الكلّ يلهف لمشاهدة جمال غروب الشمس، إن من على شاطئٍ أو من على شرفةٍ أو من على ارتفاع جبلٍ مطلٍّ ...، ليرتاحوا لمشهدٍ جميلٍ من هنا وآخر معبّر من هناك، وكلّ واحدٍ إنّما يقرأه من منظاره الخاصّ ويشعر به انطلاقًا من الحالة التي يعيش، فهذا يتمتّع بمنظرٍ أخّاذ، وذاك يتحسّر على يومٍ مضى لم يكن له.
قليلون هم الذين يبحثون عن شروقٍ، أبهى وأروع من أيّ غروبٍ مضى أو آتٍ ليمضي. شروق يحمل في طيّاته لا جمالًا فحسب إنّما معاني روحيّة جمّة، تسمو عليها البشارة بولادة يومٍ جديدٍ نجهل سرّه في الصباح عسى أن ندركه عند المغيب.
إنّ طلعتك يا شمس البقاع كطلعة عروسٍ يوم زفافها، وصفاءك يا شمس الجنوب ، كرنّات وديعٍ يعلي لبنان «قطعة سماءٍ»، ونورك يا شمس الشمال كلحن فيروزٍ ترندح دلعًا «شمسًا شمّوسةً». الدفء المنبعث منك كلمات صارخٍ للتوبة دعوةً في اقتراب الملكوت، وحرارتك نار روح خالقٍ يلهب العقل والقلب تمجيدًا، ووجهك ابتسامة أمٍّ تلتمس الخمر من يد وحيدها لكي تطيب الجلسة.
فأشرقي يا شمس أشرقي، ولا تأبهي لظلامٍ سيمّحي بحضورك، ولعيوب ليلٍ ستنكشف بوجودك، ولأسرار عشقٍ ستعلن في محكمتك.
فاستيقظي إذًا يا شمس استيقظي ولا تدعي نائمًا على الإطلاق،
أيقظي السماء والغيوم والضباب، أيقظي القمم والتلال والهضاب،
أيقظي البلابل والدواري والحساسين، أيقظي النحلة والزهرة والياسمين،
أيقظي الكسل تحت ألحفة الرقاد، أيقظي ضجيج الأحلام والسهاد،
أيقظي العسل في زهيرات الحقول، أيقظي الثلوج شلّالاتٍ للحقول،
أبشري يا شمس السماء والأرض أبشري، فهل من يعلم خفايا النهار،
أبشري برجاءٍ كاد الليل أن يخنقه، أبشري بالخير فسيادة الشيطان قد تربّعت في العقول، وظلمه قد تمدّد في القلوب.
ما سرّ جمالك يا فتاة؟ ما سرّ انتظام الأشياء حين تحضرين؟ ما سرّك كلّك؟ لماذا لا أستطيع النظر في عينيك؟ لماذا لا أستطيع أن أرى وجهك؟ من أنت أصلًا؟ من أين أتيت وإلى أين تذهبين؟
قولي أنت كلمةً فأرتاح أنا، عرّفي عن نفسك فعندي الفضول أن أعرف سيرتك.
يا شمس يا من تدرّين مجانًا كلّ احتياجات الخليقة، طاوعيني ببقاءٍ أطول، طاوعيني برؤيةٍ أوضح لهمومٍ تختبئ خلف ظلام السكينة، طاوعيني بتحقيق أحلام اللاغفوة، طاوعيني بتوبةٍ عن مساوئ الأمس، فلا بدّ من أن يعود حين تذهبين، لا بدّ من أن يعود الليل كعودة ثعلبٍ ينتظر غياب نورك، ليعيد تاريخ الأمسيّات القاحلة، ويلبسني رداءه الأسود، وتسودّ معه كلّ الأشياء، الشجر والأزهار والحقول والأنهر، وحتّى العصافير كلّ الطبيعة وكلّ الأشياء تسودّ حين ترحلين، والأسوأ أنّ قلوب البشر أيضًا تسودّ والعقول والأذهان والأخلاق والمبادئ والقيم، كلّ شيءٍ سواد قاتم في غيابك.
في غيابك تحضر أشنع أنواع الفساد، السرقة والقتل والزنى والتجديف واللعنات، وتكشف الأقنعة، وتضمحلّ المحبّة ويسود البغض والنميمة والأنانيّة.
فلا تشتركي يا جميلة في جرائم الإنسان لا تشتركي، بل أشركيه في عطاءاتك، أشركيه في محبّتك، كمحبّة وحيدٍ بذل نفسه ذبيحةً حيّةً مقبولةً، أشركيه في اقتحام أكواخ الفقراء رحمةً، وطرقات الضالّين نورًا، وأجساد المشرّدين دفئًا.
علّميه كيف تعطين من ذاتك الصالح والطالح، علّميه أنّ لولاك لا ثمار ولا شجر ولا حقول ولا نفس حياةٍ.
ما أعظم سرّك يا شمس، سرّ مكشوف، معروف، ملموس، سرّك كسرٍّ معلنٍ منذ البدء،
فأشرقي، هيمني، سيطري، سودي وتسلّطي،
كوني في النهار لكي يكون وفي الليل حتّى لا يكون،
كوني في الضجيج كوني في السكون،
كوني لمن للأرض يستوطنون،
فالشيوخ والكهلة والمراهقون، نحو الشرق بوجوههم يشخصون،
كوني للأطفال رسالة محبّة منك يتعلّمون،
كوني للرضّع رسالة سلامٍ لكي للمستقبل أجيال سلامٍ يشرقون.