العدد الثاني - سنة 2021

12 - الإيمان على دروب العصر - تساؤلات حول الدينونة: ليس خفيّ لا يظهر - د. جورج معلولي - العدد 2 سنة 2021

«صوت دم أخيك صارخ إليّ من الأرض» (تكوين ٤: ١٠)

   «من يظلم فليظلم بعد» (رؤيا ٢٢: ١١)

 

صورة اللَّه المحبّ والديّان

في العهد القديم:

لا تختفي صورة اللَّه الديّان من الكتاب المقدّس وإن أزلنا منها كلّ ما علق فيها من تشوّهات وتخيّلات مرضيّة على مرّ العصور. من التكوين إلى الرؤيا نجد التأكيد المزدوج: إنّ اللَّه محبّة وهو ديّان عادل. لا تكشف لغة المزامير عبر محدوديّة الكلمات البشريّة عظمة هذا السرّ: «الربّ رحيم حنون، صبور وكثير الرحمة. لا يخاصم على الدوام، ولا إلى الأبد يحقد»، (مزمور ١٠٣: ٨- ٩). من جهة يصون اللَّه البشر بمحبّة فيّاضة: «الربّ عزّي وترسي. عليه أتّكل قلبي، فانتصرت»، (مزمور ٢٨: ٧) ولكن من جهة أخرى لا يخفى أنّ محبّة اللَّه محبّة فعّالة تريد خلاص الإنسان وتخاطب مسؤوليّته وحرّيّته. يظهر هذا بشكل جليّ في المزمور التالي: «إفهموا أيّها البلداء في الشعب. ويا جهلاء متى تعقلون؟ الغارس الأذن ألا يسمع؟ الصانع العين ألا يبصر؟ المؤدّب الأمم ألا يبكّت؟ المعلّم الإنسان معرفة. الربّ يعرف أفكار الإنسان أنّها باطلة» (مزمور ٩٤: ٨- ١١). الفكرة واضحة: ليست المحبّة الإلهيّة عمياء ولا صمّاء بل كلّ شيء يتعرّى أمام صفائها وينفضح. أن تحبّ الآخر يعني أن تريد نموّه وسلامته وأن يقفز من مجد إلى مجد، فتحزن إن ضلّ السبيل المسجّل في لحمه وأخطأ الهدف. إذًا هناك تناضح بين المحبّة والحقّ فالنور واحد يضيء في الظلمة: «إنّي أسمع ما يتكلّم به اللَّه الربّ، لأنّه يتكلّم بالسلام لشعبه ولأتقيائه، فلا يرجعنّ إلى الحماقة! لأنّ خلاصه قريب من خائفيه، ليسكن المجد في أرضنا. الرحمة والحقّ التقيا. البرّ والسلام تلاثما»، (مزمور ٨٥: ٨). أمانة اللَّه للشعب وأمانته للحقّ (أي لنفسه) يلتقيان ويتلاثمان. هذا بعيد كلّ البعد عن صورة اللَّه الشرطيّ والقاضي الظالم الذي يسجّل في دفتره السماويّ هفوات الناس. اللَّه نور يضيء في من شفّ للحقّ كالزجاج ويظهر نارًا في الفحم المقاوم للمحبّة. يغلب على هذه النصوص ذكر الظلم الاجتماعيّ والبرّ والحقّ في العلاقات بين البشر.

