العدد الثاني - سنة 2021

06 - قضايا معاصرة - تأمّل في رسائل وباء الكورونا - فريدا حدّاد عبس - العدد 2 سنة 2021

التباعد الاجتماعيّ رياضة روحيّة

كتب القدّيس بارسانوفيوس الكبير وقد تنسّك في غزّة في القرن السادس:

«عندما تكون مع اللَّه، لا تخشَ شيئًا، بل ارمِ على اللَّه همَّك، وهو يعتني بك. آمِنْ بلا شكّ، واللَّه يساعدك بوافر رحمته ...افرح بالربّ. ليحفظ الربّ جسدك وروحك وقلبك من كلّ شرّ ومن كلّ حيل الشيطان ومن كلّ تصوّر يقلقك. الربّ نور لك وفرح، الربّ يحفظك من كلّ أذيّة، الربّ قوّة لك وتاج على رأسك».

لا شكّ في أنّنا جميعًا خبرنا الخوف والشكّ والعزلة عندما اجتاح فيروس كورونا العالم. بيد أنّنا إن تدرّبنا على اقتبال صليب كهذا متحلّين بمحبّة للقريب وبصبر ثابت، يتسرّب إلى  قلوبنا ذوق فرح الملكوت في حضور الربّ الذي يحدّثنا عنه القدّيس بارسانوفيوس.

وجّه سيادة المطران ألكسندر، راعي أبرشيّة الكنيسة البلغاريّة في دالاس، في الولايات المتّحدة، كتابًا إلى كهنة أبرشيّته مشيرًا إليهم أن يقيموا القدّاس الإلهيّ على أن يقتصر الحضور على رئيس الجوقة، ومرتّل واحد، وشمّاس واحد أو خادم للمذبح. وذكر قداسته في كتابه أنّ سيرة القدّيسة مريم المصريّة تخبرنا أنّ رهبان أحد الأديرة كانوا يخرجون من الدير في بدء فترة الصوم الكبير ليختلي كلّ منهم في الصحراء في صوم وصلاة ويعودون إليه صباح أحد الشعانين، بعد أن يكونوا قد تركوا راهبين في الدير «ليقيما الصلوات في الكنيسة التي تبقى مفتوحة الأبواب».

كثيرون منّا هم الذين يعتقدون أنّ الخدمات الكنسيّة تقام لصالح أولئك الذين يحضرونها وهم، بمعنى ما، على حقّ إذ إنّ الصلاة الطقسيّة هي صلاة الجماعة الملتئمة حول مذبح الربّ. بيد أنّ ما تؤكّده الكنيسة هو أنّ الصلوات الطقسيّة تقام لتمجّد بها الجماعة الملتئمة الربّ نفسه آبًا وابنًا وروحًا قدسًا في بيته وذلك «من أجل الجميع وللجميع» حيثما وجدوا. هكذا نشأت صلواتنا منذ القدم في دياميس روما القديمة.

في يومنا الحاضر الذي يجتاحه وباء الكورونا، وتمشّيًا مع إرشادات السلطات المدنيّة التي تحرص على وقاية الجميع من الوباء، تقام الصلوات الكنسيّة بحضور نسبة ثلاثين بالمئة من استيعاب  البناء الكنسيّ، يحافظون على مسافة مترين بين الشخص والشخص الآخر ويستخدمون الكمّامات، وتنقل الخدمة على الفايسبوك  لتتابعها جماعة افتراضيّة.

ربّما يتساءل كثيرون عمّا إذا كان ممكنًا فعلًا أن تتوفّر الوقاية الصحّيّة الكافية ببعد اجتماعيّ جسديّ، حتّى عندما يعقّم بناء المعبد والجدران والمقاعد والطاولات والأيقونات، ويعقّم الذين يدخلون المبنى عند باب الكنيسة. ثمّ إنّ بعضًا من رعاتنا يتجاهلون كلّ هذه الإجراءات الصحّيّة إذ يؤكّدون أنّها من ظواهر ضعف إيمان بأنّ الربّ هو الواقي. القيادات التي أقامها الربّ على الكنيسة تؤكّد لهؤلاء أنّ موقفًا كهذا غير مبرّر، وأنّ عدم الرضوخ لإرشادات احترازيّة يبرّر نفسه بحدّ ذاته في شباك فخّ عدم التواضع ويغذّيه.

