المطران إسبيريدون خوري: ولد سليمان بن توما بن يعقوب الخوري وهيلانة عبد النور في 30 تشرين الأوّل 1926في مدينة أوبرلنديا، في ولاية ميناس جيرايس البرازيليّة. تقبّل العماد على يد الخوري يوسف الفحّام في 7 شباط 1928. عادت عائلته إلى بينو عكار، بسبب الأزمة الاقتصاديّة التي عمّت العالم كلّه بين 1929 و1931. أكمل دروسه الابتدائيّة في مدرسة البلدة، وفي أواخر العام 1938 التحق بمدرسة البلمند الإكليريكيّة، ثمّ اتّخذ من القدّيس إسبيريدون العجائبيّ شفيعًا له وتسمّى باسمه. ومع اندلاع الحرب العالميّة الثانية أقفلت مدرسة البلمند أبوابها، فانتقل إلى مدرسة الآسيّة بدمشق وبقي فيها سنة واحدة، غادر بعدها إلى دير القدّيسة تقلا في معلولا، فإلى المدرسة الغسّانيّة في حمص، في كنف المطران ألكسندروس جحا، وفيها نال الشهادة المتوسّطة في العام 1945 والبكالوريا السوريّة الموحّدة في العام 1947. علّم في المدرسة المذكورة سنة واحدة مادّة الجغرافيا ورسم الخرائط. في خريف 1948 أرسله البطريرك ألكسندروس طحّان ليدرس الفلسفة واللاهوت في معهد القدّيس سرجيوس الروسيّ في باريس. وبعد خمس سنوات نال شهادة في اللاهوت بدرجة جيّد على رسالته التي كانت بعنوان «المصادر اليهوديّة-المسيحيّة لكتابات لوقا الإنجيليّ في الإصحاحات الثلاثة الأولى من إنجيله ومن أعمال الرسل». في باريس انتسب إلى المدرسة الوطنيّة للغات الشرقيّة الحيّة للتعمّق في دراسة اللغة والآداب الروسيّة لمدّة ثلاث سنوات، وعرّب بعض المقالات اللاهوتيّة ومنها «مائدة الربّ». في أواخر العام 1953 عاد إلى لبنان، وفي العام 1954 تسلّم إدارة إكليريكيّة البلمند الصغرى وعلّم فيها مع الأرشمندريت قسطنطين باباستيفانو والأخ جورج خضر آنذاك. رسمه البطريرك ألكسندروس طحّان شمّاسًا إنجيليًّا في دير سيّدة صيدنايا البطريركيّ وعاونه الأسقف فوتيوس خوري. رسمه وكيل البطريرك الأسقف ملاتيوس الصويتي كاهنًا في الكاتدرائيّة المريميّة بدمشق العام 1956 وبعد شهر رفّعه المطران ألكسندروس جحا إلى رتبة أرشمندريت. خدم رعيّة مرمريتا في وادي النصارى، تسعة أشهر أسّس خلالها جمعيّة نسائيّة ما تزال عاملة حتّى اليوم وقد بنت مدرسة في البلدة. طلب منه أن يلتحق بكنيسة ساو باولو، لكنّ عراقيل كثيرة حالت دون سفره، فخدم في رعايا لبنانيّة بخاصّة في بيروت وجبل لبنان، ومنها في بلدة صوفر، حيث تابع إلى جانب واجباته الدينيّة نشاطه الاجتماعيّ فأسّس «نادي صوفر الاجتماعيّ» للشبيبة والتابع للكنيسة الأرثوذكسيّة.
في أواخر العام 1958 شغرت كنيسة سيّدة النياح في الإسكندريّة إثر انتخاب راعيها الأرشمندريت إغناطيوس فرزلي مطرانًا على البرازيل، فانتدب إلى هذه الرعيّة الأرشمندريت إسبيريدون وخدمها خمس سنوات، حين استدعاه البطريرك ثيوذوسيوس أبو رجيلي وكلّفه بالتعليم في إكليريكيّة البلمند، التي كانت آنذاك برئاسة الأسقف إغناطيوس هزيم. كما طلب منه المطران إلياس قربان أن يكون وكيلاً عامًّا في أبرشيّته فلبّى الطلب وأمضى في الوكالة سنة ونصف السنةمن 1964 إلى 1966. عندما توفّي المطران نيفن سابا في 17 أيلول 1966، انتخب المجمع المقدّس الملتئم في دير النبيّ إلياس شويّا البطريركيّ الأرشمندريت إسبيريدون مطرانًا على أبرشيّة زحلة ورُسم في 9/10/ 1966 في كنيسة الدير على يد البطريرك أبو رجيلي ومطارنة المجمع المقدّس، بحضور وفود عديدة من أبرشيّة زحلة والرعايا التي خدمها سيادته. خدمت القدّاس الإلهيّ جوقة دير البلمند مع عدد من مرتّلي الكرسيّ الأنطاكيّ. ونقلت الإذاعة اللبنانيّة وقائع الاحتفال. ثمّ توجّه الجميع إلى مأدبة غداء في ضهور الشوير، أوتيل سنترال، حيث فاق عدد المدعوّين الخمسمئة. بعد ذلك تحرّك موكب المطران الجديد قاصدًا أبرشيّة زحلة، وعلى حدود محافظة البقاع استقبل سيادته محافظ البقاع جورج ساروفيم ممثّلًا رئيس الجمهوريّة آنذاك شارل حلو، مع حشد غفير من الإكليروس والمؤمنين.
