العدد الثالث - سنة 2021

08 - تحقيق - بيروت المحروسة باللَّه - لولو صيبعة - العدد 3 سنة 2021

بيروت الجميلة

حبّك أطيب من الخمر، أنت الأجمل بين المدن قاطبة، ما أجملك وأنت تستلقين على كتف البحر، جميلة أنت يا بيروت، قومي يا جميلتي وانهضي من بين الركام، فالحياة لا تليق إلّا بك.

في العاشر من تمّوز السنة 551م ضرب زلزال مدمّر بيروت هو الأقوى في تاريخها. كما تراجع البحر قرابة الميل عن الشاطىء وتحطّمت سفن عدّة، ثمّ عاد البحر إلى مكانه الأصليّ. بعد ذلك حاولوا قتلك أكثر من مرّة، لكن، لو عاودوا الكرّة سبعين مرّة سبع مرّات فهم لن ينالوا من جمالك. بيروت مهما قسا عليك الدهر وجارت عليك الأيدي الآثمة ستبقين درّة الشرق وسحره وملتقى الأديان والثقافات، وباب الغرب إلى الشرق.

جذور بيروت ضاربة في القدم، وقد اكتسبت هذه المدينة أهمّيّة بالغة في العصر الرومانيّ حتّى قال عنها الأمبراطور يوستينيانوس إنّها مهد الشريعة والقانون، ومنح أساتذتها امتيازًا حصريًّا لتعليم الفقه الرومانيّ.

بيروت في عيون الرحّالة والمؤرّخين.

بيروت أو بيريتوس القديمة تستحقّ عن جدارة أن تكون عاصمة هذا البلد الجميل، الذي زيّن أرزه قصور روما ومعابدها. اشتهرت بيريتوس منذ القديم بتصدير الذرة والزيت وأفضل أنواع النبيذ، وكانت مرفأ يصل دمشق بالعالم، وهو المرفأ الوحيد الآمن والمجهّز من الإسكندريّة إلى إسكندرون.

بيروت المدينة الجديدة انبعثت من الرماد خلال سنوات معدودة، وتعرّفت إلى الحضارة الأوروبّيّة. رصفت طرقاتها وساحاتها وشيّدت المخازن الكبيرة والقصور الجميلة.

جولة في بيروت القديمة كما عرفها الرحّالة والمستشرقون، تبدأ مع مختار رأس بيروت كمال جرجي ربيز.

«بيروت قديمًا بلدة صغيرة يحوط بها سور امتدّ من قلعتها القديمة في الشمال الشرقيّ إلى الجنوب الشرقيّ، غرب ساحة الشهداء عند مدخل سوق أبي النصر، وغربًا إلى محلّة السور بمحاذاة بناية العسيلي إلى تمثال اليازجي في الجنوب الغربيّ، وشمالًا إلى باب إدريس حتّى ميناء الخشب عند المرفأ القديم في الشمال الغربيّ. بمساحة طولها 570 مترًا وعرض كيلومترين. السور ارتفاعه خمسة أمتار وسماكته أربعة أمتار مع أبراج فوق السور يستعملها الجنود للدفاع عن البلدة. لهذا السور ثمانية أبواب هي: الدبّاغة، السرايا، أبو النصر، الدركاه، يعقوب، إدريس، السنطيّة، السلسلة. ومن تقاليد الأبواب أنّ الأعيان كانوا مولجين بها ومكلّفين بنفقة مصباح يعلّق إلى جانب الباب الخارجيّ عشيّة النهار، ويقف الباب عند مغيب الشمس ويودع المفتاح عند متسلّم البلد حتّى الصباح.

