أ مقدّمة
أهمّيّة أحداث الآلام والتعليم عنها
قلّما تكون النصوص الإنجيليّة المرتبطة بمحاكمة يسوع وبآلامه موضوع وعظٍ وتفسيرٍ وتعليمٍ، ذلك بأنّ فترة الأسبوع العظيم وما تتضمنّها من تلاوة أحداث المحاكمة والآلام لا يُفسح، خلالها، مجال للوعظ بسبب طول الخدمة الليتورجيّة. لذا نلحظ عند شعبنا معرفةً سطحيّةً لهذه الأحداث. رغم أنّ مجمل السرد الإنجيليّ ليس إلاّ مقدّمةً لهذه الأحداث وتمهيدًا لها. عمق سرّ الفداء يكمن في أحداث الآلام والقيامة لدرجة أنّنا لا نبالغ إذا قلنا إنّ السرد الإنجيليّ هو مسيرة وجهتها الجلجلة والقبر الفارغ. غياب تفسير أحداث الآلام يترك ثغرةً كبرى في بنية البناء الإيمانيّ عند أبنائنا.
دور النصوص الليتورجيّة وأهمّيّتها
من جهة أخرى، لن يفوتنا أن نؤكّد أنّ الإنجيليّين ما سعوا إلى سردٍ تاريخيٍّ محضٍ بل كانت غايتهم خدمة بشرى الخلاص، وإبراز المعاني اللاهوتيّة الخلاصيّة لأحداث المحاكمة والآلام والقيامة. لذا كانت الكنيسة في صوغها النصوص الليتورجيّة لخدمة الأسبوع العظيم أمينةً لهذه الغاية. فمن يتابع النصوص الليتورجيّة المرتبطة بالآلام والقيامة يتزوّد بأعمق معاني هذه الأحداث ويلمّ بجوهر بشارة يسوع المسيح، وهكذا يعوّض غياب الوعظ والتعليم في هذه الفترة الليتورجيّة. تعتبر النصوص الليتورجيّة، خلال الأسبوع العظيم، تحفة الأدب الليتورجيّ بمجمله ومطالعةً لاهوتيّةً معمّقة لأحداث الآلام.
محاكمة يسوع أمام بيلاطس وهيرودوس
في معرض إلقائنا الضوء على هذه الأحداث، ارتأينا أن يكون البدء في مطالعةٍ لمحاكمة يسوع أمام هيرودوس وبيلاطس وتحديدًا في التعرّف إلى هاتين الشخصيّتين كمحاولة للتعرّف إلى الإطار التاريخيّ – السياسيّ الذي جرت ضمنه أحداث الآلام، عسى هذه المحاولة تسهم في إدراكٍ واعٍ وعميقٍ لسرّ الفداء الإلهيّ.
ب – هيرودوس أنتيباس
هيرودوس الذي مثل يسوع أمامه للمحاكمة هو هيرودوس أنتيباس ابن هيرودوس المسمّى كبيرًا. يتفرّد لوقا الإنجيليّ ( 23، 8-12) من بين الإنجيليّين الأربعة في ذكر محاكمة يسوع أمام هيرودوس إضافة إلى محاكمته أمام قيافا وبيلاطس، فمن المعروف أنّ لوقا الإنجيليّ تميّز عن باقي الإنجيليّين «بدقّة وترتيب» الأحداث التي أوردها في إنجيله (لوقا 1، 3).