كما وجّه إليه الأرشمندريت جورج (خضر) (المطران لاحقًا)، مهنّئًا، كلمة من الأعماق بعنوان «إلى راع» يدعوه فيها إلى الاستمرار على ما هو عليه «من اللطف والعفّة والفقر والتواضع، متعطّشًا إلى الرحمة، حافيًا عاريًا كأنّك إزاء عتبة السماء... هي أسطر أملتها عشرون سنة من تلك المصاحبة الطيّبة، التي كان فيها وجهك الصبيح، أبدًا، فرحًا للكثيرين وكانت البشاشة بالطبع دليل انفتاح على خير ما في الحياة. أستودعك حنان اللَّه رفيقًا لأتلقّى غدًا منك بركة الأب والسيّد، استلم عصاك بالحزم والدعة بآن...».
من إنجازاته:
إنشأ مبنى جديد للمطرانيّة يليق بالأبرشيّة،
إطلق نهضة روحيّة فاعلة تنشئ الشباب على التعمّق في فكر الكنيسة الأرثوذكسيّة، وذلك عبر مكتب النشاطات الروحيّة.
أنشأ مركز القدّيس نيقولاوس الاجتماعيّ للأطفال الفقراء لمساعدتهم على تحصيلهم العلميّ، لاسيّما من تأخّر منهم في تحصيل علومه بسبب الفقر والعوز، واستقدم عددًا من المدرّسين المتمرّسين في ميدان التربية والتعليم.
عرّب كتاب «مائدة الربّ» لمؤلّفه المتقدّم في الكهنة نيقولاي أثناسييف، نظرًا إلى أنّ هذا الكتاب يشرح أهمّيّة الكنيسة وماهيّتها.
أطلق مشاريع عمرانيّة كثيرة من ترميم كنائس وبناء أخرى وتأمين كهنة متعلّمين قادرين على رعاية شعب اللَّه.
استحدث رعايا جديدة في المناطق التي سكنتها عائلات أرثوذكسيّة.
وحول الرعاية في كتابات المطران إسبيريدون كتب الأب الدكتور جورج (مسّوح)، رحمه اللَّه: «يظهر جليًّا هاجس المطران إسبيريدون وشاغله ومالئ اهتماماته عبر اسم النشرة التي يصدرها عن أبرشيّته بعنوان «كنيستي». وقد عبّر في العدد الأوّل عن هدفه من النشرة بقوله إنّه اتّخذها سبيلًا إلى التوعية والإرشاد والتعليم وكلّ ما يتعلّق بحياة المؤمنين الدينيّة والروحيّة والأخلاقيّة والأدبيّة. لذلك هو يضع نصب عينيه تعميم المعرفة بتعليم الكنيسة الأرثوذكسيّة وعقائدها وأسرارها وطقوسها وتاريخها وحاضرها ورسالتها في محيطها وفي لبنان والعالم. أي الشهادة للتراث الأرثوذكسيّ في عالمنا الحاضر عبر تأوين التعليم القديم وبعثه من جديد... والرعاية في الكنيسة هي من أولويّات الخدمة الكهنوتيّة إلى جانب إقامة الأسرار إن لم تكن مكمّلة لها، فلا تكتمل خدمة الأسرار والصلوات والطقوس من دون الرعاية... وبالنسبة إلى المطران إسبيريدون لا يجوز للكاهن أن ينطق عن هوى بل عليه أن ينطق بكلام الربّ وأن يلهج به ليلاً ونهارًا، فيقول: «أن يعرف المؤمن صوت أبيه الروحيّ هو أن يعرف صوت اللَّه فيه وألّا يلفظ إلّا بكلمة الربّ وليس بالألفاظ التافهة التي تدمّر. وأن يميّز بين كلمة الربّ وكلامه النابع من شهوة أو من خطيئة، فلا يؤدّي كلامه إلى هلاك سامعيه». وعن واجبات كاهن الرعيّة في الخدمة الكنسيّة والرعاية اليوميّة يقول: «إذا كنت كاهنًا فأنت مدعوّ إلى إقامة الخدمة، وعملك الكبير يبدأ خارج الصلوات بحيث تدفع إلى العبادة بأولئك الذين لا يعرفون العبادة، ثمّ تذهب إليهم بعد أن يكونوا قد خرجوا من الكنيسة ساعيًا إلى أن يأتوا إليها باستمرار. الافتقاد أساس ليعرفوك أيّها الكاهن الغيور ويعرفوا اللَّه بك، فالمؤمن يجب أن يكون محبوبًا من الكاهن، وهذا لا يظهر إلّا بالكلام معه في بيته أو في خارج بيته...».