حدود مدينة بيروت في العام 1771 كانت السور المقام حولها، ففي تلك السنة حضرت إلى بيروت سفن حربيّة روسيّة وأطلقت النيران على البلدة الصغيرة وعلى سورها فتهّدم جزء منه. وفي العام 1840 تحالفت الدول الأوروبّيّة مع السلطان عبد المجيد لإخراج إبراهيم باشا من بلاد الشام واستخلاصها من يد والده محمّد علي باشا، فضربت سفن حربيّة إنكليزيّة ونمساويّة بيروت ضربًا عنيفًا فتهدّم السور بشكل كامل، فامتدّت المدينة وتوسّعت إلى رأس بيروت والأشرفيّة وازداد عدد السكّان»(١).

جيمس سيلك باكنغهام

وصف الرحّالة الإنكليزيّ جيمس سيلك باكنغهام بيروت عندما زارها في مطلع القرن التاسع عشر قائلًا: «الحدائق الغنّاء كثيرة وتتميّز بالترتيب والتنسيق وهي خير دليل على مدخل مدينة ثريّة(٢). هي مربّع غير متناسق يحوط بها سور من ثلاث جهات من جهة البحر، والجهة الرابعة مفتوحة على البحر. السور تركيّ الطراز والبناء وبالكاد يستطيع مقاومة المدفعيّة، يبلغ طوله نحو الميل ويحتضن ما يقارب 7000 إلى 8000 مواطن نصفهم من المسيحيّين من المذاهب المختلفة والنصف الثاني من المسلمين. يحكمها آغا هو في الوقت عينه مسؤول الجمارك، يعيش مع نحو عشرين موظّفًا، هم الأتراك الوحيدون في المدينة، في حين أنّ العسكر مؤلّف من المواطنين المحلّيّين، ويبلغ عدد الجنود نحو مئتين. وهناك بقرب البحر قصر قديم فيه ستّة مدافع هي كلّ ما يمكن تسميته معدّات عسكريّة وفيه مقرّ العسكر. هناك أيضًا برج مهدّم معروف ببرج البحر. إضافة إلى بعض الأبراج على السور. المارينو كما يسمّيه السكّان يشتمل على رصيف لتحميل البضائع. الأسواق والشوارع والأبنية السكنيّة والمحالّ التجاريّة في المدينة كلّها مبنيّة بشكل جيّد لم أجد له مثيلًا في المناطق الساحليّة التي زرتها. الشوارع واسعة تسمح بالمرور بسهولة من دون الاستعانة بالعربات، وكلّ الشوارع مرصوفة بالحجارة الكبيرة. تزخر الأسواق بالبضاعة الواردة من أوروبّا تضاف إليها الأنواع المختلفة من المؤن والبضائع. المنازل جميلة وفسيحة وحسنة البناء، وبعض المحالّ التجاريّة قرب الشاطئ شبيهة بتلك التي نجدها في موانئ بريطانيا».

أنطون دي ترويا

في السنة 1442م، زار أنطون دي ترويا بيروت بمهمّة من الفاتيكان، ووصف المدينة في مدوّناته التي أوردها الأب هنري لامنس في كتابه «رحلة الأخ غريفون إلى جبل لبنان». وممّا كتبه دي ترويا في وصف سكّان بيروت في أواسط القرن الخامس عشر: «وفي أسواقها الضيّقة، وطرقها الملتوية، تزدحم الأقدام. فمن أصحاب العمائم، أو الكفاف الحريريّة، ومن لابسي البرانس البيضاء أو المضربيّات، ومن هو مدجّج بالأسلحة المطعّمة بالذهب والفضّة والنحاس بأشكال من النقوش البديعة... وكم من تاجر وأمير خطير يتعثّر بحمّال فقير. فيها التقت جميع اللغات، وتعارضت الألوان والأصوات: فمن الزنجيّ السودانيّ، إلى الشركسيّ الأبيض، ومن الروميّ النزق إلى البدويّ الشديد، ومن اليهوديّ الملتوي إلى الإسبانيّ المتغطرس، وقد اختلط بهم تجّار البندقيّة وجنوا وبيزا»(٣).

