الافتقاد في زمن العهد الجديد وفي زمننا
في العهد الجديد لدينا الكثير من الأمثلة عن الافتقاد في الضيقات، ومنها الإنجيل الذي نقرأه في أحد الدينونة والذي ماهى فيه الربّ يسوع نفسه مع إخوته الصغار:
«لأنّي جعت فأطعمتموني. عطشت فسقيتموني. كنت غريبًا فآويتموني.
عريانًا فكسوتموني. مريضًا فزرتموني. محبوسًا فأتيتم إليّ.
فيجيبه الأبرار حينئذٍ قائلين: يا ربّ، متى رأيناك جائعًا فأطعمناك، أو عطشانًا فسقيناك؟
ومتى رأيناك غريبًا فآويناك، أو عريانًا فكسوناك؟
ومتى رأيناك مريضًا أو محبوسًا فأتينا إليك؟
فيجيب الملك ويقول لهم: الحقّ أقول لكم: بما أنّكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر، فبي فعلتم.» (متّى 25 : 31 – 46)
وحدة الجماعة المسيحيّة الأولى على الصعيد المادّيّ:
- «وجميع الّذين آمنوا كانوا معًا، وكان عندهم كلّ شيءٍ مشتركًا، والأملاك والمقتنيات كانوا يبيعونها ويقسمونها بين الجميع، كما يكون لكلّ واحدٍ احتياج». (أعمال 2: 45)
- وكان لجمهور الّذين آمنوا قلبٌ واحدٌ ونفسٌ واحدةٌ، ولم يكن أحدٌ يقول إنّ شيئًا من أمواله له، بل كان عندهم كلّ شيءٍ مشتركًا. وبقوّةٍ عظيمةٍ كان الرّسل يؤدّون الشّهادة بقيامة الربّ يسوع، ونعمةٌ عظيمةٌ كانت على جميعهم، إذ لم يكن فيهم أحدٌ محتاجًا، لأنّ كلّ الّذين كانوا أصحاب حقول أو بيوتٍ كانوا يبيعونها، ويأتون بأثمان المبيعات، ويضعونها عند أرجل الرّسل، فكان يوزّع على كلّ أحدٍ كما يكون له احتياجٌ. ويوسف الّذي دعي من الرّسل برنابا، الّذي يترجم ابن الوعظ، وهو لاويٌّ قبرسيّ الجنس، إذ كان له حقلٌ باعه، وأتى بالدّراهم ووضعها عند أرجل الرّسل. (أعمال 4 : 32 - 37).
الرسولان بولس وبرنابا بعد إقامتهما في أنطاكية قرّرا العودة وزيارة المدن التي بشّروها: ثمّ بعد أيّامٍ قال بولس لبرنابا: «لنرجع ونفتقد إخوتنا في كلّ مدينةٍ نادينا فيها بكلمة الربّ، كيف هم». (أعمال 15 : 36)
مساعدة كنائس مكيدونيّة وأخائية لأهل أورشليم: ولكن الآن أنا ذاهبٌ إلى أورشليم لأخدم القدّيسين، لأنّ أهل مكيدونيّة وأخائية استحسنوا أن يصنعوا توزيعًا لفقراء القدّيسين الّذين في أورشليم. استحسنوا ذلك، وإنّهم لهم مديونون! لأنّه إن كان الأمم قد اشتركوا في روحيّاتهم، يجب عليهم أن يخدموهم في الجسديّات أيضًا.. (رومية 15 : 25 - 27).
الدّيانة الطّاهرة النّقيّة عند اللَّه الآب هي هذه: افتقاد اليتامى والأرامل في ضيقتهم، وحفظ الإنسان نفسه بلا دنسٍ من العالم (يعقوب 1 : 27)
نعيش اليوم في ضيقات كثيرة ومتتالية، صحّيّة واقتصاديّة وأمنيّة. وهذا ولّد حاجات مادّيّة، ومشاكل نفسيّة عند شريحة كبيرة من الناس. هناك ناس عندها خوف وقلق واضطراب، وهذا رتّب علينا مسؤوليّة تجاه إخوتنا.
«احملوا بعضكم أثقال بعضٍ، وهكذا تمّموا ناموس المسيح». (غلاطية 6: 2)، فلنتذكّر كلام الربّ لأشفي المنكسري القلوب، ولننطلق منه.
نحن اليوم لدينا فرصة للانطلاق نحو الآخر عبر الإحسان على الصعيدين الروحيّ والمادّيّ. المؤمن لا يمكنه أبدًا أن يكون حياديًّا أمام مصاعب الناس، بالعكس هو متأهّب، ومبادر، ومنطلق نحو الآخر. كثر ممّن همّشتهم الحياة، أو من همّشوا أنفسهم بالسلوك في دروب الخطيئة، بحاجة إلى احتضان، وإلى كلمة تعزية مشدّدة وحاملة للرجاء، وأن يشعروا أنّهم محبوبون، وأنّهم موجودون في هذه الحياة، وأنّ ثمّة من يتلّمس أوجاعهم النفسيّة والروحيّة وصعوباتهم المادّيّة.
