نستقي معلوماتنا حول هذه الشخصيّة الناريّة الاتّقاديّة من كتاب أعمال الرسل، ومن كتابات القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم، الذي كان يجلّ الرسول بولس ويعتبره أبًا روحيًّا رغم البعد التاريخيّ، ويكنّ له احترامًا واعتبارًا. وكان بالنسبة إليه المعلّم بكلّ ما في الكلمة من معنى، ويقرأ رسائله متمعّنًا بها.
بالعبريّة اسمه شاول وهو يعنى المبتغى، وبالترجمة اللاتينيّة بولس الذي يعني قصير القامة. وهذا القول ينطبق على ما كان هو عليه، إذ كان يقول عن نفسه إنّه أصغر الرسل (١كورنثوس 15: 9)، وأصغر القدّيسين (أفسس 3: 8).
وُلد مواطنًا رومانيًّا حرًّا ما يدلّ على أنّه ينحدر من عائلة ذات شأن ومعروفة في المجتمع. عاصر يسوع المسيح ولكن ما من دليل على أنّه التقاه. مسقط رأسه مدينة طرسوس في كيليكية. كان مثقّفًا يتقن الآراميّة، لغة العبرانيّين في أيّامه، واليونانيّة لغة العالم المتمدّن. كان يعمل في الحياكة ويصنّع الخيم الصوفيّة من شعر المعز. ميلاده سبق سيّده يسوع بالجسد بسنتين كما حدّد الذهبيّ الفم. نما في بيئة فرّيسيّة وتتلمذ على المعلّم «جملائيل»، الذي كان معلّمًا فرّيسيًّا تميّز بميله إلى التحرّر في شرحه الشريعة، وهذا ما يفسّر تسامح بولس الرسول في حكمه على البشر والخطأة وتعليمه حول المحبّة في رسائله (1كورنثوس 13)، إذ قال: «إن كان لي كلّ الإيمان حتّى أنقل الجبال ولكن ليس لي محبّة فلا أنفع شيئًا...». كان يعلّم أنّ المسيحيّة ترتكز على ثلاثة عناصر هي الإيمان والرجاء والمحبّة، ولكن أعظمهنّ المحبّة. ولكن كيف نتصرّف لكي نسير على درب المحبّة؟ الكلام سهل ولكنّ التصرّف صعب والتطبيق غير سهل. يحوي المرء في داخله جذورًا صالحة وأخرى شرّيرة، فالأنا يتغلّب أحيانًا فننسى الرحمة وتبرز الأمور السيّئة. أمّا بولس الرسول فيشدّد على المحبّة التي تتأنّى وتصبر على كلّ شيء وتحتمل الأذى ولا تحسد ولا تنطق بالنميمة. ألم يقل يوحنّا الإنجيليّ إنّ السيّد إنّما أسلم حسدًا. فللحسد طاقات سلبيّة قد تؤدّي أحيانًا إلى الجريمة. الحسد هو أن يشتهي المرء ممتلكات غيره وهذا بند ينهي به موسى وصاياه العشر.
كان شاول في الثالثة والثلاثين عندما رجم أمامه القدّيس الرحيم إستفانوس أوّل شهيد في المسيحيّة. وشاول كان من أهمّ المحرّضين على هذه الجريمة. بعد تلك الحادثة انطلق كفرّيسيّ شرس نحو دمشق مزوّدًا برسائل وقّعها رئيس الكهنة اليهوديّ الذي ربّما هو نفسه حضر محاكمة السيّد الظالمة وشقّ ثيابه.
طريق دمشق
يقول كتاب أعمال الرسل (6: 5) «فاختاروا (أي التلاميذ) إستفانوس وهو رجل ممتلئ من الإيمان والروح القدس». فبعد خطبته الشهيرة أمام رئيس الكهنة التي استرجع فيها كلّ تاريخ العهد القديم وصولًا إلى المسيح. ثمّ حدّق إلى السماء وهو ممتلئ من الروح القدس وقال: «إنّي أرى السموات منفتحة وابن الإنسان قائمًا عن يمين اللَّه». وأنهى خطبته قائلًا: «يا صلاب الرقاب ويا غُلف القلوب والآذان، إنّكم تقاومون الروح القدس». فلمّا سمع اليهود الذين مع رئيس الكهنة هذا الكلام هجموا عليه هجمة رجل واحد فدفعوه خارج المدينة وأخذوا يرجمونه. أمّا الشهود فخلعوا ثيابهم عند قدمي شابّ يدعى شاول (7: 58) بينما كان إستفانوس يقول: «ربّي يسوع تقبّل روحي»، ثمّ جثا وصاح بأعلى صوته «يا ربّ لا تحسب عليهم هذه الخطيئة»، ثمّ رقد. وكان شاول موافقًا على قتله. وفي الفصل التاسع من أعمال الرسل ورد ما يلي: «أمّا شاول فما زال صدره ينفث تهديدًا وتقتيلًا لتلاميذ الربّ».
