العدد الأوّل - سنة 2021

07 - خاطرة - الافتقاد في الضيقات - الأب نعيم (حدّاد) - العدد 1 سنة 2021

الافتقاد في الضيقات

الأب نعيم حداد

 

الافتقاد في زمن العهد القديم

في عيد الميلاد نرتّل في الأكسابستلاري هذه الصلاة: «لقد افتقدنا مخلّصنا من العلى، من مشرق المشارق، فنحن الذين في الظلمة والظلال قد عثرنا على الحقّ لأنّ الربّ ولد من البتول». أُخذت هذه الترتيلة من إنجيل لوقا، وبالتحديد من نشيد زكريّا الذي قاله بعد ولادة ابنه يوحنّا، هذه الولادة التي افتقد فيها اللَّه زكريّا وأليصابات، بعد عقم طويل، وعبرها أظهر حنانه ورحمته: «بأحشاء رحمة إلهنا التي بها افتقدنا المشرق من العلاء. ليضيء على الجالسين في الظلمة وظلال الموت، لكي يهدي أقدامنا في طريق السلام» (لوقا 1: 78- 79).

 منذ السقوط والعالم يعيش في أزمة وجوديّة، فالعلاقة بين الإنسان واللَّه كانت متأرجحة بين عبادة اللَّه وعبادة الأوثان. وفي هذا السياق، نذكر كلام النبيّ إيليّا للشعب عند مناظرته مع كهنة الأوثان لإثبات من هو الإله الحقيقيّ: «حتّى متى تعرجون بين الفرقتين؟ إن كان الربّ هو اللَّه فاتّبعوه، وإن كان البعل فاتّبعوه». فلم يجبه الشّعب بكلمةٍ» (1ملوك 18: 21).

وتشوّشت نظرته إلى اللَّه، ومن الأمثلة على ذلك الخروج من مصر، عندما أنقذ اللَّه شعبه من العبوديّة، لكن حين تأخّر موسى في الجبل طلبوا من هرون أن يصنع عـجـلًا ذهـبيًّا لعـبـادتـه واعتبروه اللَّه الذي أخرجهم من مصـر (خروج 32 :1- 13)، فـكان عاجزًا عن أن ينمو فـي عـلاقته مـع اللَّـه، رغـم وجود مرسلين من اللَّه، الأنبياء وغيرهم وتذكيرهم البشر بضرورة العودة إلى اللَّه. 

لكنّ الجو المحيط كان أكثر ضغطًا، وأكثر جذبًا للإنسان لأن ينغمس في الخطيئة، وأن يعيش في ظلمتها من دون هدى، ومن دون بصيص نور. الضيقة الكبرى والأكثر خطورة التي يعيشها الإنسان هي عندما يكون أسير الأهواء والخطايا، والأفكار والمعتقدات التي  تبعده عن اللَّه. من هنا نستطيع أن نفهم هذه الصلاة الرائعة والتي تختصر كلّ سرّ التدبير الإلهيّ والتاريخ المظلم الذي سبق تجسّد الربّ يسوع، والذي يمكننا أن نسمّيه سرّ الافتقاد الإلهيّ للإنسان. 

 فسرّ التدبير الإلهيّ هو المولود من أحشاء رحمة اللَّه، والمطران جورج (خضر) يعيد كلمة الرحمة إلى الرحم، ويعطي اللَّه صفة الأمومة الذي يرحم، ويلد برحمته أبناءً للملكوت. الربّ يسوع هو المفتقد الأوّل للبشريّة الرازحة تحت وطأة الخطيئة، والأمراض. بشارته، وتعليمه، وعجائبه كانت افتقادًا، وتعزية، واحتضانًا للمرضى، للخطأة، للمهمّشين، للمحزونين.

