العدد الثالث - سنة 2021

10 - دراسة كتابيّة - النحل والعسل في المسيحيّة - ندى وازن صبحيّة - العدد 3 سنة 2021

ترد عبارتا «النحل» و«العسل» مرّات عديدة في الكتاب المقدّس، فما هو دورهما؟ وهل اكتسبا فيه الأهمّيّة التي أولتهما إيّاها الشعوب القديمة؟ وكيف نظرت المسيحيّة إلى النحل وإلى تربيته؟

النحل عند الشعوب القديمة

1-بلاد ما بين النهرين

كان النحل يُعرف باسم «لال/ lal»، وكان له نوع من التقديس إذ كانت نحلة العسل تُمثّل أحد الرموز الدينيّة. وأوّل كتابات حول النحل والعسل في هذه المنطقة كتبها  السومريّون على ألواحٍ يعود عمرها إلى 4000 ق.م. كذلك كان العسل من الأغذية المهمّة التي كانت تُقدم قربانًا للآلهة في بعض الطقوس العباديّة.

2-مصر

 اعتبر المصريّون القدماء النحل مقدّسًا لأنّه هديّة من الإله «رع» (إله الشمس)، وقد صُنع من دموعه كما ورد في إحدى الأساطير: «حين يبكي «رع»، فإنّ دموعه التي تنساب على الأرض تتحوّل إلى نحل، فيعمل النحل في الزهور والأشجار، من كلّ نوع، ويُنتج الشمع والعسل»(١). استخدم قدماء المصريّين إذًا هذه الأسطورة لتفسير كيفيّة مجيء النحل والعسل إلى العالم. وكانوا يؤمنون بأنّ نحل العسل صديق الإنسان ومساعده في طرد الأرواح الشريرة. من هنا نجد على مقابر الفراعنة (3200 - 2780 ق.م) العديد من رسومات النحل، كما تزيّن العديدَ من معابدهم لوحاتٌ تبيّن عمليّة تربية النحل وجني العسل وتخزينه.

3- كنعان

 اشتهرت كنعان بالعسل منذ الأزمنة القديمة إذ يُسجّل تحتمس الثالث فرعون مصر (1483-1450 ق.م.) أنّه أحضر المئات من جرار العسل التي أخذها جزية من أرض كنعان. كما يذكر «سنوحى» الرحّالة المصريّ -في عهد الأسرة الثانية عشرة (نحو 1950 ق.م.)- عن هذه الأرض أنّ «عسلها كثير وزيتونها وفير». بالإضافة إلى ذلك توصف أرض كنعان في كتابات أوغاريت بأنّها البلاد التي تقطر سمواتها زيتًا، وتفيض أخاديدها عسلًا. وأفاد العلماء أنّ خلايا النحل المكتشفة مؤخّرًا تدلّ على تربية النحل في كنعان قبل 3000 عام.

النحل والعسل في الكتاب المقدّس

1-العهد القديم

ليس للنحل في العهد القديم أيّ رمزيّة دينيّة، كما أنّه يظهر مخيفًا أكثر منه نافعًا، فهو يمثّل صورة العدو:

في الحديث عن الأمّوريّين الذين هاجموا الشعب العبريّ وطردوه:

تثنية1: 44: «فخرج الأموريّون الساكنون في ذلك الجبل للقائكم وطردوكم كما يفعل النحل، وكسروكم في سعير إلى حُرمَة».

في الإعلان عن اجتياح يهوذا:

أشعياء7: 18: «ويكون في ذلك اليوم أنّ الربّ يصفر للذباب الذي في تُرع مصر، وللنحل الذي في أرض أشور...»

في تشبيه الأعداء الذين يهدّدون الشعب العبريّ:

مزمور 118: 12: «أَحَاطوا بِي مِثْلَ النحْلِ. انْطَفَأوا كَنَارِ الشَّوْكِ. بِاسْمِ الرَّبِّ أُبِيدُهُمْ».

في هذه الآيات استُخدمت الكلمة العبريّة «deb ora/ نحلة». والصورة الأكثر وضوحًا التي تؤكّد أنّ عبارة ديبورا تعني نحلة هي في الفصل الشهير من قصّة شمشون حيث اكتشف في جثّة الأسد قفيرًا من النحل والعسل:

قضاة 14: 8: «وَلَمَّا رَجَعَ بَعْدَ أَيَّامٍ لِكَيْ يَأْخُذَهَا، مَالَ لِكَيْ يَرَى رِمَّةَ الأَسَدِ، وَإِذَا دَبْرٌ مِنَ النَّحْلِ فِي جَوْفِ الأَسَدِ مَعَ عَسَل».

