«كيف يمكننا تحفيز شبابنا من أجل اعتناق الأرثوذكسيّة وحملها معهم طيلة فترة شبابهم؟» هذا هو السؤال الأكثر إلحاحًا الذي يطرحه الكهنة والآباء في أيّامنا هذه.
لا يمكنّني مناقشة وجاهة السؤال، لكنّني أخشى أن يكون الذين يطرحونه غير صادقين تمامًا مع أنفسهم أحيانًا. نادرًا ما يسلك الأولاد مساراتٍ غريبة من دون أن يجمعوا بعض الأفكار من حولهم أو من والديهما بخاصّة. فإنّهم يحتذون بنا كمثالٍ لهم سواء أكنّا مثالًا صالحًا أم طالحًا. ندرّبهم لكي يصبحوا ما هم عليه الآن عبر نمط الحياة الذي نتّبعه. ويتمرّدون أحيانًا ضدّ ما تعلّموه، لكنّ ما يُقَولب هذا التمرّد هو السلوك الذين يختارون التمرّد ضدّه.
ما هي مسؤوليّاتنا كوالدَين أو حتّى كشباب تجاه الرعيّة؟ ما هي الآراء والأفكار التي نعطيها لأولادنا؟ هل نسهم في تحديد السلوك الذي نريدهم أن يحتذوا به؟ هل نمضي الوقت الكافي في محادثتهم والتفاعل معهم لكي يكون لنا أيّ تأثير على حياتهم؟ أو هل نسمح لكتّاب السينما الهوليوديّين والفاسقين الذين يروّجون الأقراص المدمجة ويبيعونها ليفرضوا على أولادنا وجهة نظرٍ ليتقبّلوها؟ وكم من الوقتِ يمضي الأولاد في مشاهدة التلفاز والاستماع إلى موسيقى «البوب» (نوع موسيقى غربيّ) مقارنةً بالوقت الذي يمضونه في التحدّث عن مواضيع روحيّة والقراءة عنها؟ كشف «ميخائيل ميدفيد» مؤخّرًا عن إحصاءات مؤسفة تقول إنّ الطفل الأميركيّ، على سبيل المثال، وعند بلوغه سنّ السادسة يكون قد أمضى ساعاتٍ أطول يشاهد القنوات المتلفزة بدلًا من التحدّث مع والده.
المشكلة الأساسيّة التي نواجهها هي أنّنا أهملنا أولادنا. كلّ من يترك أولاده (أو يجلس معهم) أمام التلفاز لأكثر من ساعةٍ في اليوم الواحد، هو يهمل تاليًا الرفاهية النفسيّة والعقليّة لأولاده. طالما بقي التلفاز قَيد التشغيل، لا نتفاعل مع بعضنا البعض بأيّ طريقةٍ هادفة إذ نصبح غرباء تمامًا نتشارك غرفةً واحدة. كما أنّ بعض العائلات لا تتشارك وجبة طعام معًا ما يمكن أن يعطيها فرصة للحديث مع الأولاد وتبادل المعلومات بطريقةٍ فعّالة. وغالبًا ما تؤكَل الوجبات على مائدةٍ أمام التلفاز خلال مشاهدة بعض البرامج التافهة. الحقيقة المحزنة هي أنّ أغلبيّة الأهل مدمنون على مشاهدة القنوات المتلفزة ما يُصعّب عليهم الإقلاع عن الأمر وتاليًا «حرمان» أولادهم من المشاهدة. وما يزيد الأمر سوءًا هي الدعاية التافهة التي تنشرها المنابر الهابطة. يتعلّم الأولاد أثناء المشاهدة أنّ الإجهاض والمساعدة على الانتحار أمران ضروريّان، وأنّ حرارة الأرض قد ارتفعت جدًّا، والمثليّة الجنسيّة لا تخالف الطبيعة لكنّ الزواج السعيد منافٍ لها وأنّ الزنا أمر جيّد. كما أنّ النازيّة سيّئة و«ستالين» (حليفنا) كان رجلًا صالحًا، والحقيقة نسبيّة واللَّه مجرّد كذبة ووجود الملائكة سخافة كبيرة. قلّت البرامج ذات النوعيّة الجيّدة في محاولةٍ لجعل مشروع مشاهدة برامج الكابلات والإنترنت فاشلًا حول العالم.
