكورونا (٣) - فريدا حدّاد عبس - العدد 3 سنة 2021

تفسير الأصحاح الثالث عشر من رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس تحت مجهر الكورونا

«وصيّة جديدة أنا أعطيكم: أن تحبّوا بعضكم بعضًا. كما أحببتكم أنا تحبّون أنتم أيضًا بعضكم بعضًا. بهذا يعرف الجميع أنّكم تلاميذي: إن كان لكم حبّ بعضًا لبعض» (يوحنّا 13 :34- 35 ). ماذا يعني أن نحبّ بعضنا بعضًا كما أحبّنا الربّ يسوع  تحت وطأة وباء كوفيد 19؟

 لدينا عطيّة التقليد المقدّس بما في ذلك نصّ الكتاب المقدّس ومثال سير القدّيسين، لإرشادنا في فهم ما تعنيه وصيّة الربّ يسوع هذه في حياتنا اليوميّة:

هنالك أمور بديهيّة تطرح ذاتها علينا كالعطاء السخيّ، قدر استطاعتنا، لمن فقدوا مصدر دخلهم تحت وطأة الأزمة الاقتصاديّة التي تحاصرنا. لا نعطي من فضلات موائدنا بل من صميم قلوبنا. ما يعطى من اليد في يد أخرى يلقى ويؤخذ من غير منّة. أمّا ما يعطى من القلب ففي قلب الآخر يزرع بذار محبّة السيّد.

 نحن مدعوّون إلى صلاة نرفعها كلّ يوم، بإلحاح، في حرب غير منظورة ضدّ جيوش العمالقة التي تحوط بنا، كما أنّنا مدعوّون إلى القيام بكلّ الأعمال التي لا تتطلّب جهدًا كبيرًا، كالحفاظ على البعد الاجتماعيّ، النظافة وغسل اليدين واعتماد الكمّامات، الحجر المنزليّ وغيرها من الإرشادات الصحّيّة. جسدنا عطيّة من عند الآب. الرسول بولس يشير إلى أنّنا مدعوّون إلى الحفاظ عليه كوديعة سليمًا ومعافى، لأنّه ليس «ملكًا» لنا. يكتب: «أم لستم تعلمون أنّ جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم، الذي لكم من اللَّه، وأنّكم لستم لأنفسكم؟ لأنّكم اشتريتم بثمن. فمجّدوا اللَّه في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي للَّه» (1كورنثوس 6 : 19- 20).

وكما تشير الإحصاءات في لبنان والعالم، من المتوقّع أن ينتشر الفيروس بسرعة إن لم نتّخذ إجراءات مشدّدة لمكافحته. قد لا تظهر أعراض المرض على بعض الأشخاص الذين يحملون الفيروس، وقد يكون غيرهم مصابًا قبل أن تظهر عليه الأعراض. هذا ما يجعل من المستحيل منع انتشار المرض بمجرّد مطالبة الأشخاص الذين يشعرون بوعكة ما، ناتجة من إصابتهم، بأن يعتزلوا ويحجروا أنفسهم. ورغم أنّ معظم الأشخاص الذين يمرضون يتعافون إن خضعوا للعلاج، فإنّ البعض الآخر معرّضون بشكل خاصّ لخطر الوفاة، كالمسنين والأشخاص الذين يعانون أمراضًا مزمنة مثل السكّري وارتفاع ضغط الدم وغيرها. وتشير الإحصاءات الحديثة أيضًا إلى أنّ الأطفال قد يكونون عرضة للخطر أكثر ممّا كان يعتقد.

