آخذ الأطفال مثلاً وحيدًا في هذه المقالة.
هناك روايات كثيرة، سمعتها في حياتي، تزيدني بيانًا أنّ المعموديّة معهد عالٍ لعلوم اللَّه!
خذوا هذه الرواية: طفلةٌ، لم تغازل السابعة من عمرها، دخلت مع أمّها في حديث الكبار. سألتها: «ماما، مَنِ الروحُ القدس؟ وما الذي يفعله معنا؟». كانت أختها الصغرى (التي بلغت الخامسة)، حاضرةً، تسمع كلّ شيء. فسبقت الطفلةُ الصغرى أمّها (الأطفال أكثر نشاطًا من ذويهم!)، وردّت على أختها قالت: «إنّ الروح القدس هو الربّ الذي يعلّمنا كلّ شيء، ويجيبنا عمّا نسأله عنه». أجل، هذا كان ردَّ الطفلة. لم أزد عليه حرفًا واحدًا. ما فعلتُهُ أنّني نقلت كلماتها من العامّيّة إلى الفصحى. مَن علّم هذه الطفلة الكلمات التي قالها يسوع في خطابه الوداعيّ (يوحنّا 14: 26)؟ هل سمعتها في خدمة الآلام المقدّسة، مساء الخميس العظيم؟ إن كانت سمعتها، فأنّى لها أن تردّدها هي هي؟ مَن ثبّتها في ذاكرتها؟ أجبتُ عن هذه الأسئلة قبل أن أُنشئها. ألم أقل، في أعلى هذه السطور، إنّ المعموديّة معهد عالٍ؟ أجل، عالٍ عالٍ!
أودّ أن أعترف لكم بأمر ثمين جدًّا. علّمني بعض الأطفال، الذين عرفتهم، أنّنا، عندما نختم الطفل في معموديّته بالمسحة المقدّسة (أي بالميرون الإلهيّ)، يكتب عليه الروح القدس أنّه يخصّه!
هذا لا يمكن فهمه في سوى التزام حياة كنيستنا. نحن، في الكنيسة، لا نعمّد الأطفال فقط، بل نعطيهم، أيضًا، أن يتقدّموا إلى الكأس المقدّسة (نناولهم جسد الربّ ودمه). فالمعموديّة تجعل الذين نالوها، أيًّا كان عمرهم، أعضاء كاملين في جسد المسيح (كنيسته). هذا، في تراثنا، هو المدى الذي تُفَعَّل فيه المعموديّة. ففي التزام شركة الكنيسة، لا يعرف الإنسان ما خصّه الروح به في معموديّته وحسب، بل يغدو عظيمًا في الروح أيضًا. هذا معنى أنّنا، في معموديّتنا، كتب الروح القدّس علينا أنّنا نخصّه.
ما أنتظره، بثقةٍ، أن يحرّر القرّاءُ هذه السطورَ من أيِّ اتّهام يوحي بأنّ كاتبها يسبغ على الأسرار المقدّسة قدراتٍ واهية (سِحريّة، مثلاً). فما أقوله هنا، أنقله، حرفًا حرفًا، عن تراثنا الحيّ.
ثمّ لا أبتعد عن روايات الطفولة إن رويت هذه الرواية الأخرى: شخص أرثوذكسيّ كان يلتزم حياة كنيستنا في زمان طفولته. ولكنّه، بعد أن شبّ، انتسب إلى بدعة غريبة، تكره الكنيسة وتعاليمها، وبقي فيها إلى أن شاخ. عندما تدهورت أحوال ذاكرته، استيقظ فيه ما كان يلتزمه في طفولته. صار لا يفعل شيئًا سوى أنّه يتلو صلوات كنيستنا التي بقي يحفظها عن ظهر قلب، وينشد للعذراء بأعلى صوته: «إنّ البرايا بأسرها تفرح بكِ...». لا شيء يستطيع أن يقضي على بلاغة المعموديّة فينا!
هذا كلّه دعوة إلى أن نحفظ طفولتنا (أي محبّتنا للَّه التي أخذناها في معموديّتنا) نقيّةً من كلّ عيب (وأن نتوب سريعًا إليها إن ابتعدنا عنها). إن قرأتم هذه السطور بتؤدة، فلن يفوتكم أنّني لم أقل فيها إنّ الإنسان المعمَّد يستمرّ نقيًّا من دون جهد منه، بل حاولت أن أدلّ على عمل الروح الذي ينتظر أن نثمّره فينا. نحن، في كنيستنا، نعتقد بأنّ ثمّة تآزرًا بين نعمة اللَّه وإرادتنا البشريّة. اللَّه كتب علينا، في معموديّتنا، أن نريده دائمًا أحرارًا. بلى، يمكن أن تخبو فينا حرارة ما كتبه الروح علينا. ولكنّنا، إن حافظنا على نقاوة ما أخذناه منذ البدء وسعينا إلى تثميره بجهد دؤوب، فمن غير الممكن أن يقوى شيء على طفولتنا.
الإنسان طفل، أي ابن للَّه أبيه. هذه عبارة تحوي أعلى سمات الكشف الخلاصيّ. لا يحرم الأب أبناءه شيئًا، بل يُبقي موطنهم صدره (مرقس 9: 36). هذا نبع الكشف الذي يهبه يسوع لأحبّته المخلصين (يوحنّا 13: 25). ما من ثروة أثمن من هذا الاستيطان. وما من أمر أهمّ من سعينا إلى المحافظة عليه. هذا يجب أن يعلّمنا أن ننفتح على عطايا اللَّه، ونقبلها من حيث أتت. البلاغة لا تأتي من جهة واحدة (من الكبار فقط، مثلاً). إن كان اللَّه نبعها، فهذا يعني أنّها تأتي من جميع الناس، كبارًا وصغارًا. هذا، إن تعلّمناه، يدلّ على أنّنا لا نأتي من أنفسنا، بل من أمانة الطفولة التي استلمناها في معموديّتنا.
المعموديّة حياة حبّ. هذا مستقى كلّ رواية تحكي عن بلاغة اللَّه في الأرض.