يجب أن ننتظر القرن الثالث قبل الميلاد، حيث يُظهر كاتب سفر «يشوع بن سيراخ» تطوّرًا في الصورة، إذ يتكلّم على النحل بصورة إيجابيّة ويعتبر أنّ «النحل صغير في الطيور وجناه رأس كلّ حلاوة»(٢).

«Debora» اسم علم

استُعملت كلمة «Debora» كاسم علم منذ القديم:

دَبورة مُرضعة رفقة زوجة إسحق.

تكوين35: 8: «وماتت دَبورة مرضعة رفقة ودُفنت في بيت إيل تحت البلّوطة...»

دَبورة النبيّة التي قادت شعبها في حربه ضدّ الكنعانيّين. إنّها نبيّة وشاعرة وقائدة عسكريّة عظيمة وحتّى قاضية يلجأ إليها الشعب للحصول على المشورة القانونيّة وتسوية قضايا المحاكم.

قضاة4: 4: «ودَبورة إمرأة نبيّة... هي قاضية إسرائيل في ذلك الوقت». 

Debora و Dabar

اسم «ديبورا» يعني «نحلة»، كما سبقت الإشارة، إلاّ أنّ عددًا كبيرًا من مفسّري الكتاب المقدّس ربطوا عبارة «ديبورا»(٣) بِعبارة «دابار»(٤)، الكلمة العبريّة التي تعني «كلمة» أو «كلام»، إذ إنّ جذر كلمة «ديبورا» هو «دابار». فما يقوم به النحل من تلقيح للأزهار أمرٌ أساس للحياة، وهكذا كلمة اللَّه. كلاهما إذًا «يعطيان» الحياة! هذا من جهة، ومن جهة أخرى يُنتج النحلُ العسلَ، الحلوَ الرئيس في الأيّام القديمة، ويعلن الكتاب أنّ كلام اللَّه أشدّ حلاوة من العسل. ويتضمّن المدراش(٥) تعليمًا مفاده أنّ التوراة تُشبّه بالنحل في طرائق عدّة. منها مثلًا أنّه كما أنّ لدغة النحلة تؤلم بمرارة، إلاّ أنّ عسلها حلوٌ، هكذا التوراة تُمرمر أولئك الذين لا يتبعون طريقها، وتحلّي حياة تابعيها.

وبالنسبة إلى القدّيس جيروم كلمة «ديبورا» تعني نحلة أو متكلّمة. وباعتبار أنّ كلمة ديبورا تصغير لكلمة دابار، فهمها الكتّاب اللاتين كـ«نحلة» أو «كُليمة» (كلمة صغيرة). ومع هذا الاقتراح تمّ إثراء تنوّع المعنى بشكل كبير:

فالقدّيس جيروم يقول أيضًا: «في سفر القضاة نقرأ عن «ديبورا» التي تعني«النحلة» التي نبوءتها أحلى عسل». هذا البعد المزدوج لاسم «ديبورا» أصبح شائع الاستخدام عبر الملاحظات التفسيريّة المستخدمة طوال العصور الوسطى: «ديبورا تعني  نحلة أو كلام/نبوءة».  

عند هذه النقطة يمكن للمفسّر أن يعتمد على تقليد آخر، موجود في الأدب النبويّ ذاته، يتحدّث عن النبوءة على أنّ لها حلاوة العسل، وكمثال على ذلك الدرج الذي أكله النبيّ حزقيال: «وَقَالَ لِي: «يَا ابْنَ آدَمَ، أَطْعِمْ بَطْنَكَ وَامْلأْ جَوْفَكَ مِنْ هذَا الدرْجِ الَّذِي أَنَا مُعْطِيكَهُ». فَأَكَلْتُهُ فَصَارَ فِي فَمِي كَالْعَسَلِ حَلاَوَة(٦).