كيف حكمت اليهوديّة؟
بعد أحداث سياسيّة عاصفة تمكّن هيرودوس الكبير والد هيرودوس أنتيباس من أن ينتزع قرارًا من مجلس الشيوخ الرومانيّ بإعلانه ملكًا على اليهوديّة، فحكم هذه المقاطعة الرومانيّة من العام 4 ق.م حتّى 37م. فكان أوّل سلالة الهيرودوسيّين الذين حكموا الشعب اليهوديّ قرابة 140 سنة. لم يكن هيرودوس الكبير يهوديًّا بل من الأدوميّين. بعد وفاته انتقل حكم اليهوديّة إلى ابنه أرخيلاوس الذي حكم اليهوديّة لعشر سنوات (4 ق.م – 6 م) وقامت في وجهه ثورات عدّة من طرف اليهود الذين أرسلوا وفدًا منهم إلى روما مطالبين بإنهاء حكم الأدوميّين على بلاد اليهود، وأن يحكم اليهوديّة مباشرة حاكم رومانيّ. أو أن يستبْدل بهيرودوس أنتيباس أرخيلاوس. فأرخيلاوس فاق والده في الإجرام والاستبداد. وهذا ما نستخلصه ممّا ورد في متّى 2، 21-23 بأنّ يوسف خطيب مريم بعد عودته من مصر سمع أنّ أرخيلاوس خلف أباه هيرودوس الكبير على اليهوديّة، فخاف أن يذهب إليها فلجأ إلى الجليل حيث كان يحكم هيرودوس أنتيباس. لذا لقّب يسوع بالجليليّ. لكنّ قيصر رفض طلب هذا الوفد وثبّت وصيّة هيرودوس الكبير التي قضت بتوزيع مملكته على أولاده: أرخيلاوس على اليهوديّة (4 ق.م – 6 م) وهيرودوس أنتيباس على الجليل وفيليبّوس على إيطورية وطراخونيتس وليسانيوس على أبيلينة (لوقا 3، 1) لذا كان أولاد هيرودوس الكبير يسمّون أمراء ربع.
اليهوديّة تحت الحكم الرومانيّ المباشر
مع ازدياد الاحتجاجات والثورات ضدّ أرخيلاوس اضطرّ القيصر إلى تنحيته عن اليهوديّة ونفيه إلى فيينّا العام 6 م. منذ تلك اللحظة أصبحت اليهوديّة تحت الحكم الرومانيّ المباشر يحكمها حاكم رومانيّ مركزه قيصريّة فلسطين، وبقيت الأرباع الثلاثة الأخرى تحت حكم الأدوميّين، ومنهم هيرودوس أنتيباس حاكم الجليل حتّى العام 39 م.
هيرودوس في الأناجيل
ما نعرفه عن هيرودوس هذا جاء في الأناجيل، إذ مثل يسوع أمامه للمحاكمة بعد أن أرسله بيلاطس إليه لكونه جليليًّا. وذكر قبل ذلك في أحداث اعتقال يوحنّا المعمدان وقطع رأسه، فالأخير كان يوبّخه بسبب زواجه من هيروديّا زوجة أخيه غير الشقيق فيليبّوس (مرقس 6: 14- 29 + متّى 14: 1- 12 + لوقا 9: 9). فيليبّوس هذا هو غير فيليبّوس أمير الربع على إيطورية وطراخونيتس المذكور قبلًا. فالأوّل كان يقيم في روما وقد تزوّج هيروديّا. أمّا هيرودوس أنتيباس فتزوّج بابنة ملك العرب أريتا، وبعد ذهابه إلى روما التقى فيليبّوس وانتزع منه، بطريقة غير شرعيّة، زوجته هيروديّا بعد أن طلّق أريتا، ما وتّر علاقاته مع العرب وخاض حروبًا ضدّهم كان في مجملها هو المهزوم (إيوسيبوس، علم الآثار اليهوديّة، XVIII, 16...). هيروديّا وابنتها سالومي كانتا وراء قطع هيرودوس أنتيباس لرأس يوحنّا المعمدان. في موضع آخر من إنجيل لوقا (13: 31- 32) نعته يسوع “بالثعلب” حيث أبلغه الفرّيسيّون أنّ هيرودوس يريد قتله.
كانت له علاقات مميّزة مع القيصر طيباريوس وقد شيّد مدينة أسماها طبيارياس. في أواخر سنوات حكمه خلف كاليغولا طيباريوس على عرش روما. جمعت الأمبرطور كاليغولا مع هيرودوس أغريبا، حفيد هيرودوس الكبير المقيم في روما، صداقة حميمة، فمنحه مقاطعة فيليبّوس ولقب الملك، ما أثار شهيّة هيرودوس أنتيباس. وبإلحاحٍ من زوجته هيروديا ذهب إلى روما مطالبًا باللقب عينه. فاعتقله كاليغولا ونفاه مع زوجته إلى ليون العام 39 م.
ج – بيلاطس البنطيّ (26 م – 36 م)
بعد خلع أرخيلاوس العام 6 م أتْبعتْ اليهوديّة مباشرةً للحكم الرومانيّ وعُيّن لها حكّام رومان حتّى العام 41 م. بيلاطس البنطيّ هو الحاكم الخامس على اليهوديّة. ذكر في دستور الإيمان الذي صدر عن المجمع المسكونيّ الأوّل في نيقيا العام 318 م لا لتخليد ذكراه بل كشهادة تاريخيّة لتلك الأحداث الخلاصيّة التي طالت البشريّة جمعاء.
