العدد الأوّل - سنة 2021

08 - خاطرة - الهدف هو اللَّه - كارولين طورانيان - العدد 1 سنة 2021

كثيرًا ما قرأنا وسمعنا في الكنيسة أنّ اللَّه هو الهدف، وأنّ البعد عن اللَّه خطيئة، وأنّ العالم خاطىء وأنّه علينا أن نعيش حياتنا مع اللَّه وفيه، ببرّ وقداسة وصلاة وخدمة، بعيدًا عن اللهو واللذّة.

أوّلًا أُريد أن أسأل من هو اللَّه الذي يُصوّر، أحيانًا كثيرة، أنّ همّه الوحيد هو أن ننشغل به ونعبده ونطيعه، شئنا أو أبينا وفي كلّ الظروف. إن شعرنا أنّنا محبوبون أو مرذولون أو متروكون علينا أن نُكمل المسيرة ونُطيع إلهًا لا يريد سوى إخضاعنا له. هذا أقوله وبجرأة وصراحة، ربّما تكون جارحة، أنّ هناك بعض الكهنة يصوّرون اللَّه هكذا، ربّما ليس عبر وعظهم كما عبر تصرّفهم. هذه تجربة صعبة لمن لا يريد أن يخضع لصنم. يشدّد البعض على الحياة الروحيّة وأهمّيّتها، والبعض الآخر على أهمّيّة الخدمة والمواهب، بشكل يُطلب من المؤمن الصغير والضعيف، وربّما المرذول، أن يسعى إلى خلاص كلّ العالم. ما هي الحيـاة الـروحيّة؟ ومـن هـو اللَّه الـهـدف، ومـاذا بـعـد الهدف؟ وماذا عن العالم الساقط؟ وكيف نعيش ملتصقين باللَّه؟

أعرف عددًا من الناس الشرقيّين ذهبوا إلى الغرب وللأسف تاهوا أو جلبوا معهم فسادهم. لا أقصد فقط أنّ البعض من البالغين أو الكثيرين منهم  ينغمسون في الخطايا ويسعون إليها، هناك أيضًا شبيبة تائهة من مُختلف الكنائس أو الانتماءات، شبيبة تنغمس في ضياع الخطيئة وضياع التساؤل. لكنّني أريد أن أسلّط الضوء على من يبحث عن الكلمة والنُصح والإرشاد، وعن حضن في الكنيسة ولا يجد، أو من لا يدري بعد أنّ الكنيسة أُمّ، وقد تاه في صدمات هذه الحياة والحروب والهجرة، ولم يقدر على أن ينهض مجدّدًا، لأنّ كلّ شيء تغيّر من جذوره والخسارة الشخصيّة كبيرة، والعودة إلى الوطن مستحيلة، والانتماء مفقود، وليس هناك من له أُذن يسمع ويفهم ويشعُر. أنا لا أتحدّث الآن عن ناس من كنيستي الخاصّة فقط، بل أتحدّث عن مسيحيّين من طوائف عدّة. من هو الذي يلمّ شمل هؤلاء الناس ويرعاهم؟ تعلّمنا أنّنا مسؤولون. والغربة ممكن أن تكون من أصعب ما يكون، حيث كلّ المسافات بعيدة، المادّيّة والمعنويّة. والخيارات عديدة وكلّ واحد منهمك بحياته وهمومه واستعجاله يصارع الحياة والوجود، بجدوى أو بغير جدوى، بإيمان باللَّه أو بتساؤل فظيع أمام فوضى العالم.

قلت سابقًا ما معنى أنّ اللَّه هو الهدف وما معنى أنّ البعد عن اللَّه خطيئة؟ ولماذا يطلب الله منّا كلّ هذه الطاعة والعبادة. لا أُحبّذ قول إنّ اللَّه صار إنسانًا لكي يتألّه الإنسان. رغم أنّ هذا صحيح. ولكن ماذا يفعل هذا الإنسان بتألّهه بعد؟ ربّما يعتقد البعض أنّ أسئلتي سخيفة أو أنّ الحياة مع اللَّه بدهيّة، ويكفي أن يكون اللَّه في قلب الإنسان. أودّ أن أقول إنّ الحياة في الغرب تُفقد في كثير من الأحيان الإنسان كلّ ما هو تلقائيّ، يُصبح كالآلة شاء أو أبى، سعى إلى الخطيئة أو لم يسع، فهذا الخطر موجود. كيف تكون عبادة اللَّه في الحقّ والفهم في وسط كلّ هذه الفوضى العارمة التي تحتلّ العالم، في وسط عدم الانتماء، في وسط تقصير الكنائس، في وسط فقدان الجذور؟ يكفي أحيانًا أن يتعرّف المؤمن إلى إيديولوجيّات غريبة في الجامعة ويصدّق إحداها فقط، لجهل منه وليس عن قصد، لكي تؤدّي هذه الإيديولوجيا بحياته إلى طريق خطر محفوف بالتجارب.