بدأ الربّ يسوع بشارته بنصّ من إشعياء الذي يعبّر عن المسيّا الحامل أوجاع المتألمّين: «روح الربّ عليّ، لأنّه مسحني لأبشّر المساكين، أرسلني لأشفي المنكسري القلوب، لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعمي بالبصر، وأرسل المنسحقين في الحرّيّة» (لوقا 4: 18) (إشعياء 61: 1– 2).

بعد أن أقام يسوع ابن أرملة نايين، يخبرنا لوقا: «فأخذ الجميع خوفٌ ومجّدوا اللَّه قائلين قد قام فينا نبيٌ عظيمٌ وافتقد اللَّه شعبه» (لوقا ٧: ١٦). والزيارات التي قام بها الربّ يسوع لبيوت أشخاص مرضى وحزانى، كمنزل يايرس (لوقا 8: 49- 56)، والخطأة مثل زكّا العشّار) لوقا 19: 1- 10)، كانت أيضًا للاستفقاد.

والكتاب المقدّس، بعهديه القديم والجديد، غنيّ بالأمثلة عن وقوف اللَّه، أو أشخاص، أو الجماعة إلى جانب الآخرين في وقت الشدّة.

فلدينا في العهد القديم مثلًا: عندما أراد اللَّه أن يخرج الشعب اليهوديّ الخاضع لعبوديّة فرعون من مصر، ظهر لموسى في العلّيقة المحترقة وقال له: «اذهب واجمع شيوخ الشعب وقل لهم: الربّ إله آبائكم، إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ظهر لي قائلًا: إنّي قد افتقدتكم وما صنع بكم في مصر» (خروج 3: 16). في سفر القضاة نـرى بشكـل جـليّ افتقـاد اللَّه لشعبه بعد مخالطته الشعوب كالكنعانيّين والحثيّين والأموريّين والفرزيّين... (قضاة 3: 5) والزواج من بناتهم وعبادتهم آلهتهم، وبسبب خطاياهم استعبدتهم ممالك عدّة كالأراميّين والمؤابيّين، لكنّ اللَّه خلّصهم على يد القضاة الذين دافعوا عن شعب اللَّه وأرشدوه إلى السلوك بأمانة لشرائع اللَّه.

وعندنا أيضًا كتاب طوبيّا، الذي يعتبر من الكتب القانونيّة الثانية، غنيّ جدًّا ومفيد روحيًّا، ويخبرنا قصّة طوبيّا: «طوبيّا منذ فتوّته، كان أمينًا لشريعة اللَّه، متمسّكًا بإيمانه، لم يسلك في عبادة الآلهة الوثنية التي أدخلها الملوك، كان يذهب إلى أورشليم إلى هيكل الربّ وهناك كان يسجد للربّ ويوفي جميع بواكيره وأعشاره» (طوبيّا 1: 6). أمانة طوبيّا كانت محنته الأولى والأخطر، من سلسلة محن مرّ بها طوبيّا، والتي يمرّ بها كلّ إنسان مؤمن، الذي رغم الأوضاع والظروف المحيطة، والدافعة إلى الخطيئة، يبقى أمينًا لوصايا اللَّه، ويعرف أنّه رغم كلّ المغريات، يبقى اللَّه كنزه الوحيد. حتّى ولو سقطت الجماعة كلّها في الشرك بين اللَّه وآلهة غريبة يبقى هو على محبّته الأولى لإلهه.

