العدد الثالث - سنة 2021

09 - من زوايا التاريخ - المدارس المسكوبيّة - د. إسكندر الكفوري - العدد 3 سنة 2021

قلّة قليلة من معاصرينا في لبنان وروسيا، تعرف عن تاريخ عمل المدارس الروسيّة (المسكوبيّة) في لبنان، سورية وفلسطين؛ والبعض حتّى لم يسمع بها، رغم الأهمّيّة الكبرى التي شكّلتها في الحياة اللبنانيّة والسوريّة والفلسطينيّة، عبر تنشئة أجيال جديدة مثقّفة واعدة عشيّة القرن العشرين.

المدارس المسكوبيّة هي المدارس التي أطلقتها الجمعيّة الأمبراطوريّة الأرثوذكسيّة الفلسطينيّة بمرسوم من القيصر الروسيّ ألكسندر الثالث، لتعليم الأطفال والفتية اللبنانيّين والفلسطينيّين والسوريّين، ونشر المعرفة بين أفراد هذه الشعوب الذين لم يكن بوسعهم ارتياد مدارس الإرساليّات الغربيّة. في لبنان، افتتحت أوّل مدرسة مسكوبيّة في العاصمة بيروت في 22 أيلول العام 1887 بإشراف القنصل الروسيّ العامّ قسطنطين بيتكوفيتش.

بلغ عدد هذه المدارس على أراضي لبنان وسورية وفلسطين 114 مدرسة، منها 42 مدرسة في لبنان وحده، تخرجّ منها أكثر من 15 ألف طالب من الدول الثلاث. انتشرت هذه المدارس على كامل الجغرافيا اللبنانيّة والسوريّة والفلسطينيّة، فكانت تتركّز بشكل أساس في المدن والقرى التي يغلب عليها وجود الطائفة المسيحيّة الأرثوذكسيّة، ابتداء من بيروت إلى مرجعيون في أقصى الجنوب وراشيّا الفخّار وحتّى طرابلس في الشمال والكورة وعكّار وصولًا إلى مدينة زحلة في البقاع ومشغره وراشيّا الوادي، وبالطبع مرورًا بالجبل من سوق الغرب والشويفات والحدث إلى بسكنتا وبتغرين. 

الراعي الرسميّ للمدارس المسكوبيّة هي الجمعيّة الأمبراطوريّة الأرثوذكسيّة الفلسطينيّة التي أشرفت عليها بشكل مباشر، إضافة إلى الكنيستين الأرثوذكسيّة الروسيّة والأرثوذكسيّة الأنطاكيّة. أوّل رئيس للجمعيّة التي كانت تدير هذه المدارس هو الدوق الأكبر سيرغي ألكسندروفيتش عمّ القيصر نقولا الثاني. أمّا رؤساؤها الفخريّون فكثر، وهم دائمًا من القياصرة ومن أعضاء السلالة الحاكمة، فيما تمويلها المباشر كان من خزينة القيصر ومن تبرّعات المؤمنين في الكنائس الأرثوذكسيّة الروسيّة. كان يشرف عليها اختصاصيّون وأساتذة من روسيا ومن لبنان وفلسطين وسورية، أمّا تلامذتها فكانوا بغالبيّتهم من أبناء الفقراء في المذهب الأرثوذكسيّ ومن مذاهب أخرى مسيحيّة وإسلاميّة.

بتوجيه من الدوق الأكبر سيرغي ألكسندروفيتش اتّبعت هذه المدارس في نهجها هدفًا إنسانيًّا وأخلاقيًّا، إذ أخذت على عاتقها تعليم الأطفال من دون أن تعرف التمييز أو التفرقة، فضمّت في صفوفها إلى جانب التلامذة الأرثوذكس، تلامذة مسلمين ودروزًا. وقام المرشدون والمدرّسون العرب والروس بعمل كبير لتطوير البرامج والمناهج لتتلاءم ومتطلّبات أبناء المنطقة. وتحلّت هذه المدارس بالانضباط التامّ والتقيّد بقواعد الأخلاق العامّة والاحترام، ولم يكن يسمح للتلامذة إلّا بالسير مرفوعي الرؤوس وبشكل مستقيم، كما كان الالتزام بالنظافة والترتيب أمرًا أساسيًّا، واستعملت مناهج جديدة تجريبيّة في تلقين التلامذة. أمّا مواد التدريس فكانت باللغة العربيّة على خلاف الإرساليّات الأجنبيّة التي تجاهلت كلّيًّا لغة السكّان المحلّيّين أي اللغة العربيّة، كما كانت هناك حصص باللغة الروسيّة ودروس بالرياضيّات والعلوم والتاريخ والجغرافيا والرسم والموسيقى وغيرها. أعطى السكّان المحلّيّون الأفضليّة للمدارس الروسيّة، لأنّ أساتذتها تمتّعوا بكفاءة عالية مشهودة وبرامجها شهدت تطوّرًا خلّاقًا ومستمرًّا، كما أنّ التعليم فيها كان مجّانيًّا بالكامل، في حين شكّل التعليم في الإرساليّات الأجنبيّة الغربيّة عبئًا على الأهالي من حيث التكاليف الماليّة، ومنع منعًا باتًّا في المدارس المسكوبيّة استيفاء أيّة رسوم سواء أكان التلامذة من الفقراء أو الأغنياء. وطوال فترة التعليم تلقّى تلامذة المدارس المسكوبيّة الأقلام والكتب والدفاتر وكلّ حاجيّاتهم وحتّى الزيّ المدرسيّ مجّانًا. ولذلك فإنّ ارتباط السكّان المحلّيّين بهذه المدارس كان وثيقًا وارتكز على المحبّة والتعاون الوثيق المستمرّ.

