العدد الثاني - سنة 2021

10 - دراسة كتابيّة - الحرب في الكتاب المقدّس قايين وهابيل - نقولا أبو مراد - العدد 2 سنة 2021

في رواية قايين وهابيل، يذعن الإنسان أيضًا للحيوان ويرفض أن يسير في المشورة الإلهيّة. وبنتيجة هذا الإذعان يقتل أخاه ويريق دمه على الأرض التي خلقها اللَّه لتكون حسنة، وخلقه ليحفظ حسنها. ليس صحيحًا أنّ اللَّه فضّل هابيل على قايين. حتّى ولو كان قبل قربان هابيل، إلاّ أنّه هو الذي أعطى قايين ابنًا لحوّاء. وهو حارثٌ للأرض وزارع لها على مثال آدم الذي جبله الربّ ليكون حارث الأرض. وقد كلّمه اللَّه ولم يكلّم هابيل. تلك نعم نالها قايين من الربّ لا تقلّ عن نعمة قبول الربّ لتقدمة هابيل. غير أنّ قايين أهمل هذه النعم، ولم يستمع إلاّ إلى صوت الخطيئة المتربّصة به. يلفتنا كيف يصوغ الكاتب عباراته في آ7. فهو يستعمل عبارة «خطيئة» المؤنّثة، ويستعمل معها نعتًا في المذكّر (رابض). تفسير هذا هو أنّ النعت المذكّر يشير إلى الحيوان المفترس، أمّا الخطيئة، فهي إشارة إلى ما ينوي قايين أن يقوم به. وعليه، يكون معنى هذه الجملة أنّ نيّة قايين بقتل أخيه هي كحيوان يريد أن يتسلّط عليه. يكرّر اللَّه لقايين دعوته إلى أن يتسلّط الإنسان على الحيوان. يمنحه فرصة تصحيح ما اقترفه أبوه. يدعوه إلى أن يسيطر على الوحش الرابض. غير أنّ قايين مضى إلى الحقل وخضع للحيوان، وقتل أخاه. فحوّل حقل الزراعة إلى حقل للدم، دم أخيه الصارخ أبدًا من الظلم، ظلم الذين لم يجعلوا كلمة اللَّه غايتهم، بل شكل حيوان مفترس قاتل.

تلعن الأرض قايين (4: 11). لن تنتج له زرعًا. وسيغدو تائهًا في الأرض متنقّلاً من غير هدى، مقيمًا في أرض «التيه». هذا اسمها وهذه حالته (تكوين 4: 12-16).

4- نسب قايين وأبناء الآلهة وبابل

يشكّل نسب قايين (4: 17- 24) محطّةً أساسيّةً في صوغ الإصحاحات 1– 11. ففيه يبرز الكاتب الاختلاف، لا بل التناقض، بين ما أراده اللَّه للإنسان وما يسعى إليه الإنسان. فالسبيل الذي اختاره يقوده بعيدًا عن الحديقة التي وضعه فيها الربّ، حيث كلّ شيء مؤمّن له من دون اضطراره إلى العمل. يقوده هذا السبيل إلى «المدينة» التي سوف تصير رمزًا لكبرياء الإنسان وتعاليه وسعيه إلى الجلوس على عرش اللَّه. إنّها المدينة الملكيّة، رمز النصرة والغلبة. هي التعبير الأكثر وضوحًا عن الانتصار في الحرب. هذه يبنيها قايين (4: 17). يريد منها أن تصبح العالم الذي يكفّ فيه عن أن يكون تائهًا. يهرب إليها من هربه. ليس بالأمر العابر أن يقول الكاتب إنّ أوّل مدينة على الأرض بناها قاتل. هذا نقد صريح للمدن التي قامت على جثث الناس المقتولين في الحروب، على مظلوميّة المساكين والضعفاء. فالكاتب يعرف أنّ المدينة لا يبنيها إلّا الأقوياء وقال عن بابل لاحقًا (10: 9– 10) إنّها ابتداء مملكة «الجبّار نمرود»، أي المحارب القويّ المتمرّد على الربّ والقاتل، واسم «نمرود» يعني «نتمرّد»، إشارةً إلى تمرّد الناس جميعهم على أمر الربّ.

بين قايين القاتل ونمرود المحارب علاقةٌ وثيقة مركزها المدينة الملكيّة، رمز قوّة حضارات الناس ومسعاهم في تاريخهم. يطلق عليها قايين اسم ابنه «أخنوخ»، المشتقّ من جذر يعني «وهب» دلالةً على اعتقاده أنّ مدينته هديّة منه إلى نسله. غير أنّ «أخنوخ»، تلد «عيراد»، والاسم يتألّف من «عير» (مدينة) و«رداه» (تسلّط). إنّها المدينة التي تتسلّط على الإنسان، أو يتسلّط فيها الإنسان. وتتوالى الأسماء في النسب بمعانيها، فيأتي من «تسلّط المدينة» امّحاء ما يقوم به الناس (محويائيل)، وموت ما يطلبونه (ميتوشائيل)، وصولًا إلى الجيل السابع، إلى ملكيّة مشوّهة، في صورة لامك القاتل أضعاف قايين.

في هذا السياق يقدّم الكاتب المدينة الأولى، ويتحدّث عن بابل، كبرى المدائن. المدينتان بناهما قاتلون. والمدينتان أسقطهما اللَّه. واحدةٌ أسقطها من الرواية فلا نعرف عنها سوى أنّ اكتمال تاريخها كان في لامك القاتل. وتسقط الثانية في أنّ اللَّه بدّل معناها. فمن «باب اللَّه» تغدو صورةً للبلبلة، للسقوط والانهيار والزوال.