دو سان جيرمان

«شهدت التجارة في بيروت في ذلك الوقت، ازدهارًا أكثر من أيّ ميناء آخر، وكانت في تقدّم مستمرّ، كما شكّلت مخزنًا لمدينة دمشق وللجوار. وفي عهد الأمويّين بيروت هي مرفأ دمشق Le principal port de Syrie. وكنت ترى في بعض الأحيان أكثر من سبعة وعشرين مركبًا، ويقول بعض السكّان إنّ هذا العدد قليل وهو يرتفع في بعض المواسم. ويقال إنّه في السنة الماضية رست ثلاث سفن آتية من مالطا ومحمّلة بالبضائع البريطانيّة من أقمشة قطنيّة وموسلين وملابس وبن وبهارات وغير ذلك بقيمة خمسين ألف دولار، وكلّها بيعت خلال خمسة أيّام. مناخ بيروت صحّيّ، فقربها من البحر والجبل في آن واحد يعطي الجوّ طراوة. حيثما تجوّلت في بيروت تجد آثارًا تشهد لعظمة هذه المدينة الرومانيّة، هنا أعمدة ضخمة من الغرانيت، وهناك بقايا أبنية قديمة، ويبدو واضحًا أنّ المدينة الحاليّة مبنيّة على مدينة أخرى».

«في صباح يوم جميل ودافئ وصلت إلى بيروت. من البدء أسرت هذه المدينة نظري. منظر المباني المرتفعة المتناظرة والتي تشبه مثيلاتها في أوروبّا، ولكن مع قباب ومآذن، وثكنة المدفعيّة المنتصبة على التلّة، ومبنى الكلّيّة الأميركيّة، الذي يضمّ مدرسة طبّيّة، وكنيسة الكبّوشيّين، مبان متعدّدة، رسميّة كانت أو خاصّة، ثكنات وفنادق ووكالات ومستودعات، كلّهم أعطوا المدينة مظهرًا يجعل منها ضرورة في هذا الشرق.

تعدّ بيروت واحدة من أكثر المدن التجاريّة في آسيا الصغرى، وأهمّها، بلا شكّ على ساحل سوريا، حيث يبلغ عدد سكّانها ثمانين ألف نسمة. ترى المدينة وكأنّها تنحني باتّجاه البحر، مع بيوتها العديدة وقبابها وشرفاتها،  وقناطرها، وفيلّاتها المتألّقة ببياضها، أو اللامعة بالألوان المبهرة، والمتوّجة بأشجار الصنوبر العملاقة، فتبدو وكأنّها امرأة مغناج تذهب إلى الشاطئ لتظهر مفاتنها، وتتأمّل موجات البحر اللازورديّة.

من النظرة الأولى إلى المدينة، وبفضل الطرقات التي تتلاقى هنا، نرى كم ازدهرت حركة التجارة والصناعة في ظلّ تلاق كبير بين الأعراق المتنوّعة. هنا تقابل الموارنة مع الدروز والمسلمين العرب إلى جانب الأتراك واليونانيّين والأرمن. كلّهم يعيشون هنا وينشطون في أعمالهم وكأنّ المدينة تحولّت إلى بابل للغات والأزياء.

ورغم أنّ شوارع بيروت ضيّقة وقصيرة والاهتمام بها قليل، إلّا أنّ المنازل غالبًا ما تخبّىء خلف جدرانها أكثر ما يمكن للخيال العربيّ من أن يبدعه... توجد دهاليز أرضيّاتها من ألواح رخام ملوّن، بتصميمات عجيبة، أمّا الجدران فهي مزيّنة بلوحات وزخارف وأحيانًا مطعّمة بأرابيسك؛ وهناك غرف مصمّمة بشكل نضر، فيها مجالس وهناك الأركيلة المصنوعة من الكريستال والمزيّنة بنقوش فضّيّة في دلالة على ذوق رفيع وصناعة رائعة. باختصار، كلّ مظهر الثروة، معزّز بتفاصيل من الفخامة الشرقيّة، لم أكن لأجد مثله»(٤).