قياداتنا الكنسيّة لا تعتبر تدابير كهذه تعبيرًا عن ضعف في الإيمان، وهي ترجو أنّ وضعًا كهذا لن يطول. بيد أنّها تدعونا جميعًا إلى الالتزام به لنختبر ما اختبره رهبان قبلنا، إذ فرضوا على أنفسهم التنسّك في الصحراء ليتمرّسوا على الصبر، والاختلاء في صلاة القلب التي تقود إلى معرفة خلايا النفس وكشف قروحها، ثمّ بلوغ عتبات توبة حقّ تعطى هبة لمن التزم طاعة وتواضعًا أمام عرش الربّ.

انتشار الوباء من حولنا يزجّ بنا في سبل طاعة وتوبة. لنتدرّب إذًا على الصلاة من أجل الذين أدركهم الوباء، ومن أجل أعضاء الجسم المعالج من أطبّاء وممرّضات وممرّضين ومساعديهم الذين يخدمونهم، ومن أجل الذين فقدوا أحبّاء نال منهم الوباء فرحلوا عنّا.

القضيّة إذًا هي قضيّة التزام في دروب المحبّة والطاعة. حتّى إن لم نكن حريصين على سلامتنا الشخصيّة لأنّ «الربّ هو الحامي» طبعًا، علينا أن نتجنّب سبل نقل المرض إلى غيرنا إذ قد نكون حاملين الفيروس ولا تظهر علينا جسديًّا أعراضه، ولكنّه قد ينتقل منّا إلى الغير. ألم يعطنا الربّ يسوع نفسه مثالًا في ذلك إذ رفض السقوط في تجربة القفز من أعلى الهيكل (متّى 4 : 1-12 ومرقس 1 : 12- 13 ولوقا 4 : 1- 13)؟

 السؤال الثاني الذي طرحه إبليس على يسوع في البرّيّة يتعلّق بحاجة عاطفية عند كلّ منّا، ألا وهي الشعور بالأمان والرعاية المحتضنة. إبليس حارب يسوع بنصّ الكتاب قائلًا: اطرح نفسك إلى أسفل لأنّه قد كتب: «يوصي ملائكته بك. يحملونك على أيديهم كيلا تصطدم بحجر رجلك» (مزمور 91 :11). أمّا يسوع فأجاب المجرّب متسلًحًا بمقطع من سفر التثنية: «لا تجرّب الربّ إلهك» (تثنية 6 :16).

أجاب يسوع برؤية روحيّة للهيكل وقد أتى إليها في مراحل لاحقة. على سبيل المثال، حينما طلب أحد اليهود إلى المسيح أن يجترح معجزة، رفض المسيح لأنّه من الخطأ طلب علامات من اللَّه، فهي محاولات لتحريك اللَّه كما تشاء أنت. هذا من شأنه أن ينافي الإيمان، ويحوّله إلى صدفة جوفاء.

اللَّه وهبنا العقل وهو ينتظر منّا أن نحافظ عليه في كلّ حين متّصلًا به وبمشيئته في حياتنا. وباء الكورونا الذي يحوط بنا يعلّمنا أنّه تمامًا كما أنّ الامتناع عن أكل الزفر هو نظام رياضة روحيّة فعال، فإنّ الانفصال عن إخوتنا في الرعيّة خلال العبادة الجماعيّة هو نظام أيضًا ننمو به روحيًّا. الاختلاف بين الممارسة الاعتياديّة وممارستنا الحاليّة، في زمن الوباء، هو الذي يحوّل الممارسة إلى رياضة روحيّة طوعيّة بها نمتشق إلى وجه الآب.

