العدد الأوّل - سنة 2021

06 - ليتورجيا - نشيد الأكاثستس أو مديح والدة الإله - الأب الإكونومس إلياس (شتوي) - العدد 1 سنة 2021

مديح والدة الإله «الأكاثسْتس» - الذي لا يجلس فيه - هو الأثر الوحيد الذي وصلنا عن الصيغة القديمة للنمط الموسيقيّ المسمّى بالقنداق، الذي يعود بجذوره إلى التقليد الهيمنوغرافيّ السريانيّ، والذي وضعه القدّيس أفرام مَلفان البيعة الذي لاقت مؤلّفاته رواجًا كبيرًا دفعت بالشعب المسيحيّ إلى الترنّم بها، لا في الكنيسة فقط بل في السوق أيضًا!

يشير كتاب المراسم ( التيبيكون) في كنيسة القسطنطينيّة إلى عادة تلاوة القنداق في ختام السهرانيّة التي كانت تقام في الكنيسة العظمى آيا صوفيا (أو إحدى كنائس العاصمة)(١). وكان يؤدّيه المرنّم من على المنبر على شكل أبياتٍ أو آياتٍ يتلوها بترنيم خفيف تتخلّلها اللازمة التي ينشدها الشعب.

يعتمد القنداق على نظام شعريّ بسيط تُستخدَم فيه بمرونة أبيات شعرٍ قصيرة، رباعيّة أو مثمَّنة الوزن، يتصدّره مقطع موسيقيّ خاصّ، يتبعه عدد من المقاطع ثمّ ينتهي بلازمة ختاميّة ذات نمط موسيقيّ مغاير.

لا شكّ في أنّ نَظْمَ الأكاثسْتس ارتبط بحادثة إنقاذ المدينة المالكة من حصارٍ – أو حصارات متعدّدة – بفضل تدخّل إلهيّ! لكنّ النشيد يتخطّى هذا الإطار التاريخيّ ليبدو تأمّلًا شعريًّا في حدث البشارة المرتبط ارتباطًا وثيقًا منذ بدء الروزنامة الطقسيّة بعيد الفصح.

تتميّز الأبيات المفردة بصناعة شعريّة عالية غنيّة بالصور والاستعارات! لكنّ الأبيات المزدوجة هي التي تشكّل البنية اللاهوتيّة للنشيد، إذ تعيد صياغة الأحداث الواردة في الإنجيل. فتذكر اندهاش العذراء من بشارة الملاك، وحلول الروح عليها لكي تحبَل، وتصوّر لنا كيف تخطّى يوسف أخيرًا عاصفة الشكوك، وكيف جاء المجوس يبحثون عن الملك القدير وعادوا إلى بلادهم لابسين اللَّه، وكيف تمّ اللقاء في الهيكل مع سمعان. وتتحوّل الأبيات المزدوجة إلى نوافذ تحثّنا على التوبة متأمّلين في سرّ التجسّد وفي محبّة اللَّه التي لا يُدرَك غورها! وتدعو المؤمن إلى التفاعل شخصيًّا مع هذه المبادرة الإلهيّة وأن يحقّق في ذاته نَعَمَ مريم التي أعطت كلّيّتها للَّه، فأضحت أيقونة البشريّة المؤمنة! ويكشف لنا تعجّب الملائكة من التنازل الإلهيّ سموَّ دعوة البشر على تلك التي للقوّات العلويّة. وينكشف لنا معنى التجسّد: الكلمة جاء يبحث في  الهاوية عن الصورة الساقطة ليرمّمها ويعيدها إلى المثال القديم!

تعالج الأبيات المفردة ببراعة شعريّة وبانتظام بعض المواضيع المتكرّرة. إنّها تظهر لنا العذراء مريم كأداةٍ استعان بها اللَّه لتحقيق الخلاص. ويَبرز خصوصًا دور مريم كوسيطةٍ بين اللَّه والبشر (فهي الجسر والسلّم). وتعيد والدة الإله بطاعتها ونقاوتها الوصال بين اللَّه والبشر، إذ بها دخل عالمهم وصار واحدًا مثلهم.

حول هذه الحقيقة يدور كلّ النشيد.  لـمّا أصبحت مريم «حوّاء الجديدة» بميلادها «آدم الجديد» أتاحت لنا العودة إلى الفردوس. فحوّاء الأمّ الأولى خدعتها الحيّة فولدت الموت. أمّا الثانية فهي أمّ الحياة الجديدة، المخصّبة بالروح، تبسط أمام البشر محاسن الفردوس حيث الصداقة مع اللَّه. تحلّ والدة الإله مكان الأمّ الأولى التي بدلًا من أن توردَنا إلى شجرة الحياة أوردتنا إلى السقوط. في حوّاء الجديدة تستعاد البشريّة، وفيها يتمثّل كلّ تدبير اللَّه في العهد الأوّل القديم: إنّها الشعب المختار وهيكل الربّ الجديد علامة حضور اللَّه وسط شعبه.

في الختام ينكشف أمامنا سرّ التدبير الخلاصيّ المحجوب عن البشر والملائكة والشياطين. فلن يكفَّ نشيد الأكاثسْتس عن تذكيرنا بأنّ عمل اللَّه الحاسم والخلاّق في تاريخ البشر إنّما ينمو في الخفاء والصمت والعتمة، إنّه غريب عن ضوضاء مجد أهل الأرض وخيلائهم!

في كتاب «لبنان إن حكى» سطّر عبقريّ لبنان سعيد عقل فصلًا، بعنوان: «يرفع الأرض إلى السماء»، ويدور موضوعه حول «مدائح العذراء» في الطقس البيزنطيّ؛ فقال: «في عشيّة من عشايا الربيع كان راهب(٢) وشاعر منكبَّين على نصّ يونانيّ هو «مدائح العذراء» أو، على الأشهر، «المدائح» وكفى». قصائد على كلّ شفة ينشدها أبناء الليتورجيا البيزنطيّة كلّ مساء جمعة في آونة الصيام.

- تعرف يا أبت؟ إنّني أعدّ المدائح أجمل شعر أطلعه قلم.

وتتهلّل أسارير الراهب. فيكمل الشاعر:

- في ذهني، وأنا أطلق هذا الحكم، أروع تحف الدنيا:

(ويسرد ملاحم شعراء اليونان وبعض «مزامير داود» و«نشيد الأناشيد» و«الكوميديا الإلهيّة» لدانتي، و«حلم ليلة صيف» من تحف شكسبير، ثمّ «فوست» التي بقي غوتّه يعمل فيها قلمه مدّة ستّين سنة...). ومع هذا تراني عليها جميعًا أؤثر «المدائح». أحفظها عن ظهر قلب بالترجمة العربيّة، وأتهجّأها مستمتعًا بنغماتها الأنيقة في الأصل الإغريقيّ.

وسكت الشاعر قليلًا ثمّ استطرد:

- شعراء الدنيا وموسيقيّوها جميعًا توسّلوا إلى القارئ بالحزن ليحرّكوا نفسه اليابسة... الجرح عندهم وسيلة؛ أمَّا الفرح – الفرح مباشرة – فقَلَّ من أهل القلم أو الوتر من بنى به وأعلى. بَيْدَ أنّ الشاعر الإلهيّ، صاحب «المدائح»، رفع من الفرح كاتدرائيّة شعرٍ تكاد تحاكي «آيا صوفيا» وتشيل بها على جناحين. كلّ ذلك إكرامًا للتي، على تواضعها، قالت ذات يوم: «ها منذ الآن تطوّبني جميع الأجيال».

Loading...
 

 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search