ريتشارد كورتامبير(٥)

يقول ريتشارد كورتامبير عند وصوله الى ميناء بيروت: «ندخل إلى مرفأ بيروت، المدينة البحريّة المهمّة الوحيدة في سوريا التي تشبه سلطانة تتّكئ على وسادة خضراء وتحدّق في الأمواج، وتغرق في غموضها الحالم. لقد وجدت، في جوهرها النقيّ الأصيل وطابعها الشرقيّ، أنّ هناك شخصيّة في مظهرها، تمزج بين اللامبالاة والنعاس الفكريّ، بطريقة ماكرة وتفتقد إلى الثقة، ووجدت معنى ضعيفًا أو رهيبًا في تلك العيون السوداء، ووقاحة في هذه الخطوات الجادّة، ووجدت الفخر حتّى في هذه الأزياء الخشنة!... فكم هو عظيم هذا الانحلال، وهذا الجلال المظلم في هذا الخراب. في الأوقات العاديّة، سكّان بيروت هم تلخيص لمجمل سكّان سوريا، أتراك ودروز وموارنة، يهود ومتاولة، عرب وأرمن ويونانيّون، ولا ننسى الأوروبّيّين الغربيّين، المنغمسين في أعمالهم المحلّيّة. نجد هنا تجّار دمشق وحلب، والحجّاج المتّجهين إلى مكّة أو إلى القدس، وهم يعبرون مع بعضهم بعضًا، وتصطفّ على جوانب الشوارع المتاجر الصغيرة حيث يقف اليهود والمسلمون بلا حراك في وسط بضائعهم. وهنا أيضًا كما هو الحال في لوحات الفنّان ديكامب رجل تركيّ يدخّن في غليونه الطويل، غير مهتمّ بالزبائن ويجلس مرتاحًا بين رزم البالات والجرار، وإلى جانبه، بعض التجّار الذين يتناقشون بحدّة، وعلو أصواتهم غير قادر على إزعاج هدوء هذا التركيّ العجوز. هنا أيضًا، يمشي الحمّالون منحنين تحت أثقالهم، والنساء المحجّبات يعبرن بخطى بطيئة، ثمّ يغرقن في ظلمة الأقبية المؤدّية إلى منازلهنّ، وتمرّ الجمال المحمّلة بالأقمشة يقودها عرب بوجوههم القاسية وبشرتهم المحروقة من أشعة الشمس.

ومن بعيد، أسمع موسيقى تصدر عن مزامير وطبول الفرق العسكريّة، واسمع أيضًا، أصوات المؤذّنين العالية التي تصدح خمس مرّات في اليوم، تدعو بغرابة ومهابة المسلمين إلى الصلاة».

أندريه غيجر

ويصف أندريه غيجر بيروت عندما زارها في العام 1932 فيقول «عند حواف الأمواج، صخور رأس بيروت الحمراء، ورأس كان في يوم ما محصّنًا، وشريط ذهبيّ من الرمال، أمّا المدينة فتغتسل بالمياه التي تداعبها، وتنتشر أحياؤها على التلال، وكتلة العمران فيها مزيّنة بقباب المساجد ومآذنها، وأجراس الكنائس. وهناك المستشفيات والأديرة، والجامعات التي تضفي بساطتها على أماكن وجودها بين المنازل والفيلات، وهذه البقع الحمراء المتنوّعة، والسقوف المربّعة، وممرّات البلاط، والجدران البيضاء والورديّة المثقوبة بشرفات مغطّاة وسط الرياض الخضراء والحدائق ومجموعات أشجار السرو السوداء. الهواء فيها ذو نقاوة مثاليّة، ووئام الألوان لا يختلط بأيّ دخان أو ضباب، ولا يوجد شيء آخر غير السحر»(٦).