محنة طوبيّا الثانية هي السبي والعيش في أرض غريبة، حيث سيكون امتحان إيمانه. اللَّه أعطى طوبيّا نعمة أن يكون لديه امتيازات عند شلمنصّر الملك، الذي أعطاه الحرّيّة أن يذهب حيث يشاء في أنحاء المملكة. واستخدم طوبيّا هذه الحظوة على صعيدين روحيّ ومادّيّ. روحيًّا أصبح طوبيّا مبشّرًا لإخوته اليهود، الذين تحت وطأة السبي والجوع أكلوا من طعام الأمم، وحثّهم على التمسّك بشرائع آبائهم، وثبّتهم بالإيمان، ونصحهم بعدم الاختلاط بعادات الأمم وخطاياهم. «فكان يطوف على كلّ من كان في الجلاء ويرشدهم بنصائح الخلاص» (طوبيّا ١: ١٥). اعتبر نفسه مسؤولًا عن توبتهم عن غيّهم. وهذه أعظم مسؤوليّة للإنسان أن يردّ نفوس الخطأة إلى التوبة. «فليعلم أنّ من ردّ خاطئًا عن ضلال طريقه، يخلّص نفسًا من الموت، ويستر كثرة من الخطايا» (يعقوب 5: 20).

على الصعيد المادّيّ، بعد موت شلمنصّر أصبح سنحاريب ملكًا وفشل في سبي المملكة الجنوبيّة، مملكة يهوذا، فانتقم من اليهود المسبيّين، فاضطهدهم ، وقتلهم، وشرّدهم. وهنا انطلق طوبيّا في ترجمة إيمانه عبر ممارسة أعمال الرحمة. وما كانت محبّته بالكلام أو باللسان وحسب، بل بالعمل والحقّ (1يوحنّا 3: 18). فكان يترجم محبّته لإخوته بمساعدة كلّ واحد من أمواله قدر وسعه، فيطـعـم الجـيـاع ويكسو العراة. قلب طوبيّا كان ملتهبًا بمحبّة اللَّه والآخرين. وهذا كان دافعًا لأن يعرّض حياته للخطر عندما كان  يقوم بدفن الموتى، كيلا تبقى جثثهم ملـقـاة على الـطرقـات، لـكون عمليّة دفن الموتى كانت تعتبر جريمة كبيرة. «وكان طوبيّا يطوف كلّ يوم على جميع عشيرته ويعزّيهم ويؤاسي كلّ واحد من أمواله على قدر وسعـه. فيطعـم الجيـاع ويـكسو العراة ويدفن الموتى والقتلى بغيرة شديدة» (طوبيّا 1: 19- 20). ومخاطرة طوبيّا بدفنه الموتى كانت سبببًا لملاحقة الملك له، وخسارة أمواله.

المحنة الثالثة، كانت عندما أصيب طوبيّا بالعمى بعد عودته من دفن أحد الموتى، «فوقع ذرق من عش خطّاف في عينيه وهو سخن فعمي» (طوبيّا 2 :11). وهذا ما سبّب له سخرية أقاربه، الذين عيّروه بغيرته ومحبّته، وماذا جنى منهما؟. «أين رجاؤك الذي لأجله كنت تبذل الصدقات وتدفن الموتى» (طوبيّا 2: 16). والمؤلم أكثر لوم امرأته له، وقولها له ماذا نفعته أمانته، وصدقاته، ومخاطرته بحياته؟ كلّ هذا هو السبب في ما وصل إليه. وبماذا كافأه اللَّه؟ وهنا أصبح طوبيّا نظير أيّوب، من جهة تعييرات أقاربه وزوجته، لكنّه ظهر مثالًا في الصبر والرجاء والثبات في الإيمان، والحزم، والثقة باللَّه، وبمعونته فهو الوحيد القادر على أن ينجّيه من التجربة. كان واثقًا بأنّ اللَّه سيجعل مع التجربة المنفذ المناسب (1كورنثوس 10: 12). ولجأ إلى اللَّه برفع صلاة من القلب مليئة بالشكر، والتسبيح، والتسليم لمشيئة اللَّه وحكمته، وأنّ التجارب التي حلّت به والسبي الذي تعرّض له مع شعبه هي بسبب خطاياهم وتركهم وصايا اللَّه: «لأنّا لم نطع أوامرك فلأجل ذلك أسلمنا إلى النهب والجلاء والموت» (طوبيّا 2 : 4).

Loading...
 

 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search