العدد الأوّل - سنة 2021

05 - خاطرة - هل نستطيع الصلاة اليوم؟ - المتروبوليت أنطوني (بلوم) تعريب نجيب كوتيّا - العدد 1 سنة 2021

طُرح هذا السؤال على المتروبوليت أنطوني خلال مناقشةٍ حول معنى وقيمة صلاة النساء والرجال المنغمسين في عالمٍ علمانيّ. وكان هذا جوابه:

لا يمكن فصل الحياة عن الصلاة. حياةٌ بدون صلاةٍ هي حياةٌ تتجاهل بُعدًا أساسيًّا من الوجود. إنّها حياةٌ سطحيّةٌ بدون عمقٍ، حياةٌ ذات بُعدين: المكان والزمان. إنّها حياةٌ تكتفي بالمنظور، بقريبنا، ولكن بقريبنا المادّيّ، بقريبنا الذي لن نكتشف عمق الأبديّة في مصيره. قيمة الصلاة هي في اكتشافِ، في تأكيدِ، وفي عيشِ حقيقةَ أنّ الكلَّ لديه بُعد الأبديّة والكلَّ لديه بُعد الكثافة.

عدم الصلاة يترك اللَّه خارج الوجود

ليس العالم الذي نعيش فيه عالمًا دنسًا، إنّه عالمٌ نعرف جيّدًا كيف ندنّسه، ولكنّه بحدّ ذاته خارجٌ من يدَي اللَّه، إنّه محبوبٌ من اللَّه. القيمة التي يعطيها اللَّه لهذا العالم هي حياة ابنه الوحيد وموته، والصلاة تعبّر عن معرفتنا لهذا الواقع، تعبّر عن اكتشافنا أنّ كلًّا منّا، وكلَّ شيء حولنا، لديه في عيني اللَّه قيمة مقدّسة ويصبح مقدّسًا لدينا أيضًا، لكونه محبوبًا من اللَّه. عدم الصلاة هو ترك اللَّه خارج الوجود، ليس فقط اللَّه، بل إنّما كلّ ما يعني اللَّه للعالم الذي خلقه، العالم حيث نعيش. يتهيّأ لنا الآن أنّه من الصعب أن ننسّق بين الحياة والصلاة. هذا خطأ. إنّه خطأٌ مطلق. خطأٌ يأتي من مفهومنا المغلوط للحياة كما للصلاة. نعتقد بأنّ الحياة تتوقّف على القلق، وأنّ الصلاة تتوقّف على الانسحاب إلى مكانٍ ما، وعلى نسيان كلّ ما يتعلّق بقريبنا وبوضعنا الإنسانيّ. هذا خطأ ! هذا افتراءٌ ضدّ الحياة وضدّ الصلاة ذاتها.

التعاضد مع كلّ واقع الإنسان

لكي نتعلّم أنّ نصلّي، يجب أن نتعاضد مع كلّ واقع الإنسان، مع مصيره ومصير العالم بأسره، يجب أن نستوعب هذا الواقع. وهذا كان الفعل الأساس الذي أتمّه اللَّه في التجسّد. إنّه الجانب الكامل لما نسمّيه شفاعة.

عادةً عندما نفكّر بالشفاعة نعتقد أنّها تتكوّن من تذكير اللَّه بشكلٍ مهذّبٍ بما نسي أن يفعله. الشفاعة هي أخذُ خطوةٍ تنقلنا إلى قلب المواقف المأساويّة، وخطوةٍ لديها نوعيّة الخطوة ذاتها التي قام بها المسيح، الذي أصبح إنسانًا مرّةً وإلى الأبد. يجب أن نخطو خطوةً تنقلنا إلى مواقف لن نستطيع الخروج منها؛ تعاضد، مسيحيّ، ماسيانيّ، في الوقت عينه موجّه إلى قطبين: المسيح المتجسّد، إنسانٌ تامٌ وإلهٌ تامٌّ، هو في تعاضدٍ كلّيٍّ مع الإنسان في خطيئته عندما يتّجه نحو اللَّه، وهو في تعاضدٍ كلّيٍّ مع اللَّه حين يتّجه نحو الإنسان.