جيمس لويس فارلي

جيمس لويس فارلي، مصرفيّ وديبلوماسيّ إيرلنديّ، عاش في بيروت بين 1856و1858 وكتب عنها فقال: «قلّة قليلة من الناس، تعرف أيّ شيء عن بيروت، وهي مكان، ينضح جمالًا خلّابًا لا مثيل له في سوريا، مثلما يتفوّق على كلّ ما عداه في الأهمّيّة التجاريّة. هي «بيروت الجميلة»، وجمالها «ليس فقط شريط ذاكرة، مغمور بألف معنى عميق ومشعّ بألوان مشرقة، يجعل منها أرقى مناطق الأرض، بل عبر الإقامة داخل أسوارها، حيث الواقع يضاهي خيالًا أكثر الصور التي قد تخطر على بال. وليس فقط المشهد الرائع، حيث الجبل بطيّاته المخمليّة، وشلّالاته التي تشبه الخيوط الفضّيّة، والقمم التي تعلوها الثلوج. وليس فقط الشواطئ الذهبيّة، والحدائق الغنيّة التي تمتدّ وراء أسوارها الشاهقة، والقرى ذات الهواء المنعش والمشاهد الرومانسيّة مع حظائر دود القز. وليس فقط البحر الأرجوانيّ والسماء الورديّة. وليست كلّ هذه فقط تزيّن بيروت القديمة بمثل هذا المجد. لا يوجد مكان ستجد فيه منظرًا أكثر روعة ممّا تراه العين ونحن نقترب من بيروت، ومن مكانك في البحر، ترى قمم جبل لبنان مرتفعة عالية، تلمع تحت ضوء الشمس، وتحوط بها خطوط عريضة من التلال المتموّجة، فيبدو المشهد وكأنّ جزيرة خرافيّة تطفو في السماء. عند الاقتراب من شواطئ معظم البلدان لن تجد شيئًا يستحقّ رؤيته، أمّا هنا فسترى مشهدًا طبيعيًّا رائعًا يستحيل أن تتخيّله أو تعثر على شبيه له في مكان آخر. وبينما تواصل السفينة الاقتراب من الساحل يتوسّع المشهد، ويكشف عن سحره، حيث ترى البيوت تتناثر فوق السهل الذي يمتدّ بين البحر والجبل، وتتألّق تحت أشعّة الشمس في وسط الأشجار التي تحوط بها، ويأتي النسيم من البرّ محمّلًا بروائح بساتين البرتقال. أنت الآن في خليج بيروت، حيث يمتدّ نتوء جبليّ طويل في البحر، وهناك في البعيد سترى أبراج المدينة ومآذنها، ومن خلفها تظهر قمّة جبل صنّين المغطّاة بالثلوج. تستحقّ بيروت أن تكون عاصمة هذا البلد الجميل، فهي تمتدّ نزولًا إلى الشاطئ، وتنزل عبر منحدر لطيف لتلّ ساحر، فيما رأسها في الغيوم، وقدماها في مياه البحر، وكأنّها سلطانة ساحرة تتّكئ برشاقة على وسادة من المخمل الأخضر، تشاهد الأمواج بلا مبالاة وكسل حالم. شرفات بيروت مليئة بالزهور وبيوتها بأقواسها النحيفة وسقوفها المسطّحة، تعلوها كوّات من الحجر أو درابزينات من الخشب، وهناك بساتين أشجار التوت الأبيض المنتشرة حول جوانبها؛ وأشجار النخيل المحلّقة نحو السماء، والألوان الحيّة لجدرانها المطليّة باللون الأحمر أو الأزرق، ومآذن مساجدها، وجوّها الهادئ والمشرق دائمًا وسماؤها الصافية والمفتوحة، ليندمج كلّ هذا في لوحة واحدة كبيرة وجذّابة»(٧).