نتطلّع الآن ونحن في خطر تفشّي الكورونا إلى اليوم الذي فيه تنحسر الأزمة، لأنّنا لا نفتقر فقط إلى مناولة القربان المقدّس زادًا لنا به نتقوّى ونشبع، بل نفتقد أيضًا رؤية أصدقائنا. على سبيل المثال إذا كانت رياضة الصيام تجعل تناول الكبّة بالصينيّة بالنسبة إلى كثيرين جذّابًا، فكم بالحريّ يكون عدم استطاعتنا رؤية إخوتنا في الرعيّة الذين نحبّ، وحتّى الذين هم من قد لا نعرف بل نستأنس بوجودهم معنا في الكنيسة إذ نراهم يجلسون دائمًا في المقاعد ذاتها.

لنستمرّ إذًا في رياضتنا نمتنع فيها عن الكأس المقدّسة وعن رؤية إخوتنا في الرعيّة، لنتقرّب أكثر من الربّ في صلاة حارّة ونطلب إليه أن يشحذ شهيّتنا للإفخارستيًا. لا شكّ في أنّ إحدى نعم كوفيد 19 هي أنّه يدرّبنا لنعي أنّ القدّاس الإلهيّ ليس مجرّد طقس «نحضره»، ويتحوّل بالنسبة إلينا إلى صلاة نقيمها معًا أمام عرش الآب.

 من الواضح أنّ التباعد الاجتماعيّ في زمن الكورونا بوعي هو ما ينبغي أن نمارس. إنّه تصرّف جماعيّ استغرق بعض التركيز والاستعداد من قبلنا لنتقيّد به وقاية لنا وللآخرين حولنا. أمّا الآن وخلال فترة قصيرة نسبيًّا للأكثريّة، ربّما أصبح الأمر تصرّفًا طبيعيًّا أن ننحرف بأدب بعيدًا عن شخص آخر يسير نحونا على الرصيف، أو نتراجع إلى الخلف معتمدين الكمّامة إذ نتحدّث إلى شخص يطرق باب بيتنا. (بالطبع لا يستطيع العاملون في مجالات الصحّة والدفاع المدنيّ والإطفاء أن يمارسوا التباعد الاجتماعيّ من دون أن يتزوّدوا بالأجهزة والمعدّات الطبّيّة المناسبة ليقوا أنفسهم وغيرهم من العدوى). مهما يكن من أمر ذلك، فإنّنا أصبحنا الآن ننظر إلى عدم الالتزام بالتباعد الاجتماعيّ كتصرّف غير لائق ومهمل لأنفسنا ولغيرنا. تعلّمنا أن نضبط أنفسنا وتاليًا نقوم بدورنا المتواضع كمواطنين في كيان مدنيّ لنكافح معًا ضدّ عدوّ مشترك.

بيد أنّ الانضباط لا يأتي في مفهومنا له بشكل طبيعيّ، أكان اجتماعيًّا شاملًا أم شخصيًّا. إنّه يتعارض مع مفهومنا لـ«الحرّيّة» و«الاستقلال الذاتيّ». يجعلنا نشعر وكأنّنا مقيّدون بطريقة غير مريحة، كما لو أنّ «حقوقنا» ذاتها تتعرّض للخطر. لذلك نجد أنّ مظاهرات الاحتجاج تتزايد الآن في جميع أنحاء البلاد، مردّدة شعارات «الحرّيّة» و«الحقوق» ومطالبة بإلغاء أنظمة الحجر المنزليّ الإلزاميّ التي أصدرتها الدولة، وذلك من أجل العودة إلى العمل وإنقاذ سبل العيش، وتاليًا تفادي ركود اقتصاد وطنيّ قد ينطلق من سيّئ إلى أسوأ.

أوصى بولس الرسول تلميذه تيموثاوس قائلًا: «لا تصغوا إلى... مباحثات دون بنيان للإيمان» (1تيموثاوس 1 : 4).