أمر آخر في غاية الأهمّيّة ويكمن في أنّ بين الذين يتعافون هناك من يحتاج إلى متابعة طبّيّة دقيقة، ما يثقل الحمل على مؤسّساتنا الاستشفائيّة. من هنا ضرورة الحجر المنزليّ الوقائيّ والتزام البعد الاجتماعيّ بجدّيّة وبدقّة أيضًا. وباستثناء الأشخاص الموكلين بالقيام بأنشطة أساسيّة تخدم المصلحة العامّة، يمكننا الشهادة لمحبّة المسيح عبر الحجر المنزليّ الطوعيّ، وذلك ليس فقط للحفاظ على صحّة أجسادنا التي سلّمها الربّ إلينا وديعة بل للحفاظ على صحّة الآخرين. والحجر المنزليّ طبعًا يشمل عدم المشاركة في الصلوات الجماعيّة التي يمكن أن نتابعها على وسائل الاتّصال الإلكترونيّة المتاحة. وفي حين أنّ تناول القربان المقدّس بحدّ ذاته لا يشكّل أيّ خطر للعدوى، بيد أنّ وجودنا في الكنيسة من شأنه أن يزيد خطر العدوى على نفسنا وعلى الغير، سواء حضروا هم أيضًا الخدمة الإلهيّة أو لم يحضروها بل تخالطوا مع من حضروها. صحيح أنّنا نظهر محبّتنا للآخر في حضورنا إلى جانبه، بيد أنّنا مدعوّون اليوم إلى أن نظهر محبّتنا بغيابنا الجسديّ الطوعيّ. باستطاعتنا أن نكون «حاضرين» إلى جانب القريب بالصلاة والمكالمات الهاتفيّة ونصوص رسائل البريد الإلكترونيّ وتكنولوجيا الدردشة المرئيّة.

كلمة أخيرة

كتب سيادة المتروبوليت ألكسيس أسقف أبرشيّة ماريلاند في مدينة بيت حسدا في الولايات المتّحدة ما يلي:

«لا أنسى كم تأثّرت عند قراءة نصّ للشيخ الناسك كالينيكوس الذي من جبل آثوس (1853-1930). انضمّ كالينيكوس إلى  دير الشيخ دانيال في الجبل، حيث كان النسّاك يفتقرون إلى الحليب والجبن والبيض. يذكر كالينيكوس، في ما دوّنه، حديثًا بينه وبين الشيخ دانيال الذي قال له: صباح الفصح لا نجد عندنا بيضًا أحمر لطعام الفطور. نحتفظ ببيضة واحدة نخرجها من سنة إلى سنة ليراها الجميع فيعيّدون الفصح بفرح.

اعتزل كالينيكوس في منسك صغير طيلة أربعين عامًا مرشدًا من يأتيه للنصح. وفي أواخر حياته يذكر من قابلوه أنّ نورًا كان يشعّ من وجهه، وأنّ فرحًا لا يوصف كان ينتقل إليهم من كلماته التي حملت إليهم عزاء وبركة. لم يتناول بيضة فصح واحدة طوال كلّ تلك السنوات، بيد أنّه كان يرتوي من ينبوع الماء الحيّ الذي حدّث الربّ يسوع المرأة السامريّة عنه قائلًا: «من يشرب من الماء الذي أعطيه إيّاه أنا لن يعطش أبدًا بل يصير الماء الذي أعطيه نبعًا في داخله يتدفّق معطيًا حياة أبديّة» (يوحنّا 4: 13). ولم يشارك الشيخ كالينيكوس في خدمة الصلاة الجماعيّة مع الإخوة طيلة أربعين عامًا، ولم يحظَ ببركة المناولة من الكأس المقدّسة. بيد أنّه وجد اللَّه في ينبوع فجّره اللَّه في داخله، تدفّق في قلبه بغزارة مانحًا إيّاه القوّة ليصعد إلى قمم يشكّ كثيرون منّا بوجودها.

وإذ نحن محصورون في قبضة الكورونا اليوم، ليمنحنا الربّ طريقًا ننتقل به من الضجيج إلى السكون، من الاضطراب إلى السلام ومن العالم الصاخب من حولنا إلى ملكوت اللَّه المشرق في داخلنا، رغم أنّ غيوم الضجيج والخوف تحجبه عن مرآنا».