ثمّ حصلت المعجزة! إذ «بينما هو سائر وقد اقترب من دمشق، إذا نور من السماء قد سطع حوله فسقط على الأرض وسمع صوتًا يقول له «شاول شاول لماذا تضطهدني؟
- من أنت يا ربّ؟
- أنا يسوع الذي أنت تضطهده. ولكن قم فادخل المدينة فيُقال لك ما يجب أن تفعل».
أمّا رفاقه فوقفوا منبهرين ومتعجّبين يسمعون الصوت ولا يرون أحدًا. فنهض شاول عن الأرض وهو لا يبصر شيئًا مع أن عينيه كانتا منفتحتين، وقد عمي بصره بالنور البهيّ الذي سطع حوله. فاقتادوه بيده ودخلوا به دمشق، فلبث ثلاثة أيّام مكفوف البصر لا يأكل ولا يشرب.
حنانيا
«وكان في دمشق تلميذ اسمه حنانيا فناداه الربّ في رؤيا «يا حنانيا»، أجاب «لبّيك يا ربّ»، فأمره الربّ «قم فاذهب إلى الزقاق المعروف بالزقاق المستقيم، واسأل في بيت يهوذا عن شاول المسمّى الطرسوسيّ فها هوذا يصلّي». تردّد حنانيا قائلًا «عنده تفويض من رؤساء الكهنة ليوثق كلّ من يدعو باسمك». نلاحظ هذا الحوار البسيط بين السيّد وتلاميذه ولا تعجّب عند حنانيا وكأنّه ينتظر بلاغًا من الربّ. دار الحوار بين السيّد الذي يأمر والتلميذ الذي يتعجّب حتّى انتهى الحديث بكلمة السيّد «سأريه ما يجب عليه أن يعاني في سبيل اسمي».
أطاع حنانيا وتوجّه إلى البيت حيث كان شاول وقال له إنّه من يسوع لكي يبصر ويمتلئ من الروح القدس ووضع يديه على رأسه. فللحال تساقط من عيني شاول كأنّها قشور تناثرت من عينيه، فأبصر واعتمد وعادت له قواه. فأقام بضعة أيّام في دمشق مع التلاميذ وأخذ ينادي في المجامع بأنّ يسوع هو ابن الله. فتعجّب اليهود من سكّان دمشق، وبعد أيّام حاولوا أن يغتالوه. فعلم شاول بالأمر، فرحّله تلاميذه من دمشق إلى أورشليم إلى قيصريّة ومنها إلى طرسوس. وكانت الكنيسة تنعم بالسلام في اليهوديّة والجليل والسامرة. أمّا كيف حصل ذلك بما أنّ أبواب المدينة كانت مراقبة؟ سار به تلاميذه ليلًا ودلّوه من السور في زنبيل. ولمّا وصل إلى أورشليم حاول أن ينضمّ إلى التلاميذ هناك، ولكنّهم كانوا يخافونه غير مصدّقين ما يقوله وذلك بسبب ماضيه عندما كان يضطهد الكنيسة الناشئة.
فأخذ برنابا بيده وسار إلى الرسل، وروى لهم كيف رأى الربّ في الطريق وكلّمه وكيف تكلّم بجرأة باسم يسوع في دمشق. وكان شاول يتنقّل مع التلاميذ ويتكلّم باسم الربّ، ويخاطب اليهود الهلّينيّين أيضًا ويجادلهم، فحاول هؤلاء أن يقتلوه. شعر الإخوة بذلك فمضوا به إلى القيصريّة ثمّ رحّلوه منها إلى طرسوس مسقط رأسه حيث أقام بضع سنوات.
كنيسة أنطاكية
الذين تشتّتوا بسبب الضيق الذي وقع بشأن إستفانوس، فإنّهم انتقلوا إلى فينيقية وقبرص وأنطاكية (أعمال 11: 19- 27). فلمّا قدموا أنطاكية أخذوا يكلّمون اليونانيّين أيضًا ويبشّرونهم فآمن منهم عدد كثير واهتدوا. بلغ خبرهم إلى أورشليم فأوفدوا برنابا لأنّه كان رجلًا صالحًا ممتلئًا من الروح القدس والإيمان. ثمّ مضى إلى طرسوس يبحث عن شاول، فلمّا وجده جاء به إلى أنطاكية حيث أقاما سنة كاملة معًا يعلّمان ويبشّران، وفي أنطاكية سُمّي التلاميذ لأوّل مرّة مسيحيّين.