إذًا ما هو البديل من هذه الفوضى؟ الإجابة تخدعنا ببساطتها لكنّها تبقى معقّدة للغاية. إن كنّا نتمنّى حقًّا رؤية أولادنا يكبرون ليصبحوا أشخاصًا مسيحيّين أرثوذكسيّين أتقياء ومسؤولين، علينا إذًا أن نريهم معنى ذلك. وللقيام بذلك، ينبغي أن نصبح بدورنا مسيحيّين أرثوذكسيّين أتقياء ومسؤولين. وفي هذا الصدد، قدّم آباء الكنيسة نموذجًا يُعرف باسم «التعاليم الكنسيّة المقدّسة» نتّبعه لنعيش حياتنا بشكلٍ صحيح. وطوّر الأرثوذكسيّون نمط حياة معيّنًا خلال الألفي سنة الماضية، لكنّ نمط الحياة هذا تغيّر خلال النصف الثاني من القرن العشرين واستُبدل بنتائج كارثيّة. دُمّر هذا النمط بالقوّة في روسيا وأوروبّا الشرقيّة، إذ تخلّى أرثوذكسيّو الغرب ببساطة عن تعاليم الآباء لأنّها تعرقل حياتهم. لكنّ نمط الحياة الذي نتحدّث عنه ما زال فعّالًا إذا كان للناس النيّة في اتّباعه.
كيف يمكننا الاستفادة من تعاليم آباء الكنيسة؟ تُشكّل التعاليم مرجعيّة بالنسبة إلينا. فهي تطلب منّا قولَبَة حياتنا بما يتناسب مع الشريعة الإلهيّة بدلًا من السعي إلى سنّ القوانين الخاصّة بنا. وينبغي لنا إخضاع مشيئتنا للَّه وتاليًا إبعاد المشيئة الذاتيّة والتمرّد عن حياتنا. تقدّم لنا التعاليم إرشادات عن كيفيّة الصوم عبر تعليمنا كيفيّة السيطرة على أهوائنا وتأجيل الملذّات. إضافةً إلى ذلك، تُرشدنا التعاليم إلى الصلاة إذ تدفعنا إلى وضع قانون للصلاة في البيت وارتياد كنيسة الرعيّة بشكلٍ منتظم. هي تُخرجنا من أنفسنا عبر إرشادنا نحو الاعتراف بخطايانا والتحضير لتقبّل الأسرار الإلهيّة وتقودنا إلى السعي وراء التحوّل الروحيّ كما يريد اللَّه. تُعلمنا كيف نتناول الطعام ونرتدي الملابس والصلاة والعيش في هذا العالم من دون أن نصبح جزءًا منه. تلك هي الضوابط والممارسات التي ستساعد أولادنا على تحمّل هجمات العالم وآثار الثقافة الشعبيّة المدمّرة.
لا تكون تلك التعاليم فعّالة إلّا إذا طبّقناها بأمانةٍ ودقّةٍ كلّ يوم، لكنّ مجرّد الحديث عن هذه الممارسات يُبعد أولادنا عن الحقيقة الأسمى. فسينعتوننا بالمنافقين ويصابون باليأس إذ لن يجدوا بديلًا حقيقيًّا للمخدّرات وممارسة الجنس وموسيقى «الروك». عندما يصرّ الأهل على اصطحاب أولادهم إلى الخدم الكنسيّة من دون أن يسعوا إلى تعليمهم الصلاة والصوم والتحضّر لتقبّل الأسرار، لن يتعلّموا إذًا سوى الاستخفاف بالكنيسة وعدم احترام ذويهم. فالآباء كثيرًا ما يقعون في فخّ «حماية» أطفالهم من الكنيسة، ما يعلّمهم تاليًا أنّ الكنيسة هي مجرّد تصنّع لفترة من الوقت صباح الأحد ثمّ ننساه على الفور.
لسوء الحظّ، أغلب ما يُمرّر له في «خدمة الشباب» لدى الكنائس البروتستانتيّة هو بكلّ بساطة غير فعّال. منذ ثماني أو عشر سنوات، كنت أشاهد برنامج الطبيب «جايمس دوبسون» بعنوان «فوكيس أون ذا فاميلي» (أي التركيز على العائلة)، حين تطرّق إلى بعض الإحصائيّات المهمّة التي تُظهر أنّ جميع فئات السلوك التي تُعتبر مدمّرة للشباب مثل النشاط الجنسيّ والأمراض المنتقلة جنسيًّا وتعاطي المخدّرات أو الاستماع إلى موسيقى «البوب» البذيئة والشيطانيّة، لا تختلف ممارستها بين الشباب «المسيحيّ» وباقي أفراد المجتمع. مع بعض الاستثناءات، لا يمكننا اعتبار أنّ البرامج الإنجيليّة المخصّصة للشباب لا تعلّمهم كيفيّة أن يكونوا «أفرادًا مميّزين» بالمعنى الذي قصده القدّيس بطرس الرسول الذي يطلب منّا أن نكون: «جِنْسٌ مُخْتَارٌ، وَكَهَنُوتٌ مُلُوكِيٌّ، أُمَّةٌ مُقَدَّسَةٌ، شَعْبُ اقْتِنَاءٍ...» (رسالة بطرس الأولى 2: 9). ولكن، يُشجَّع هؤلاء الشباب في بعض الأحيان على اعتبار أنفسهم أعلى شأنًا من الآخرين وأنّهم «سيُخَلَّصون» أمّا نحن فسنهلك. تاليًا، يساعدهم هذا السلوك على تضخيم الأنا فيهم ويقودهم إلى الغرور والكبرياء.