وكونوا لطفاء بعضكم نحو بعضٍ، شفوقين متسامحين كما سامحكم اللَّه أيضًا في المسيح». (أفسس 4: 32)
هذه الانعطافة قد تردّ خاطئًا إلى التوبة، وتخفّف كثيرًا من وجع المتألّم، ومن حزن الحزين، ومن يأس الفاقد الأمل. ولا ننسى أيضًا فتح أيدينا على العطاء، كلّ حسب قدرته وإمكاناته، حتّى ولو كان قليلًا، فإنّ قيمته عند المحتاج وفي عيني الربّ كبيرة.
مجالات الافتقاد كثيرة ويجب أن ننتبه إلى شيء مهمّ: في بعض الأحيان نظنّ أنّ دورنا يقتصر على تقديم مساعدة ماليّة، أو زيارة، أو اتّصال، من دون أن نكون افتقدنا الشخص، يجب أن نتذكّر أنّنا نكمل عمل الربّ ونتمّمه، وهناك فرق كبير بين الافتقاد، ومجرّد الزيارة، أو مجرّد المساعدة. فقد نزور إنسانًا، ونساعد آخر، ونتّصل ... ومع ذلك لا نكون قد افتقدناه! ممكن أن نزور ونساعد ودافعنا ليس المحبّة، ممكن كرفع عتب، وواجب علينا القيام به، أو حبًّا بالظهور والمجد الباطل.
الافتقاد هو أن نزور الآخرين، في الوضع الطبيعيّ، ونساعد، ونؤاسي، ونشدّد. ونحن نحمل معنا اللَّه... وحينما نتوارى، نكون قد تركنا اللَّه في بيته، وفي قلبه، شيء أساس أن نبثّ الرجاء، والتشجيع في القلوب المتألّمة.
عدم الانتقائيّة في الافتقاد:
عندما نفتقد علينا أن نفتقد بصدق ومن دون انتقائيّة أو استنسابيّة. نبحث عمّن يحتاج إلى الافتقاد. لا نفتقد فقط من هو قريب إلى قلبنا أو قريبنا بالجسد، أو من ينتمي إلى كنيستنا. إنّما نفتقد بصدق من يحتاج إلى بسمة، أو كلمة تشجيع وتعزية وتفهّم لوضعه.
نحن يجب ألّا نعطي لنفسنا الحقّ في أن نقول أنا أسأل عن هذا الإنسان ولا أسأل عن ذاك، أنا أساعد هذا الإنسان ولا أساعد ذاك، هذا من ديني، من وطني، أساعده. أنا لا أساعد أشخاصًا من بلدان أجنبيّة ولا من غير دين. أنت تنطلق نحو الآخر بغضّ النظر عن دينه، جنسيّته، شخصيّته. لا تقل هذا يستحقّ وغيره لا يستحقّ.
الاستمراريّة والمواظبة:
عمل المحبّة هو عمل مستمرّ ومتكرّر، لا يقتصر على مرّة واحدة فقط، أنت تبقى تدفق من محبّتك قدر ما تستطيع وحسب حاجة الآخر، مرّات نساعد أحدًا ونقول أتممنا واجبنا، كلّنا نتذكّر مثل السامريّ الشفوق. المحبّة لا حدود لها، أنت تبقى ثابتًا ومثابرًا. وعندما تضيق سبل المساعدة أمامك، لا تنس أنّك تملك ينبوعًا لا ينضب، هو الصلاة، أفضل هديّة ممكن أن نقدّمها هي أن نحمل بعضنا البعض بالصلاة، فلنقل: «يا ربّ عبدك فلان يمرّ في أزمة، وأنا ضاقت السبل أمامي، أنت يا ربّ تعهّده، وأهده السلام، والتعزية، والحلّ المناسب للخروج من أزمته». والربّ بمحبّته ورحمته سيستجيب.
الافتقاد هو عمليّة شفاء متبادلة بينك وبين من تفتقده.
الافتقاد هو سرّ العبور، هو فصح لك، ولمن تفتقده. هو خروج من ظلمة قبر الأنا والانغلاق على الذات، والتقوقع، والانطلاق نحو رحاب الآخر، عبر مدّ القلب واليد، والكيان بكلّيّته وبناء جسر بين من تفتقده لكي تصله باللَّه. من هنا يتجلّى المعنى بأنّ الافتقاد هو فصح للأشخاص الذين تفتقدهم. يصبح عبورًا للشخص من اليأس إلى الرجاء، من الاضطراب والقلق إلى الطمأنينة والسلام، من الحزن إلى الفرح، أنت بمحبّتك تنحني نحو الآخر الذي يرزح في ضيقته، وشدّته، وحزنه وتمسك به وترفعه كما فعل معنا الربّ يسوع.
أختم بكلام للرسول بولس يمكننا أن نتّخذه شعارًا نطبّقه في عمل المحبّة نحن أنفسنا: «فإنّكم تعرفون نعمة ربّنا يسوع المسيح، أنّه من أجلكم افتقر وهو غنيٌّ، لكي تستغنوا أنتم بفقره» (2كورنثوس 8 : 9). ولكن شكرًا للَّه الّذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كلّ حينٍ، ويظهر بنا رائحة معرفته في كلّ مكانٍ». (2كورنثوس 2: 14)، متذكّرين أنّه بالشكر تدوم نعم اللَّه علينا، وساعين إلى أن ننشر شذا محبّته ورحمته في وسط عالمنا المتألّم.