القيود التي تفرضها علينا الأزمة الحاليّة لا يمكننا أن نقارنها بالزهد الطوعيّ الذي أقامه الشيخ المبارك في منسكه، بيد أنّ الربّ يمنحنا بركته بوفرة إن قدّمنا له هذه القيود التي تحاصرنا. هو يرفعها عنّا بلطفه وحنانه متى ملأنا يومنا بأبسط الصلوات:«يا ربّ يسوع المسيح ارحمني». هذه صلاة كفيلة بأن تملأ نفوسنا بشوق إلى الكأس المقدّسة حيث نذوق طعم فصح مقيم وحيث نلتقي بالربّ وهو يلتقي بنا. ولكي يتمّ لقاء كهذا، علينا أن نقدّم القليل من الزهد الطوعيّ بالإضافة إلى الزهد اللاإراديّ المفروض علينا. ما يزال بإمكاننا أن نحصل على بيض عيد الفصح وأن نستمرّ في شركة مع من نرتاح إليهم عبر مكالمات الهاتف المحمول والفيسبوك. ولكنّنا سنحتاج إلى أن نتدرّب على أن نخصّص بعض الوقت من يومنا لنكون وحدنا مع اللَّه وحده. من أجل ذلك نحتاج إلى أن نطفىء أجهزتنا الإلكترونيّة من وقت إلى آخر ونضيء شمعة؛ سنحتاج إلى أن نبتعد عن دوّامة الصور والمعلومات التي نسمح لها بدخول أذهاننا عبر التلفاز والفيسبوك والحاسوب والهاتف المحمول، ونحوّل قلوبنا نحو الشيء الوحيد الذي نفتقر إليه. نحتاج إلى أن نعود  إلى أنفسنا ونسمّر أنظارنا في الشاشة الوحيدة حيث يمكننا أن نجد اللَّه حقًّا، شاشة قلوبنا، إذ هي وحدها هي البوّابة إلى مملكة السماء ذاتها.

رعاتنا في كنيسة المسيح شجّعوا بحكمة على استخدام التكنولوجيا لتلبية حاجة المؤمنين إلى العبادة الجماعيّة. يتحدّث القدّيس باسيلوس الكبير نفسه (329- 378 ) عن فائدة استخدام التكنولوجيا «لتلبية حاجة  معيّنة” .

هذا ما قد يترجم في لغة حضارة الألفيّة الثالثة التي نخوضها أنّ البثّ المباشر يستجيب بالفعل لكثير من حاجاتنا. هو يوفّر الأمان العاطفيّ والمرسى في فترات نشعر فيها بالقلق والاضطراب، ويؤمّن لنا نوعًا من الاستقرار الاجتماعيّ في عالم متغيّر، والدعم الروحيّ للاقتراب من اللَّه وفق ترتيب الصلاة المعتمد في الكنيسة (التيبيكون).

 رغم ذلك، لا يضمن البثّ المباشر لنا المشاركة في تيّار المياه الحيّ، بالضبط كما أنّ نسخة من الكتاب المقدّس نمتلكها  في مكتبتنا ليس من شأنها أن تنيرنا بحدّ ذاتها بالحكمة الإلهيّة، إن لم نقبل على مطالعتها بروح الصلاة. في الواقع، قد يكون اعتمادنا المفرط على أجهزة الكمبيوتر عائقًا أمام إدراك هدف أكثر أهمّيّة بالنسبة إلينا في محنتنا الحاليّة، ألا وهو أن نحدّث الآب ونسمعه يحدّثنا إذ ندخل مخدع القلب ونغلق الباب ونحدّثه هناك ونسمعه يحدّثنا كما أوصانا هو بأن نفعل (متّى 6 :6).

 الشيخ القدّيس إيمليانوس رئيس دير سيمونوبترا ينصحنا بأن نستخدم وسائل التكنولوجيا الحديثة بحذر، إذ غالبًا ما تكون شاشات الكمبيوتر مجرّد امتداد للأوهام والرغبات التي تلمع في أذهاننا. إنّها أماكن تشتّت وانفصال ولهو، واستخدامها لمتابعة خدمات صلوات الكنيسة قد يجعلها مفيدة، لكنّ تركيزنا عبرها يبقى خارجيًّا، وليس داخليًّا في القلب، حيث نذوق طعم ملكوت اللَّه.

طبعًا إنّ مشاركتنا أسقفنا أو كاهننا بالصلاة عبر مشاهدة خدمة البثّ المباشر هو أمر مبارك. بيد أنّنا قد نجد من المفيد أحيانًا أن نقرأ نصّ الصلوات الجماعيّة بمفردنا أو نستمع إليها تبثّ عبر الإنترنيت، إذ نطفىء الصورة التي على الشاشة ونحتفظ بالصوت ونقف مستقيمين ومصلّين أمام أيقونة، وننحني ونركع أمام الأيقونة في زاوية من البيت معطّرة بالبخور ومضاءة بشمعة.