تعلّمنا التعاليم الأرثوذكسيّة المقدّسة التواضع والطاعة والتوبة والحبّ ولا تُلَقَّن إلّا عبر التجربة. لن يتمكّن «الخدّام الشباب» من نشر التعاليم الأرثوذكسيّة للأولاد إلّا إذا اختبرها هؤلاء في منازلهم أو في منازل أفراد الكنيسة الذين يعرفونهم على الأقلّ. لذلك أصبح من الضروريّ أن يبدأ أحد بعَيش تعاليم الكنيسة لكي تَبلغ الجميع. فليس من المستغرب أنّ ترجمة كلمة «التعاليم الكنسيّة» في اليونانيّة هي «بارادوسيس» التي تعني تمرير أو نقل أمرٍ حيّ وفعّال.
من الصعب عيش حياةٍ تتّبع نهج التعاليم الكنسيّة في العالم، ولهذا السبب بالتحديد يمكننا اعتبار التعاليم الكنسيّة فعّالة، إذ تمنح الشباب الذين يطبّقونها والذين تُبثُّ فيهم روح الانضباط والسيطرة على النفس، الأفضليّة الكبرى على زملائهم في الصف. فعبر المثابرة على الصوم من دون تباهٍ ومباركة مأكلهم وارتداء الأزياء اللائقة بجنسهم والبسيطة وتلاوة الصلاة واحترام أجسادهم والاعتراف بالخطايا، سيسعَون إلى تحدّي أنفسهم لكي يصبحوا أفضل ممّا يتوقّع الناس أن يكونوا. ويَعون أنّهم خُلقوا على صورة اللَّه ومثاله وأجسادهم مسكن للروح القدس. هذا ما يرفعهم على نحوٍ مفيدٍ روحيًّا ويشجّعهم على أن يقوموا بكلّ الأمور لمجد اللَّه. والأهمّ من ذلك، سيستلهمون تخطّي هذا المستنقع الفاني أي المجتمع الأرضيّ والنظر إلى العالم السماويّ وإدراك أنّهم قادرون على المشاركة فيه.
قبل أن نبدأ بتعليم ابنتنا البكر في المنزل كانت قد تعرّفت إلى بعض الطلّاب الأرثوذكس في المدرسة الإعداديّة التي ارتادتها. عندما اكتشفوا أنها أرثوذكسيّة، تفاجأوا جميعًا من دون استثناء لأنّها كانت تصوم في المدرسة. أمّا هم فسينتظرون حتّى بلوغ سنّ الثامنة عشرة ليتوقّفوا عن الذهاب إلى الكنيسة، فهؤلاء الشباب يتعرّضون للإهمال والكذب من قبل ذويهم الذين ربّما لا يدرون بوجود تعاليم الكنيسة أو يختارون طوعًا تجاهلها. فلم تسنح الفرص لهؤلاء الأولاد لأن يتعلّموا ماهيّة التعاليم الكنسيّة وما هي فائدتها على حياتهم، فكانت لتُجنّبهم المعاناة والتصنُّع والنظر إليهم كغرباء. فهم انحرموا أيضًا من فرحة الفصح الحقيقيّة (لأنّهم لم يختبروا الصوم الحقيقيّ) أو راحة التوبة الحقيقيّة (لأنّهم نادرًا ما كانوا يعترفون أو لم يعترفوا قطّ). لا تجذب الأرثوذكسيّة المخفّفة الشباب بشكلٍ خاصّ لأنّها بسيطة جدًّا، ذلك بأنّ البشر جميعًا يفهمون أنّ الأمور التي تتطلّب الجهد والكفاح هي وحدها جديرة بالاهتمام.