هل يزول الكلام على الدينونة في العهد الجديد؟

هل تختفي صورة اللَّه الديّان في العهد الجديد؟ كلّ كتب العهد الجديد (ما عدا الرسالة إلى فيليمون) تحكي عن الدينونة بصور متعدّدة: الحصاد الأخير، الفصل بين الخراف والجداء، شبكة الصيد صباحًا على الشاطئ، الوليمة العظيمة، والوقوف أمام القاضي والباب المغلق. بطريقة أو بأخرى هناك كشف للخفايا في اليوم الأخير الرهيب. وبعكس ما يظنّ يذكر يسوع هذا اليوم بطريقة صوريّة متكرّرة ويدعو إلى التحوّل والمصالحة بشكل طارئ: «حينما تذهب مع خصمك إلى الحاكم، إبذل الجهد وأنت في الطريق لتتخلّص منه، لئلاّ يجرّك إلى القاضي، ويسلّمك القاضي إلى الحاكم، فيلقيك الحاكم في السجن. أقول لك: لا تخرج من هناك حتّى توفي الفلس الأخير» (لوقا ١٢: ٥٨). طالما نحن في الطريق فالمصالحة ممكنة. ذلك بأنّ وراء صورة القاضي البشريّ ترتسم صورة الديّان الإلهيّ وصورة الطريق التي تقود إلى المحكمة تعبّر عن الحياة التي تقود إلى الدينونة الأخيرة. الوقت المتبقّي رمز للزمن الذي يفصلنا عن الوقوف الأخير بين يدي اللَّه. يستخدم يسوع أيضًا صورة المطر الشديد التي يزيل كلّ شيء إلاّ ما كان أساسه متينًا وحسنًا، أي ما كان مؤسّسًا على الكلمة الإلهيّة المتأصّلة فينا أفعالاً ومواقف، أي كيانًا تعمّقت جذوره في الملكوت المتفشّي في الأرض سرّيًّا: «ولماذا تدعونني: يا ربّ، يا ربّ، وأنتم لا تفعلون ما أقوله؟ كلّ من يأتي إليّ ويسمع كلامي ويعمل به أريكم من يشبه. يشبه إنسانًا بنى بيتًا وحفر وعمّق الأساس على الصخر. فلمّا حدث سيل صدم النهر ذلك الببيت، فلم يقدر على أن يزعزعه، لأنّه كان مؤسّسًا على الصخر. وأمّا الذي يسمع ولا يعمل، فيشبه إنسانًا بنى بيته على الأرض من دون أساس، فصدمه النهر فسقط حالاً، وكان خراب ذلك البيت عظيمًا» (لوقا ٦). ليست هذه دعوة إلى أخلاقيّة خارجيّة أو شرائعيّة قضائيّة، بل نداء إلى الكيان البشريّ كي يستدخل حياة الكلمة المتجسّدة ويتحوّل بها.

التدرّج في الكشف الإلهيّ لصور الدينونة في الكتاب المقدّس:

لم يخترع المسيحيّون الأوائل مفهوم الدينونة، وإن كشف يسوع أبعادها في أمثال الملكوت، وكان صليبه «دينونة الدينونة» على ما قال القدّيس مكسيموس المعترف، مدخلاً إيّانا إلى أعماق فكر اللَّه ومحبّته. يلاحظ دارسو الكتاب المقدّس أنّ صور اللَّه الديّان الأولى تترجم بشكل خاصّ في أنّه يكافئ الأبرار ويعاقب العصاة خلال حياتهم: «من يجازي عن خير بشرّ لن يبرح الشرّ من بيته»، يهدّد سفر الأمثال (أمثال ١٧: ١٣). هذا قانون العدالة الطبيعيّة التي يحدسه الإنسان انعكاسًا - وإن باهتًا - للعدالة الإلهيّة. اكتفى الشعب القديم طويلاً بهذا المفهوم الأخلاقيّ لعدالة أرضيّة طبيعيّة حتّى ظهر كلام جديدة عند الأنبياء (ابتداء من القرن الثامن قبل الميلاد) وبخاصّة عند عاموص وهوشع، حيث يأتي الربّ ليضع حدًّا للتاريخ أو يخترق عموديًّا أفق الزمان: «ويل للذين يشتهون يوم الربّ! لماذا لكم يوم الربّ؟ هو ظلام لا نور. كما إذا هرب إنسان من أمام الأسد فصادفه الدبّ، أو دخل البيت ووضع يده على الحائط فلدغته الحيّة. أليس يوم الربّ ظلامًآ لا نورًا، وقتامًا ولا نور له؟» (عاموص ٥: ١٨). ثقلت خطايا الشعب وكثرت حتّى عجزت كلّ عدالة أرضيّة أن تضع لها حدًّا. حتّى كوارث التاريخ ومصائبه لم تثن الشعب عن الظلم. إذًا يجب أن يتدخّل اللَّه، يقول الأنبياء، تدخّلاً خارجًا عن الزمن أو عابرًا للزمن. تتكثّف هذه الروحانيّة الرؤيويّة في القرون الأخيرة قبل الميلاد (عند إشعياء ٤٠- ٥٣) وحجّاي وزكريّا ودانيال...). لن يزول الرجاء رغم كثافة الظلام. سيأتي اللَّه لينهي الشرّ ويحرّر أحبّاءه من العبوديّة التي تثقل كاهلهم.