سور بيروت

يذكر المؤرّخون أنّ بيروت عاشت لقرون داخل سورها الذي هدم وأعيد بناؤه مرات عديدة، وكان طول السور 750 مترًا وعرضه 370 مترًا، وكانت المدينة تقع بين ساحة البرج وساحة رياض الصلح. ولم تكن أسوار بيروت منتظمة ولا مستقيمة، ومع ذلك عرفت المدينة عند بعض المؤرّخين بالمدينة المربعة.

يرد ذكر سور بيروت في معظم المؤلّفات التاريخيّة القديمة وبعض لوحات الرسومات الفنّيّة لرحّالة ورسّامين أوروبّيّين بخاصّة من فنّاني المدرستين الفرنسيّة والإنكليزيّة،  وبعض الصور الفوتوغرافيّة القديمة.

ولا يوجد مصدر يحدّد تاريخ إنشاء السور ولكنّ معظم الباحثين يرون أنّه تأسّس مع تأسيس المدينة خلال العصرين الكنعانيّ والحثّيّ، ويرجّحون أنّ ارتفاعه كان خمسة أمتار وسماكته أربعة أمتار عند القاعدة وثلاثة أمتار عند القمّة. مبنيّ من حجر المدينة الرمليّ. وقد وصف العالم الفرنسيّ الكونت دومنيل دو بويسون سور بيروت وأبوابها في رسالة سمّاها «استحكامات بيروت وتحصيناتها القديمة» رسم فيها مخطّطًا للسور السنة 1831م تبدو معه بيروت مدينة شبه مربّعة.

كان سور بيروت القديمة وقلعتها وحصنها خطّ الدفاع المنيع عن المدينة، ولكن مع خروج إبراهيم باشا وجيشه منها السنة 1840 أخذ السور يتهاوى ويتداعى في أكثر نقاطه، وكانت بقايا أبوابه ما تزال ظاهرة للعيان في مطلع عهد الانتداب كباب يعقوب وباب السراي وباب الدركة. كان سور بيروت يمتدّ من شمال ساحة رياض الصلح حيث مبنى البنك العربيّ اليوم، إلى الشرق حتّى كنيسة مار جرجس المارونيّة، ثمّ يمتدّ جنوبًا إلى سوق أبي النصر الذي كان خارج السور، حتّى بناية دعبول تجاه جامع السراي (جامع الأمير منصور عسّاف)، ثمّ ينحدر شمالًا حتّى آخر شارع فوش عند المرفأ، ويمتدّ غربًا حتّى جامع المجيديّة، ثمّ يعود فيمتدّ بمحاذاة جامع المجيديّة إلى الغرب من زاوية الإمام الأوزاعيّ على مدخل سوق الطويلة، ثمّ إلى كنيسة الكبّوشيّة (وكانت خارج السور) إلى أن ينتهي عند ساحة رياض الصلح.

هنري غيز

وصف قنصل فرنسا هنري غيز في لبنان بيوت بيروت في مطلع القرن فقال: «واجهات البيوت مبنيّة على الغالب بحجر غير منحوت، وأخذت الأيّام على عاتقها تلوينها، يعاونها في ذلك المطر والدخان والغبار، ولمّا كانت الأخشاب أيضًا تستعمل كما أوجدتها الطبيعة، أي بلا صقل، فالأبواب والنوافذ، تكون في أغلب الأحيان من لون الجدران. يجب ألّا نحسن الظنّ بتنسيق البيوت وترتيبها، فعلى من يريد الدخول إليها أن يحني رأسه قليلًا أو كثيرًا تبعًا لقامته، وإذا أراد أن يطلّ من النافذة أن يزجّ جسمه بانحراف إذا كانت بدانته تفوق المعدّل قليلًا، فعلوّ الشبابيك على الأكثر متر واحد، وعرضها 75 سنتيمترًا، ويفصل بينهما حاجز صغير، وهذا التدبير الذي يلجأون إليه ضروريّ لحماية الصغار، إذ إنّ هذه الشبابيك تقوم على ارتفاع 15 سنتم من أرض البيت. ومنذ مدة ليست بالبعيدة كاد الزجاج يكون غير معروف في بيروت، أمّا الآن فإنّنا صرنا نجده في منازل الأغنياء».