حقّقت المدارس المسكوبيّة نجاحات باهرة في منطقتنا، وأكبر دليل التوسّع المتزايد بأعدادها وانتشارها إلى حدّ أن وصل بمرشديها إلى التفكير في افتتاح جامعة روسيّة في بيروت صيف العام 1913. تركت هذه المدارس تأثيرًا مباشرًا في تعليم عدد كبير لا يستهان به من أبناء البلاد على عتبة القرن العشرين، تجاوز خمسة عشر ألف خرّيج، وهو رقم كبير نسبيًّا ويعتدّ به بالنسبة إلى عدد السكّان حينها. وأرسلت العديد من خرّيجيها لمتابعة دراستهم العليا في روسيا، كما شكّلت تلك المدارس منارة علم ووعي وأحدثت نقلت نوعيّة في المعرفة والتعليم. وجّهت هذه المدارس نشاطاتها بشكل أساس إلى مجتمعات الطائفة المسيحيّة الأرثوذكسيّة في الدول العربيّة الثلاث الآنفة الذكر مع عدم تمييزها بين الطلّاب، فاستقبلت أعدادًا كبيرة أيضًا من التلامذة المسلمين والدروز، وكانت قدوة في تثقيف الأجيال الطالعة على المحبّة وعدم التفرقة.

وفّرت المدارس المسكوبيّة العديد من المزايا لتلامذتها فلم تفرض أيّة رسوم على التلامذة  على عكس الإرساليّات الغربيّة، ومن مزاياها إعطاء الدروس باللغة العربيّة. وجرى تعريب المناهج وبرامج التعليم وهذه ميزة لم تكن تتوفّر في مدارس الإرساليّات الأخرى، ووفّرت المساعدة الشاملة للتلامذة على التعلّم فضلًا عن تأمين العناية الطبّيّة مجّانًا.

توقّفت هذه المدارس عن العمل بعيد اندلاع الثورة الاشتراكيّة في روسيا العام 1917، وأيضًا بسبب اندلاع الحرب العالميّة الأولى. وشنّت السلطات العثمانيّة المحتلّة لبلادنا حربًا شعواء على هذه المدارس لإغلاقها، بخاصّة وأنّ روسيا وتركيا كانتا على طرفي نقيض في الأحلاف المتنازعة في الحرب العالميّة الأولى.

شكّلت المدارس المسكوبيّة أهمّيّة كبرى في التطوّر التعليميّ والتنشئة العلميّة في لبنان وسورية وفلسطين، وساهمت مساهمة كبيرة في تعليم أجيال نهاية القرن التاسع عشر مطلع العشرين في بلادنا، كما قدّمت نموذجًا يحتذى به في الأخلاق والتسامح والمعرفة والتضحية والمساعدة، ترك أثره طويلًا في مجتمعنا.

المدارس المسكوبيّة، عدا أنّها كانت رافعة علميّة، فهي كانت أيضًا منبرًا للتواصل والتعاون بين لبنان وسورية وفلسطين من جهة وروسيا من جهة أخرى، وعزّزت عرى العلاقات الصادقة بين منطقتنا وروسيا وشعوب هذه المنطقة والشعب الروسيّ، الذي كان يجمع (فلس الأرملة) من كنائسه ليرسله إلى بلادنا من أجل مساعدة أبنائنا على التعلّم والتطوّر.

رغم طيّ صفحة هذه المدارس، إلّا أنّنا نؤكّد أهمّيّة ما قدّمته لبلادنا في حقبة مصيريّة، ونتطلّع إلى مواصلة هذا التعاون المثمر بين شعوبنا، في وقت أصبحنا فيه أحوج ما نكون إلى مثل هذه الربط التي لا تدخلها أيّة مصالح ونيّات مغرضة.

توزّع المدارس الروسيّة (المسكوبيّة) في لبنان حسب إحصاءات العام 1912 (وفق التقسيم الإداريّ الحاليّ)

قضاء بيروت:

المحلّة                                 عدد التلامذة

المصيطبه                               360

المزرعه                                 156

رأس بيروت                           68

الرميل الأشرفيّه                      310

الرميل  (2)                     157

 

الجنوب:   

البلدة                             عدد التلامذة

عيتا الفخّار                               199

جديدة مرجعيون                282

راشيّا الفخّار                            167 

صور                                      93

حاصبيّا                                   181

 

الشمال:

المدينة أو البلدة                        عدد التلامذة

طرابلس                       301

الميناء                            465  

أميون   (الكوره)            227

كوسبا    (الكوره)                    260

دوما     (البترون)                   258 

بينو      (عكار)              212

الشمال:

المدينة أو البلدة                        عدد التلامذة

دير دلوم (عكّار)            49

جبرايل   (عكّار)                    91

منياره    (عكّار)             155

رحبه     (عكّار)                      182

الحاكور  (عكّار)                    65     

جبل لبنان:

البلدة                               عدد التلامذة

الحدث                          124

بسكنتا                                  108

سوق الغرب                  141

بتغرين                          266 

الشويفات                      230

البقاع:

البلدة                                   عدد التلامذة   

زحله                                       113

المعلّقة                                    173

الكفير                                      160

راشيّا الوادي                            226

مشغره                                    63 

ملاحظة: عدد المدارس في لبنان كان 42 مدرسة وفي الجدول كما يتبيّن هناك 31 مدرسة، ولكنّ بعض المدن والبلدات ضمّت أكثر من مدرسة، ففي المصيطبه على سبيل المثال كانت هناك مدرستان واحدة للبنات وأخرى للصبيان بعد تشييد مبنى خاصّ لهم في العام 1907.

Loading...
 

 

 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search