الدينونة الأخيرة سند للثورة ضدّ الشرّ:

  يغذّي الإيمان بالدينونة الأخيرة اعتراض الضمير البشريّ على الشرور. هل يستسلم الإنسان أمام الظلم المتراكم ويتخلّى عن كلّ قيم العدالة والسلام واحترام الحياة؟ هل نترك العالم للأشرار؟ أن نؤمن بالدينونة الأخيرة يعني أن نرفض تسليم الأرض لسلطان الظلمة. ليس للشرّ الكلمة الأخيرة بل لدينونة الله. هذا إيمان محرّر. أمام البشر المقهورين والنساء اللواتي يتعرّضن للاغتصاب والأطفال الذين يعانون الاستغلال وكل المساكين الذين تكسرهم هيكليّات الظلم في العالم، والحروب والقتل، يعطي الإيمان بالدينونة صوتًا لكلّ من اختنق صوته أمام هول الشرّ ليشهد نبويًّا ويشهد الله على عالم بات لا يحتمل.

الدينونة مفاجأة إلهيّة:

ولكن ألا تغذّي هذه الرؤية شعور النقمة والتلذّذ بالانتقام من الأشرار في اليوم الأخير؟ لم تصل اللعبة إلى خواتيمها بعد، وقبل نهايتها لا نعرف من هم الأشرار ومن هم الأخيار. هويّتهم مغلق عليها حتّى يكشفها اليوم الأخير. ستكون الدينونة الأخيرة مفاجأة إلهيّة للجميع: «ويعودون يميّزون بين الصدّيق والشرّير، بين الذي يعبد اللَّه والذي لا يعبده. وقال الربّ القدير: سيأتي يوم يحترق فيه جميع المتجبّرين وفاعلي الشرّ كالقشّ في التنّور المتّقد. في ذلك اليوم يحترقون، حتّى لا يبقى لهم أصل ولا فرع، وتشرق لكم أيّّها المتّقون لاسمي شمس البرّ والشفاء في أجنحتها» (ملاخي ٣: ١٨- ٢٠). لماذا يعودون يميّزون بين الصدّيق والشرّير؟ لأنّ المظاهر خدّاعة على هذه الأرض. فكم من صدّيق يخفى شرّه عن العيون وكم من خاطئ يكنز برًّا مخفيًّا؟ ليس اليوم الأخير تأكيدًا للعدالة البشريّة المعلومة بل تمزيقًا للحجب، كشفًا ودهشًا.

في نصوص العهد الجديد تتأكّد الدينونة كمفاجأة إلهيّة أيضًا: «كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم: يا ربّ، يا ربّ! أليس باسمك تنبّأنا، وبأسمك صنعنا قواتٍ كثيرة؟ فحينئذٍ أصرّح لهم: إنّي لم أعرفكم قطّ! إذهبوا عنّي يا فاعلي الإثم!» (متّى ٧: ٢٢- ٢٣). قول يسوع هذا في العظة على الجبل مربك فعلاً. هؤلاء المؤمنون الذين «سجّلوا» الكثير من النبوءات والشفاءات والأعاجيب ألا يكونون أوّل من ينجو من اليوم الأخير؟ يصرّح الربّ: «لم أعرفكم قطّ» ويسمّيهم فاعلي إثم، أي بلغة الكتاب المقدّس، قد نسوا البرّ الإلهيّ. من الواضح في العظة على الجبل أنّ كلّ برّ وكلّ شريعة يكمل في هذا: «سمعتم أنّه قيل: تحبّ قريبك وتبغض عدوّك. وأمّا أنا فأقول لكم: أحبّوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم. أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم، لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات» (متّى ٥: ٤٣-٤٤). إذًا هؤلاء المؤمنون الخارقون قد نسوا أن يحبّوا. تقلب الدينونة الأخيرة الموازين كما يظهر في إنجيل الدينونة (متّى ٢٥).

لا تحقّق الدينونة الأخيرة الرغبات السرّيّة لمن يعتقدون نفسهم أبرارًا ولا شهوة الانتقام الدفينة عند البشر. الإيمان بالدينونة هو انتظار الحقّ الذي يتجاوز كلّ الانتظارات.

 

Loading...
 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search