وتصف مواطنة فرنسيّة تدعى بوجولا بيوت بيروت فتقول: «إنّ منازل بيروت المبنيّة بالحجارة، عالية أكثر منها في أيّة مدينة من مدن سوريا، فقبابها وسراديبها السرّيّة وممرّاتها المظلمة وشوارعها الضيّقة والملتوية تبعث لأوّل وهلة نوعًا من الهلع في نفس السائح الذي يريد أن يطوف في أنحائها. إنّ كلّ بيت يؤلّف مخبأ لا يقتحم، ويمكن القول إنّ كلّ واحد منها يصلح لأن يكون مركز دفاع».

حياة البيروتيّين

جاء في قصص سلام الراسي «زوايا خبايا، سلسلة الأدب الشعبي»: معروف أنّ اللبنانيّين في الماضي حتّى مطلع القرن العشرين كانوا يستعملون غالات خشبيّة لأبواب بيوتهم، وحتّى مفاتيح هذه الغالات كانت من الخشب أيضًا، ولم تكن هناك نوافذ زجاجيّة للبيوت، والباب هو المنفذ الوحيد لا يغلق إلّا عندما يأوي جميع أفراد البيت فينجر الرجل بابه وينام، وهكذا يقال (من الفجر للنجر)».

وعن أشجار بيروت قال سلام الراسي «في ذلك الزمان كانت الجمّيزة صديقة البيروتيّ، كلّ بيت في بيروت أمامه شجرة جمّيز يلعب تحتها الأولاد، وتجلس على مصطبتها كلّ مساء نساء العائلة يدخّنّ الأراكيل، يمضغن المسك ويشربن البيلسان والبابونج، بينما يصعد ربّ العائلة إلى عرزاله المشدود في قلب الشجرة فينام فيه سيّدًا رفيع الجانب». إلّا أنّ محمد علي باشا أمر بقطع أشجار الجمّيز لحاجته إلى جذوعها الخشبيّة، فاختفت من التراث البيروتيّ ولم يبق لها ذكر إلّا في تسمية حيّ الجمّيزة.

ملابس البيروتيّين

ويذكر المؤرّخ كريمسكي في كتابه «بيروت وجبل لبنان على مشارف القرن العشرين» ما يلي: «كانت أزياء الرجال والنساء غريبة تليق بالمراسم منها بالبيوت، تشبه ملابس الأكراد، بعمائمها، وسراويلها، وقنابيزها المفقّشة، وكان الرجال يلبسون القميص على أبدانهم، ثمّ السروال القطنيّ المصبوع، والمنتيان(٨)، ثمّ يعتمرون العمّة ويتباهون بحجمها، ويحتذون المداس من السختيان(٩) الأحمر». أمّا النساء فيصف كريمسكي  لباسهنّ على الشكل التالي: «كنّ يلبسن القميص الطويل والقمباز المفقّش ويضعن على رؤوسهنّ الربطات الكبيرة أو القرص. وشاع الطنطور في لبنان وهو قرن مخروطيّ الشكل وكان يوضع فوق الرأس وياتي فوقه الشنبير فيغطّيه ويسدل إلى الرأس كاسيًا معظم البدن».

وفي الختام نذكر أنّ إنارة بيروت بمصابيح الغاز تمّت في العام 1887 وذلك بموجب اتّفاق عقدته بلديّة بيروت مع إحدى الشركات يتضمّن 500 قنديل لإنارة المدينة، وأن تدفع لها البلديّة لقاء ذلك ألفي ليرة عثمانيّة، فمتى ستعود الأنوار إلى المدينة التي لا تنام؟

Loading...
 

 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search