وعن الكنيسة الأرثوذكسيّة يؤكّد المطران إسبيريدون أنّ وحدة الكنيسة هي وحدة عقائديّة ومرتبطة بالأسرار الإلهيّة فيقول: «عليك أن تكون خبيرًا في الكنيسة الحقيقيّة الواحدة النقيّة لتدرك حقيقة أو ضلال الكنائس التي تدّعي أنّها هي الكنيسة الواحدة في ملئها». ويدرك المطران إسبيريدون أنّ الشباب هم مستقبل الكنيسة وهم مسؤولو الغد عن البشارة واستمرارها في العالم، فيدعوهم إلى التعمّق في المعرفة الحقيقيّة في التراث المشرقيّ الروحيّ والأخلاقيّ... ويختم الأب جورج فيقول إنّ المطران إسبيريدون حفظ الوديعة وأنماها بنعمة الروح القدس فسعى إلى جعل القداسة الهدف الوحيد لكهنته وأبناء أبرشيّته. ونحن نلمس في كلماته لاهوتًا نابعًا من صميم الحياة، لاهوتًا حيًّا مستمدًّا من سرّ التجسّد الإلهيّ، وهذا اللاهوت يشعّ من الكأس المقدّسة ليملأ المؤمنين بالإيمان والرجاء والمحبّة».
أمّا الدكتور نقولا أبو مراد فيطلّ على الفكر اللاهوتيّ عند المطران إسبيريدون في الرعاية والتقوى والأسرار والكنيسة والكتاب المقدّس. وفي موضوع التقوى يرى سيادته أنّه حتّى يتحقّق سرّ الصليب في المؤمن فيحسن السلوك وتستقيم التقوى، وأنّ أولى واجبات المؤمن أن يمارس الصدقة والرحمة، فالفقير عنده هو معبر إلى يسوع، وأن يمارس المؤمن الصدقة يعني أن يقلّد أفعال اللَّه. والصدقة مع الصلاة والصوم ركيزة أساسيّة في الحياة المسيحيّة. في الكنيسة يتساوى المؤمنون فينبغي ألّا يكون بينهم محتاج. إذًا الصدقة عند المطران إسبيريدون محكّ الإيمان والالتزام.
وعن مكانة الكتاب المقدّس، يقول المطران إسبيريدون إنّ الكتاب كلّه موحى من اللَّه وهو كلمة اللَّه ورسالة روحيّة إلهيّة إلى البشر. إنّ يسوع هو في كلّ كلماته المسكوبة في الكتاب المقدّس، وهذا يعني أنّ الكتاب المقدّس حامل للمسيح نفسه.
في حديث المطران إسبيريدون عن الأسرار يشدّد على العنصر التقديسيّ للسرّ الذي يدخل المؤمن في شركة مع المسيح، والإفخارستيّا هي المجال الذي يجعل المؤمنين متّحدين مع الربّ، وشرط هذه الشركة أن يكون المؤمن مستعدًّا قبل المناولة بتعب وجهد كبير، ولا يجوز أن تصير المناولة عادة هي دومًا مدعاة إلى تجدّد روحيّ.
ويختم الدكتور أبو مراد فيقول: «يتميّز المطران إسبيريدون بالدقّة والعمق اللافتين، فهو يتناول موضوعه بشكل وافٍ، محيطًا بأهمّ جوانبه ويحاول ألّا يترك قارئه متحيّرًا في فهمه، بل ينقله بعناية كاملة إلى مستوى أعلى من الفهم والمعرفة».