أٌفَضّل كثيرًا أن أقول إنّ اللَّه تجسّد وصار إنسانًا، لكي يصير الإنسان إنسانًا حقيقيًّا سويًّا وكاملًا، على صورة اللَّه الخالق أي على صورة يسوع ابن اللَّه المتجسّد. الحياة «الروحيّة» مهمّة للغاية. الصلاة والصوم والتضرّع. ولكن لا معنى لهذه كلّها إن بقي الإنسان يعبد اللَّه في زاوية من زوايا بيته، ويذهب إلى الكنيسة ويخدم ويسعى إلى الملكوت من دون أن يعي ما هي الرؤية التي عليه أن يتبنّاها. الرؤية هي الأساس برأيي، هي الأساس ونحن على الطريق، لأنّه لا طريق بدون رؤية، وهي من صنع الربّ عبر الإنسان وجهده، ربّما لا تتوضّح الرؤية إلّا بعد جهاد. أن نكون في رؤية واضحة شفّافة ونسعى دائمًا إليها هي كلّ ما نحتاج إليه لكي نسير في طريق الربّ، قولًا وفعلًا وعبادة. هي كالعين البسيطة التي تنير كلّ الجسد كما قال يسوع. من دون هذه الرؤية سيبقى الإنسان يتخبّط بين اللَّه والخطيئة. إذا كان الهدف أن نصير مثل يسوع الإنسان الإله، ونحن نؤمن بأنّ يسوع هو إله تامّ وإنسان تامّ، ويمكننا أن نتلمّس ذلك في حياتنا وفي ممارساتنا، فإنّنا سنتمكّن من اختصار طريق التوبة والتمثُل به. هذا هو الهدف برأيي، والرؤية هي أن نراه في كلّ مكان وفي كلّ الأُمور وفي كلّ الناس، وفي كلّ الظروف. هذا سيساعدنا على تخطّي تجارب عديدة، لا بل كلّ التجارب التي يمكن أن تعترضنا. بدون إيمان واضح بأنّ يسوع إنسان كامل أيضًا وليس فقط إلهًا يهمّه الإنسان، لن نرسو على برّ الأمان. لم يأخذ يسوع جسدًا سدًى، إذ هو يهتمّ بكلّ تفاصيل حياتنا، أصغيرة كانت أم كبيرة. عندما تسمع الأمّ الحنون هموم أولادها لا تستخفّ بها بل تنصت بحنان فائق وتشدّد وتقوّي وترشد وتدعم. هكذا هو اللَّه. همومنا كلّها صغيرة أو كبيرة اللَّه قادر على حلّها. كلّ شيء واضح أمام اللَّه. وكلّ شيء ممكن للذي يؤمن ويصبر ويُدرك أنّ الامور بيد اللَّه ويجاهد ويسعى إلى أن ينجلي الفجر.

عندما نغرق في الهموم والمشاكل والتجارب من الداخل ومن الخارج، والحروب الجسديّة والنفسيّة والروحيّة والخسارات الكبيرة، كيف نقوم؟ نقوم ونحيا بالروح في العالم، نرى العالم كما يراه اللَّه ونرى أنفسنا كما يرانا اللَّه. نحبّ البارّ والخاطىء، ونرى فيهما يسوع. الواحد نرى فيه جمال يسوع ونمجّد اللَّه، والآخر نرى فيه يسوع الرحيم والحنون الذي ينتظر عودة الخاطىء والذي أتى ليفدي البشريّة جمعاء. ننظر إلى الأطفال والعجزة ونرى يسوع ونحبّه ونخدمه. ننظر إلى الطبيعة ونُسبح اللَّه على عطاياه ونُقدّسها. في الضعف نُحدث اللَّه ونشكو له وننتظره وننتظر جوابه بطريقة أو بأخرى. «أمّا منتظرو الربّ فينالون قوّة ويُعطون أجنحة كالنسور». وعود الربّ صادقة. هو أتى ليس لكي نطيعه ونعبده ونخضع له. هو أتى لأنّه يحبّ كلّ إنسان ويهتمّ بشؤون كلّ إنسان. والطاعة وسيلة وليست هدفًا، هي وسيلة لكي نتمرّن على فعل مشيئته لا مشيئتنا الذاتيّة. نقرأ العلوم ونميّز بينها على ضوء الإنجيل. نعمل بصدق وأمانة ومحبّة. «رأيت حدًّا لكلّ شيء أمّا وصيّتك فلا حدّ لها... أمّا أنا فأتّكل على وصاياك».