خلال هذه المحنة التي تلقي بثقلها علينا، لا ننسى أبدًا أنّ ربّنا ومخلّصنا يسوع المسيح دائمًا معنا ولنا. لنتذكّر أيضًا أنّه علينا أن نبحث عنه بشغف إن أردنا أن ندرك حضوره المقدّس. ليكن نهج بحثنا عنه نهجًا نشطًا، وأن يكون تركيزنا منفردًا ومركزًا، وأن يكون تفانينا في البحث عنه ثابتًا. إنّ قضاء خمس عشرة دقيقة يوميًّا في الحوار مع اللَّه يمكن أن يطلق تغييرًا مباركًا في الطريقة التي نفهم بها أنفسنا وننظر بها إلى العالم من حولنا.

يشعر الكثيرون منّا بالضيق بسبب عدم قدرتنا على تلقّي الأسرار المقدّسة أو الاحتفال بإقامة القدّاس الإلهيّ. وعوضًا من أن نرتّل في بيوتنا، «لقد جمعتنا نعمة الروح القدس معًا»، قد نشعر بالرغبة في ترداد كلمات المزمور: «كيف نرنّم ترنيمة الربّ في أرض غريبة؟» (مزمور 137: 4). ومع ذلك، تقودنا نعمة الروح القدس برفق في المحنة التي نخوضها لننظر إلى أمثلة القدّيسين والنسّاك والمعترفين الذين لم يتعرّضوا لحرمان أكبر بكثير ممّا نتعرّض له نحن فحسب، بل تمكّنوا أيضًا من الخروج من هذه الضيقات جميعها بقداسة كبرى.

لا شكّ في أنّ الكثيرين يشعرون أنّ المسافة بين حياتنا وحياة هؤلاء القدّيسين واسعة جدًّا بحيث لا يمكن أن تكون مثالًا لنا ننهد للوصول إليه. لكنّ السبب في اتّساعها لا يكمن في اختلاف ظروف خارجيّة، بل بالحريّ  في اختلاف أولويّات رصفناها في قلوبنا عمّا اكتنزوه هم في قلوبهم. إذا سعينا جاهدين إلى أن نبدّل أولويّات نفوسنا سوف ندرك بفرح أنّه يمكننا أن نكون في شركة عميقة مع المسيح في أيّة لحظة. إن تعلّمنا أن نقول من دون جهد: «لتكن مشيئتك» خلال هذه الفترة التي نمرّ بها ونستمرّ في عبادة ربّنا في كلّ ظرف يوفّره هو لنا، يمنحنا ربّنا حياة داخليّة أعمق.

لا توجد «قادوميّات» في طريقنا إلى الملكوت. والعلّيّة التي يدعونا إليها الربّ لنتناول فيها معه عشاء سرّيًّا تقع على قمّة سلّم مكوّن من حياة ناشطة من أعمال المحبّة ومن الصلاة الداخليّة.

إن أدركنا في أزمتنا الحاليّة أنّنا كنّا نضع كلّ التركيز في مسيرتنا الروحيّة على نزول الربّ إلينا وأنّنا أهملنا أن نجاهد لنصعد نحن إليه بالصلاة، نفهم إذ ذاك ما تركه لنا آباؤنا النسّاك إرثًا.

إن كنّا نرغب في الاقتراب من المسيح، فلا شيء يستطيع أن يعيقنا. بإمكاننا أن نرحّب بربّنا في أورشليم قلوبنا، حتّى لو ما عدنا قادرين على فعل ذلك في مباني كنائسنا. قوّة الروح القدس تجمعنا معًا في هياكل قلوبنا حتّى إن لم نتمكّن من رفع أيدينا في رعايانا. يمكننا أن نهتف في هياكل نفوسنا «أوصنا في الأعالي، مبارك الآتي باسم الربّ». وإذا فعلنا ذلك، فسنفرش دروب قلوبنا لاستقبال  الربّ بسعف نخل ننسجها بكلّ أرواحنا، وبكلّ عقولنا وبكلّ قوّتنا، كما أعدّ القدّيسون دروب قلوبهم له. إذ ذاك يمنحنا ربّنا «الوديع الجالس على الجحش الصغير» تقديسًا لنفوسنا.

Loading...
 

 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search