وهذا الزوال، يتناوله الكاتب في قصّة الطوفان، التي تبدأ برواية أبناء الآلهة (6: 1، 9: 28). وفي هذه الرواية تأخذ الحرب مكانة مركزيّة. وللآيات 6: 1– 6 دور أساس. إنّها قراءة للكاتب في فكر الإنسان. أبناء الآلهة هم الذين يتحدّثون عن ذواتهم أنّهم من الآلهة، لا من البشر. أولئك الذين وضعوا قصصهم وتاريخهم وأساطيرهم على نحو يمجّدهم، ويجعلهم أرفع من سائر الناس. من بنات الناس، أي ممّن تسلّطوا عليهم واستغلّوهم لغاياتهم، ينجبون «الجبابرة المحاربين». بهذه الآيات القليلة يقول الكاتب إنّ الاحتراب بين الناس مردّه إلى ادّعائهم أنّهم آلهة، إلى ظلمهم وتسلّطهم على بعضهم البعض. ويسمّي هذا شرًّا وزيغانًا، ويسمّي منجبي الجبابرة «نيفيليم» (ساقطين) (6: 4). ويقرّر اللَّه أن يمحو الإنسان عن الأرض (6: 5– 6). لا يستأهل الإنسان الأرض وحسنها. أساء إلى خلق اللَّه بكبريائه الذي أوصله إلى الاحتراب، وبما في قلبه من عداوة. ولا يبقى في الأرض إلّا من اختار أن يكون بارًّا وأن يسلك بحسب ما أراده الربّ. هذا يمثّله نوح، ومعنى اسمه الراحة، راحة الإنسان التي منحها الربّ له قبل تمرّده: راحته من تاريخه الذي صنعه بالموت والقتل، ومن الشرّ الذي صنع. وبنوح يخلّص اللَّه الحيوان أيضًا.

تنتهي قصّة الطوفان في 9: 1– 6 بعهد للَّه مبنيّ على ما أعدّ له الكاتب في الإصحاحات السابقة؛ القتل ممنوع. ممنوعٌ أن يقتل الحيوان الإنسان، وممنوع أن يقتل الإنسان الإنسان. الربط في هذه الفقرة بين قتل الحيوان للإنسان وقتل الإنسان للإنسان يعني أنّ القتل حيوانيّ الطبيعة. غير أنّ الإنسان بما فعله في آدم، وقايين، ولامك، وأبناء الآلهة، ونمرود، وغيرهم، أساء إلى أمر اللَّه بالتسلّط على الحيوان بسلام ورعاية. ولذا سيبقى قتل الحيوان، كأقمصة الجلد، علامةً على الخطيئة التي ارتكبها الإنسان، إلى أن يتحقّق خلاص اللَّه، فينجّي الأرض من القتل، ويعمّ فيها سلامه الأبديّ.

خلاصة

يأتي القتل في صورة الحرب في صميم نظرة التكوين إلى معنى الوجود البشريّ. وأساس هذه النظرة أنّ الإنسان خلقه اللَّه ليحفظ الأرض وما فيها ويبقيها على الحسن والنظام اللذين جعلها اللَّه عليهما. غير أنّ الأرض إذا ما تحوّلت من مطارح للزرع إلى ميادين للاحتراب، والحيوان إلى رمز للقوّة، يكون الإنسان قد خالف الدعوة الأولى. ولكنّه، بموازاة تصويره لتاريخ الناس الدمويّ، يترك خطًّا مفتوحًا في اتّجاه الفعل الإلهيّ الخلاصيّ. فبالابن الذي يحلّه محلّ هابيل الذي قتله أخاه يفتتح الكتاب سبيلًا بديلًا من تاريخ البشر المصنوع بالقتل والحرب (4: 25– 26). بداءة هذا الطريق هي الدعوة باسم الربّ (4: 26)، والتي بها وحدها يصير الإنسان صورةً أمينةً للربّ. وهذا السبيل هو الوحيد الذي يعطي الرجاء في أن يتحوّل تاريخ الناس من تاريخ على صورة لامك القاتل إلى تاريخ على صورة أخنوخ السائر مع اللَّه (5: 21- 24). يكتمل هذا الخطّ، في نهاية سفر التكوين، في يوسف الوحيد من بين إخوته الذي يشبّهه أبوه، في نبوءته عن أبنائه ( تكوين 49) بشجرة مثمرة، فيما معظم الآخرين يشبّههم بالحيوانات. يوسف الذي كان في حياته تجسيدًا لأمر اللَّه بالإكثار والإثمار، يختتم سفر التكوين في النقطة التي بدأ منها. فقد عمل للحياة، ولم ينتقم من إخوته، وما انتقم من أهل مصر على ظلمه، بل كان عمله لخير الجميع وحياتهم واستمرارهم في الوجود على الأرض. هذه صورة اللَّه في الإنسان.

تتوالى روايات الكتاب لتظهر أنّ الناس ما كانوا على صورة يوسف، وتصل بنا إلى انتظار رحمة اللَّه وخلاصنا من الحرب، وذلك في وجه من سحقه عنف الناس عبده المتألّم (إشعيا 52: 13، 53: 12). هذا المرذول هو الذي يدعونا الكتاب إلى أن نجعله ربًّا لنا في صورة المسيح المصلوب. فإذا آمنّا بقوّة صلبه، ندرك أنّ الطريق الحقيقيّ إلى الحياة لا يكون إلّا بصلب حيوانيّتنا من الداخل. حينئذٍ يكون الربّ قد داس على رأس الوحش وقتله. ولكن، إلى أن تصير الأرض وملؤها خاضعةً لصورة الحمل المذبوح، سيبقى جرح العنف مفتوحًا، والناس في احتراب، ولن يتحقّق السلام، بسقوط الحرب، إلّا في آخر الأيّام.

Loading...
 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search