مميّزات العسل

إذا كانت النصوص الكتابيّة لا تعطي أيّ أهمّيّة دينيّة للنحلة، إلّا أنّ ما تنتجه، أي العسل، مقدّرٌ جدًّا من اليهود القدماء. فالكتاب المقدّس يصف الأرض الموعودة بالأرض «التي تفيض اللبن والعسل». التعبير يرد أكثر من 15 مرّة في الكتاب المقدّس. والحديث عن «اللبن والعسل» هو حديثٌ عن خصوبة الأرض إذ كانت تُستعمل أحيانًا عبارتا «اللبن والعسل» وأحيانا أخرى عبارتا «الخمر والزيت». فالعسل يُعتبر إذًا رمزًا للوفرة ولعطايا اللَّه للإنسانيّة. وقد وردت كلمة «debash» للحديث عن «عسل النحل» كما في قصّة شمشون الواردة في (قضاة14: 8- 10).

من الآيات الواردة في الكتاب المقدّس يمكننا استنتاج الميزات التالية «العسل»:

أنّه طعام حلو ولذيذ كما ورد في: أمثال24: 13: «يَا ابْنِي، كُلْ عَسَلًا لأَنَّهُ طَيِّبٌ، وَقَطْرَ الْعَسَلِ حُلْوٌ فِي حَنَكِكَ».

أنّه يشبه المنّ في الصحراء: خروج16: 31: «وَدَعَا بَيْتُ إِسْرَائِيلَ اسْمَهُ «مَنًّا». وَهُوَ كَبِزْرِ الْكُزْبَرَةِ، أَبْيَضُ، وَطَعْمُهُ كَرِقَاق بِعَسَل».

أنّه مُنتج قدّمه أبناء يعقوب كهديّة لشقيقهم يوسف: تكوين43: 11: «فَقَالَ لَهُمْ إِسْرَائِيلُ أَبُوهُمْ: «إِنْ كَانَ هكَذَا فَافْعَلُوا هذَا: خُذُوا مِنْ أَفْخَرِ جَنَى الأَرْضِ فِي أَوْعِيَتِكُمْ، وَأَنْزِلُوا لِلرَّجُلِ هَدِيَّةً. قَلِيلًا مِنَ الْبَلَسَانِ، وَقَلِيلًا مِنَ الْعَسَلِ...»

أنه يُصدّر نحو مرفأ صور: حزقيال27: 17: في النبوءة على صور يورد: «يَهُوذَا وَأَرْضُ إِسْرَائِيلَ هُمْ تُجَّارُكِ. تَاجَرُوا فِي سُوقِكِ بِحِنْطَةِ مِنِّيتَ وَحَلاَوَى وَعَسَل وَزَيْتٍ وَبَلَسَان».

أنّه يُخزّن مثل الحبوب والزيت: إرميا 41: 8: «يوجد لنا خزائن في الحقل، قمح وشعير وزيت وعسل».

أنّه ينير العينين: 1صموئيل14: 27: «وَأَمَّا يُونَاثَانُ فَلَمْ يَسْمَعْ عِنْدَمَا اسْتَحْلَفَ أَبُوهُ الشَّعْبَ، فَمَدَّ طَرَفَ النُّشَّابَةِ الَّتِي بِيَدِهِ وَغَمَسَهُ فِي قَطْرِ الْعَسَلِ وَرَدَّ يَدَهُ إِلَى فِيهِ فَاسْتَنَارَتْ عَيْنَاهُ»

أنّه يُستخدم في التشابيه، للتعبير عن معانٍ مختلفة:

- كلمات العريس: (نشيد الأناشيد 5: 1): «قد دخلتُ جنّتي يا أختي العروس، قطفتُ مُرّي مع طيبي، أكلتُ شهدي مع عسلي ...».

- كلمات النُصح: (أمثال16: 24): «الكلام الحسن شهد عسل، حلو للنفس وشفاء للعظام».

- كلمات الإغواء: (أمثال5: 3): «لأَنَّ شَفَتَيِ الْمَرْأَةِ الأَجْنَبِيَّةِ تَقْطُرَانِ عَسَلًا...».

- كلمات اللَّه: (مزامير119: 103): «ما أحلى قولَك لحنكي أحلى من العسل لفمي».

أنواع العسل:

ولكن ما هي بالضبط طبيعة هذه المادّة وما هو مصدرها؟ من المرجّح أنّ كلمة «debash» تعني مادّة حلوة بشكل عامّ، والمعنى لا يسمح بالتأكّد  أنّه «عسل النحل» إلّا في قصّة شمشون في قضاة 14: 8- 9. وقد يكون:

- من إنتاج النحل البرّيّ:

كان يتساقط من جذوع الأشجار التي يتّخذ النحل من شقوقها خلايا له: 1صموئيل14: 25: «جاء كلّ الشّعب إلى الوعر وكان عسلٌ على وجه الحقل».