طباعه
وصفه معاصروه بالقاسي جدًّا والعديم الإنسانيّة. يورد الفيلسوف اليهوديّ فيلون رسالةً أرسلها هيرودوس أغريبا، حفيد هيرودوس الكبير إلى غايوس كاليغولا ينعت فيها بيلاطس بالرجل «ذي الطبيعة التي لا تنثني والعنيد الوقح» (8: 301). يضيف فيلون في هذه الرسالة (38، 302) أنّه كان جبانًا، وبسبب ماضيه المثقل بالشرور كان سريع الغضب وشديده خوفًا من محاسبته على ما ارتكبه من «الرشاوى والشتائم والسرقات والتعنيفات والجرائم المتهوّرة والمتعاقبة»... وسنعرض ثلاث فظائع ذكرها له المؤرّخ أيوسيبوس:
1- صور قيصر في أورشليم.
مباشرة بعد أنّ تسلّم قيصر الحكم، أصدر أمرًا لجنوده بالدخول إلى أورشليم حاملين رايات صوّرتْ عليها صورة الأمبراطور، مهينًا بذلك مشاعر اليهود الدينيّة. توجّه الشعب إلى قيصريّة، مركز الحاكم، للاحتجاج. تظاهر بيلاطس باستعداده لسماعهم، جمعهم في حلبة سباق الخيل وأرسل جنوده حاملين هراوات ووقعت هناك مجزرة. لم يتراجع الشعب بل انبطحوا أرضًا مستعدّين للموت على ألّا تهان شرائعهم. أمام إصرار الشعب تراجع بيلاطس وسحب الرايات (علم الآثار اليهوديّة، XVIII, 55-59).
2- نهب أموال الهيكل.
بهدف شقّ قناة ماء، سلب بيلاطس أموال الهيكل وأوانيه فقامت في وجهه حركة احتجاج سلميّة، فما كان منه إلّا أن أسلمهم للجنود حاملي الهراوات فوقعت مجزرة أخرى (المرجع عينه XVIII, 60-62).
3- ثورة السامريّين.
في السامرة ادّعى أحد الأنبياء الكذبة أنّ موسى كان قد خبّأ أواني مقدّسة في جبل غرزين، وهو مكان مقدّس عند السامريّين. عند تجمّعهم للصعود إلى الجبل ذبح عددًا كبيرًا منهم وأسر آخرين والبقيّة ولّت هاربةً (المرجع عينه XVIII, 85- 87). عرفتْ هذه الأحداث بثورة السامريّين. على أثرها احتجّ السامريّون عند حاكم سوريا VITELIUS الذي اعتقل بيلاطس وأرسله إلى روما (المرجع عينه XVIII, 88- 89) وكانت نهاية حياته انتحارًا.
عداوة بيلاطس لهيرودوس
إضافة إلى هذه الأحداث التي ذكرها إيوسيبوس، نقرأ في إنجيل لوقا (13: 1) أنّ أناسًا حضروا عند يسوع وأخبروه بخبر الجليليّين الذي خلط بيلاطس دماءهم بدماء ذبائحهم. من المحتمل أنّ عداوةً نشأت حينها بين هيرودوس أنتيباس حاكم الجليل وبيلاطس. وعندما أرسل بيلاطس يسوع عند هيرودوس لكونه جليليًّا «تصافى هيرودوس وبيلاطس يومئذٍ وكانا قبلًا متعاديين» (لوقا 23: 12).
نهايته
لدينا معلومات متناقضة حول نهايته، لا بل نشأت حول الأخيرة أساطير مختلفة. بحسب إفسافيوس نفي إلى فيينّا في بلاد الغال حيث انتحر (التاريخ الكنسيّ 2، 7). وتقول رواية أخرى إنّه رُمي في نهر التيبر وأحدثت جثّته أعاصير وفيضاناتٍ. وتروي رواية أخرى أنّه رمى بنفسه من على جبل وما يزال هذا الجبل يحمل اسمه Pilatus – Perg عند بحيرة Lucerne في سويسرا.