جدير بنا ألّا نتوقّف ونحن مشحونون عاطفيًّا عند مباحثات نظريّة لا جدوى منها فعلًا لنعلّق على نقاش كهذا، ونشير ببساطة إلى كيف يمكننا أن نناشد حقوقنا الأساسيّة في الحرّيّة وفي استقلاليّة القرار ونقاوم فعلًا القيود التي تفرضها علينا مبادىء الوقاية الصحّيّة السليمة:

الحقّ يقال إنّه بمعنى ما، يطلب منّا أن نلتزم بشكل من أشكال النسك مبنيّ على ضبط النفس وتبسيط ممارساتنا الحياتيّة اليوميّة، في محاولة لصدّ سرعة انتشار فيروس الكورونا، وذلك بواسطة الالتزام بجهاد نسك جماعيّ. صحيح أنّ ما يحدث الآن اقتصاديًّا في جميع أنحاء العالم بسبب انتشار فيروس الكورونا، وللملايين من الناس، هو أمر مأساويّ. مصادر العيش عند كثيرين تتدمّر وربّما لن تتعافى في مدّة وجيزة، بيد أنّ المفارقة المطروحة علينا هي أن نختار أوّلًا أن نحافظ إمّا على سلامة الصحّة البيولوجيّة أو على صحّة الاقتصاد. إنّ قرارات صعبة هي بلا شكّ مطروحة على قادتنا المدنيّين من سياسيّين واجتماعيّين.

ثمّ لن ننسى أيضًا أنّ أعدادًا هائلة من المؤمنين والرعاة الذين أصابهم الفيروس ارتحلوا عنّا. بيد أنّه لاهوت خاطىء هو الذي يشير إلى أنّه ليس بالضروريّ حتمًا الالتزام بمبادىء الوقاية والحجر لأنّ «اللَّه هو الحامي». ببساطة هذا ليس بـ«واقع إيمانيّ» بل هو بالحريّ إدراك ميتافيزيكيّ خاطىء لما هو تعريف الكتاب الإلهيّ والكنيسة المقدّسة للإيمان. كما ذكرنا سابقًا، إنّ الربّ يسوع نفسه رفض أن «يجرّب» اللَّه. فلماذا نجرّبه نحن؟

هنالك إصرار بين جماعة من المناضلين الغيورين في الكنيسة على «إعادة فتح الكنائس نهار الأحد»، وإلى استئناف الوتيرة الاعتياديّة في سياسات التنشئة المسيحيّة والنشاطات الكنسيّة الأخرى. هؤلاء يتحصّنون بالطبع بضرورة الالتزام بالوقاية الصحّيّة وأسس التباعد الاجتماعيّ. بيد أنّ السؤال الذي يطرحه عليهم ازدياد إصابات الكورونا ونسبة ازدياد الوفيّات يتعلّق بتوقيت خاطىء لنداءات كهذه.

هل سيؤدّي الانصياع إلى نداءات مثل هذه إلى ارتفاع عدد المصابين بفيروس الكورونا؟ وتاليًا (وذلك بلا داع) إلى تداع متزايد في إمكانيّات الخدمات الصحّيّة المحلّيّة ومواردها، المادّيّة منها والبشريّة؟ هل يخشى الرعاة الغيارى أن يؤدّي التأخير الإضافيّ في استئناف النشاطات الكنسيّة إلى إحداث تآكل في إيمان قطعانهم؟ هل من الحكمة أن نندفع إلى مسارات نشاطات تهدف بشكل متسرّع إلى «إثبات» إيماننا؟

هذه كلّها تساؤلات من الصعب الإجابة عنها. ولكن أليس من الحكمة أن ننتظر بصبر فترة إضافيّة من الزمن، نراقب فيها كيف تتطوّر الأمور؟ ونأمل ونثق بأنّ اللَّه سيلهم قادتنا العلمانيّين والكنسيّين أن يتحلّوا بموهبة التمييز المسؤول؟

ألا نستطيع أن نؤجل خوض معاركنا الإيديولوجيّة إلى حين، ونتعاضد بالتزام دؤوب في أعمال المحبّة وذلك حيثما وجدنا، لأنّ «مصارعتنا ليست مع لحم ودم بل مع الرؤساء، مع السلاطين، مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر، مع أجناد الشرّ الروحيّة في السماويّات»، كما يكتب لنا الرسول بولس في رسالته إلى كنيسة أفسس 6 :12؟ أليست هذه هي رسالتنا الكبرى في زمن تفاقم انتشار الفيروس؟ يمكننا أن نستأنف خوض معاركنا الإيديولوجيّة في الوقت المناسب.

Loading...
 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search