كان يوجد في شقوق الصخور: مزامير81: 16: «...وَمِنَ الصَّخْرَةِ كُنْتُ أُشْبِعُكَ عَسَلًا».

من إنتاج النحل الذي يربّيه الإنسان:

2أخبار الأيّام31: 5: «وَلَمَّا شَاعَ الأَمْرُ كَثَّرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ أَوَائِلِ الْحِنْطَةِ وَالْمِسْطَارِ وَالزَّيْتِ وَالْعَسَلِ، وَمِنْ كُلِّ غَلَّةِ الْحَقْلِ...»

- من مصدر نباتيّ:

هذا اللغط قد يكون ناتجًا من استعمال كلمات مشابهة لكلمة «debash» العبريّة، كما كلمة «دبس» في اللغة العربيّة، المصنوع من عصير العنب أو البلح، كما في:

 تكوين43: 11: «فَقَالَ لَهُمْ إِسْرَائِيلُ أَبُوهُمْ: «إِنْ كَانَ هكَذَا فَافْعَلُوا هذَا: خُذُوا مِنْ أَفْخَرِ جَنَى الأَرْضِ فِي أَوْعِيَتِكُمْ، وَأَنْزِلُوا لِلرَّجُلِ هَدِيَّةً. قَلِيلًا مِنَ الْبَلَسَانِ، وَقَلِيلًا مِنَ الْعَسَلِ...».

من المرجّح أنّه بالنسبة إلى العبرانيّين، كلمة «عسل» تعني «عسل النحل البرّيّ» أكثر منه «العسل النباتيّ».

العسل في الشريعة:

في النهاية نستطيع القول إنّ العهد القديم لم يضفِ هالة القدسيّة لا على النحل ولا على إنتاجه من العسل. حرّمت الشريعة تقديم العسل وقودًا للربّ، ولكن كان يمكن تقديمه قربان أوائل أو باكورة، (لاويين 2: 11- 12): «كُلُّ التَّقْدِمَاتِ الَّتِي تُقَرِّبُونَهَا لِلرَّبِّ لاَ تُصْطَنَعُ خَمِيرًا، لأَنَّ كُلَّ خَمِيرٍ، وَكُلَّ عَسَل لاَ تُوقِدُوا مِنْهُمَا وَقُودًا لِلرَّبِّ. قُرْبَانَ أَوَائِلَ تُقَرِّبُونَهُمَا لِلرَّبِّ، لكِنْ عَلَى الْمَذْبَحِ لاَ يَصْعَدَانِ لِرَائِحَةِ سَرُور».

2- العهد الجديد

في العهد الجديد لا ترد عبارة «نحلة» ولكن عبارة «عسل» ترد ثلاث مرّات.

1- يوحنّا المعمدان كان يأكل العسل البرّيّ. وهكذا كان يعتمد على النحل من أجل غذائه في البرّيّة، حيث تنعدم مظاهر الحياة: “وَكَانَ يُوحَنَّا يَلْبَسُ وَبرَ الإِبِلِ، وَمِنْطَقَةً مِنْ جِلْدٍ عَلَى حَقْوَيْهِ، وَيَأْكُلُ جَرَادًا وَعَسَلًا بَرِّيًّا”(مرقس1: 6).

2- بعد القيامة قدّم التلاميذ ليسوع سمكًا مشويًّا وشهد عسل: «فَنَاوَلُوهُ جُزْءًا مِنْ سَمَكٍ مَشْوِيٍّ، وَشَيْئًا مِنْ شَهْدِ عَسَل» (لوقا 24: 42). عبارة «شيئًا من شهد عسل» تغيب عن الكثير من المخطوطات. يقول القدّيس غريغوريوس النيصصيّ إنّ الشريعة فرضت أكل الفصح مع أعشابٍ مُرّة، لأنّ زمن المرارة كان ما يزال قائمًا، ولكن بعد القيامة تحوّلت هذه المرارة إلى حلاوة عُبّر عنها «بشهد عسل».

3- في رؤيا يوحنّا، أعطى الملاك السِّفرَ للقدّيس يوحنّا ليأكله، بصورة مماثلة لما حدث مع النبيّ حزقيال: «خذ هذا الكتاب وكُله. هو يملأ جوفك مرارة، ولكن في فمك يكون حلوًا كالعسل» (رؤيا يوحنّا 10: 9).

Loading...
 

 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search