أن تتلمّس اللَّه في الظلمة هذا أمر ممكن، ولكنّه شبه مستحيل من دون الاستعانة بمرشدين. نحتاج إلى بوصلة والبوصلة هي الرؤية الصحيحة. القراءات اليوميّة في الكتب المقدّسة والصلوات تجدّد سراج الجسد وتنقّيه، ولكن ليس من دون أن نطرح الأسئلة ونحاول الإجابة عنها بمعونة كتب الكنيسة، ونقرأ ونحاول أن نفهم ونربط الآيات ببعضها البعض، ونردّدها في ذاكرتنا ليل نهار. نحتاج إلى أن نكون نحن أنفسنا بوصلة لإنسان اليوم. أؤمن بالخير الذي يصنعه اللَّه عبر الإنسان وعلومه والقوانين والنُظم. ولكنّ الأهمّ بالنسبة إلى الإنسان الذي لا يملك السلطة سوى في حياته الخاصّة أن يؤمن بجدّة الإنجيل ويسعى إلى تنقية نفسه وإلى تقبّل الرؤية التي يصنعها يسوع له، عبر ممارساته الروحيّة وعبر الإسرار لكي يكون بوسعه أن يقوى وأن يمدّ الملكوت إلى كلّ إنسان يمرّ به، وإلى العالم، فيصير نورًا في الظلمة ويشعّ ويرشد ويقوّي ويخدم ويصلّي ويكون هذا دوره أو دورًا من أدواره، فيرى الناس النور الأزليّ فيه ويعوا أنّ اللَّه معهم وأنّ الانجيل حقيقة وليس خيالًا، فيتغير الناس ويتغيّر العالم معهم.

الحركة بركة قول مأثور ردّده أجدادنا، وأصابوا في قولهم هذا، حقًّا إنّها بركة. نحن العلمانيّين نحتاج إلى أن نتحرّك ونكون «في كلّ مكان»، ولا ننزوي عن العالم في للصلاة وللحياة الروحيّة فحسب. الحياة مع اللَّه خدمة، نخدم في العطاء، أو في التعزية، أو في تشديد الآخر، أو في الترتيل والتسبيح والصلاة أينما كنّا، أو التعليم والكتابة والعطاء. هكذا يصير اللَّه هو الهدف، لا بل كمال الإنسان وكمال إنسانيّته في يسوع المسيح يصير الهدف، لأنّ اللَّه يحبّ الإنسان ولا يطلب العبادة إلّا لأنّه يفرح بمشاركة الإنسان في حياة اللَّه وفرح اللَّه وقدرة الخلق والإبداع والعمل والخدمة والفرح السماويّ.

لا يمكن للإنسان أن يرفض الخطيئة والفوضى إن لم يعِ دوره المهمّ في تقديس العالم ومدّ الملكوت على الأرض عبر التنقية الذاتيّة والخدمة والشهادة. عندما يدرك الإنسان دوره ينبغي له أن يسعى إليه يوميًّا وعندها يصير قويًّا كالصخر حتّى لو كان بعد جهاد وتجارب وأزمات. ويتعلّم رعاية الآخرين ومحبّتهم مهما كانوا وأينما صادفهم. يعي مسؤوليّته حيث هو ويسعى الى إلهدف أيًّا كانت الظروف ولا ييأس أبدًا لأنّه يعرف أنّ اللَّه يسير معه ومع أخوته وفي ما بينهم، وهو كثير الرأفة والحنان إله البركة والحقّ والخير...

Loading...
 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search