العدد الثاني - سنة 2021

01 - الافتتاحيّة - إلهنا يُحاوِر - غسّان الحاجّ عبيد - العدد 2 سنة 2021

إلهنا الذي نَعبد واحدٌ في ثلاثة أقانيم، وهؤلاء الثلاثة يقولون الوحدة في ما بينهم، جوهرًا ولاهوتًا، في حوار حبّيّ لا ينقطع. وهذا الحبّ كان في أساس الخلق، بل كان هو الخلق. اللَّه أحبّ فخلق. أحبّ الإنسان فخلقَه. والتعبير «خلقَه» هل هو غير أنّه أقامه إزاءه، وأقام معه علاقة حوارٍ هو رسمٌ لحوار الحبّ القـائم، أصلًا، بين أقانيم الثالوث؟ أجَل، إنّ الخلق، في أسـاسه، تحرُّكٌ في ذات اللَّه ومنها إلى ما هو خـارج الذات. إنّه حركة خـرج بـها اللَّه إلى ذات أخرى فكان الخلق وكان الإنسان. إلهنا حيٌّ ويتكلّم، وإذا تكلَّم قال الحياة. بكلمة منه بادَ العدم وكان الوجود.

إلهنا يحاور. إطلالاته في الكتاب المقدّس كلُّها حلوةٌ ومعبّرة؛ ولكن، لعلّ أحلاها وأبهاها وأغناها تعبيرًا وتعليمًا إطلالاته مُحاورًا. إلهنا يحاور لأنّه حيٌّ ويتكلّم، حيٌّ ويكلّم أحياء. «إله أحياء لا إله أموات» (متّى ٣٢: ٢٢)، وهذا هو الفارق الجوهريّ، الكيانيّ، بينه وبين آلهة الأمم. آلهة الأُمم أوثان «لها أفواهٌ ولا تتكلّم، لها عيون ولا تبصر. لها آذان ولا تسمع، وليس في أفواهها نسمة»؛ أمّا إلهنا فحيٌّ، بل هو الحياةُ ومصدر الحياة. هكذا رآه إيليّا النبيّ فهتف: «حيّ هو اللَّه الذي أنا واقف أمامه». وإذا رآه إيليّا هكذا فلأنّه، أصلًا، هكذا في لاهوته وجوهره. لذلك كلّه إلهنا يُحاوِر.

حاوَرَنا، أوّلًا، بالخلق لمّا خلق الإنسان على صورته ومثاله (تكوين 26:1 و27) و«أقامه بمنزلة ملك على كلّ البرايا» كما نقرأ في أحد أفاشين صلاة الإكليل. ثمّ، بعد السقوط، حاوَرَنا بالناموس، ثمّ بالأنبياء، وأخيرًا، عند اكتمال الزمان، حاوَرَنا بابنه الوحيد يسوع المسيح. هذا «نصب خيمته بيننا» كما يقول الكتاب، فكانت حياته على الأرض حوارًا حَيًّا ومُحييًا. شفى المرضى، فتح عيون العميان وجَعل الكُسحان يمشون، أبرأ الممسوسين، روّى العطاش وأَشبع الجياع، وكان للأرامل والثكالى والحزانى أجمعين التعزية والرجاء، وفي هذه كلّها لم يكن سوى مُحاوِر. إنّ ربّنا ومخلّصنا يسوع المسيح يُحاور بشتّى الأساليب لا بالكلام فقط؛ ويُحاور، بخاصّة، بالاِفتقاد. وفي هذه كلّها لا يتكلّم من عنده بل ينقل تعزية أبيه السماويّ ورجاءه، لتتحقّق في شخصه نبوءة إشعياء: «روح السيّد الربّ عليّ، لأنّ الربّ مسحني لأبشّر المساكين...» (إشعياء 1 :61).

إنّ المعروف بشريًّا، والمتعارَف عليه، أنّ الذي يقابل الآخرَ ويدخل معه في حوار إنّما يفعل هذا ليس لمجرّد أنّه راغب في أن يُسمِع الآخر رأيه، بل، أيضًا، لكونه محتاجًا إلى ما يَسمعه هو من الآخَر ليُكمل به معلومةً أو حقيقةً ربما أعوَزَته وهي غير متوفّرة لديه. أمّا ربّنا يسوع المسيح فليس يحتاج إلى شيء من هذا، إذ إنّه هو الحقيقة بملئها، بل «هو الطريق والحقّ والحياة» (يوحنّا 6 :14) وهو الذي، بسابق علمه ومعرفته، يعلم كلّ شيء. ومع ذلك، فقد جعل نفسه في وضعيّة المحتاج إلى هذه كلّها ليقول لمن يحاوره: أنا أحبّك وأريدك أفضل وأسمى، وأريدك أن ترتقي معي على مراقي التألّه. على هذه الخلفيّة رأيناه وسمعناه يحاور المرأة الكنعانيّة (متّى 21:15- 28)، وعلى هذه الخلفيّة عينها رأيناه، أيضًا، وسمعناه يحاور المرأة السامريّة (يوحنّا 5:4- 42). يقول الذهبيّ الفم: «بقول السامريّة ليسوع أعطني من هذا الماء هي ترتقي، تدريجيًّا، إلى سموّ تعاليمه».

إنّ حوارات الربّ يسوع هنا وثَمَّة، لا سيّما كما يكشفها لقاؤه مع المرأتَين الكنعانيّة والسامريّة، تعني أَنّه يَرحُب صَدرًا بوجود الآخر إزاءه – وهذا تنازل منه عظيم – وتعني، أيضا، أنّه يريدنا له، لكن لا بالإكراه بل بالخيار الحرّ الطوعيّ. إنّ إلهنا، كما عرفناه في شخص يسوع المسيح، يتكلّم ويحاور، وإذا تكلّم أو حاور قال الحبّ. لا مبرّر لحوار الربّ معنا، بل لا تفسير، سوى أنّه أحبّنا أوّلاً فاندفع بذاته إلينا. وما حواراته معنا، في آخر المطاف، سوى تمتماتٍ استباقيّة لكلمته الأخيرة التي سيَمهُرُ بها رسالته على الأرض عندما سيقولها على الصليب دَمًا زكيًّا مُهراقًا فداءً للعالَمين وخلاصًا.

Loading...
 

 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search