إنّه تعاضدٌ مزدوجٌ يجعلنا غرباء عن المعسكرين وفي الوقت عينه متّحدين مع المعسكرين: وهذا هو واقعنا المسيحيّ الإساس.

تقولون لي: «ما العمل؟» جيّد! الصلاة تُخلق من مصدرين: إمّا الإعجاب باللَّه وما يتعلّق به – قريبنا والعالم الذي يحيط بنا، رغم ظلاله- وإمّا المأساويّ، وضعنا وخصوصًا وضع الآخرين. قال بردياييف: «جوعي هو واقعٌ مادّيّ؛ أمّا جوع جاري فهو واقعٌ أخلاقيّ». هذا هو المأساويّ، كما يتراءى لنا في كلّ لحظة. جاري دائمًا جائع؛ ليس بالضرورة جائعًا للخبز، أنّما بعض الأوقات هو جائعٌ للفتةٍ أنسانيّةٍ، لنظرةٍ حنون.

جيّد! هنا تبدأ الصلاة، في تحسّسنا للعجيب وللمأسويّ. طالما أنّها باقية، كلّ شيء يهون، في الإعجاب نصلّي بسهولة، كما نصلّي بسهولة حين يقبضنا المنحى المأساويّ.

يجب على الحياة والصلاة أن يكونا واحدًا

 وإلى جانب ذلك؟ إلى جانب ذلك الحياة والصلاة يجب أن يصيرا واحدًا. لا أمتلك الوقت لأن أتحدّث كثيرًا، ولكن أريد أن أقول التالي: استيقظوا صباحًا، ضعوا أنفسكم أمام اللَّه وقولوا: «يا ربّ باركني وبارك هذا اليوم الجديد»، وبعدها تعاملوا مع هذا اليوم كعطيّةٍ من اللَّه واعتبروا أنفسكم مبعوثين من اللَّه في المجهول الذي هو هذا اليوم الجديد.

ببساطة هذا يعني شيئًا صعبًا: أنّ لا شيء ممّا سيحدث في هذا اليوم هو خارجٌ عن إرادة اللَّه؛ كلّ شيء بدون استثناء هو موقفٌ وضعكم اللَّه فيه لكي تكونوا وجوده، إحسانه، عطفه، ذكاءه الخلّاق، شجاعته ...

ومن جانب آخر، كلّما واجهتم موقفًا، ستكونون مَن وضعهم اللَّه ليكونوا صلاةً مسيحيّةً، ليكونوا عضوًا في جسد المسيح وفي عمل اللَّه.

إن صنعتم ذلك، سترون بسهولة أنّ عبرَ كلّ لحظةٍ، ستُمنحون أن تتوجّهوا إلى اللَّه وتقولون: «يا ربّ، أضئ ذكائي، قوِّ إرادتي ووجّهها، أعطني قلبًا من نار، ساعدني». في لحظاتٍ أُخرى يمكنكم القول: «شكرًا يا ربّ». إذا كنتم عاقلين وتعلمون كيف تشكرون، تتجنّبون الغباوة التي يقال لها حبّ الذات والعجرفة التي تكمن في الاعتقاد أنّكم فعلتم شيئًا غير مستطاع. اللَّه فعله. اللَّه أعطانا هذه الهديّة العجيبة التي مكّنتنا من هذا الفعل. وفي المساء عندما تضعون أنفسكم أمام اللَّه وتفحصون يومكم، يمكنكم أن تنشدوا التسابيح، أن تعظّموه، أن تشكروه، أن تبكوا من أجل الآخرين ومن أجل أنفسكم.

إذا تمكّنتم بهذه الطريقة من توحيد الحياة مع الصلاة، لن تنفصلا أبدًا، وتصير الحياة كالوقود الذي، في كلّ لحظةٍ يغذّي نارًا ستصبح أغنى أكثر فأكثر، تُحرق أكثر فأكثر، وستحوّلكم أنفسكم أكثر فأكثر إلى العلّيقة المحترقة التي يتحدّث عنها الكتاب.

Loading...
 

 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search