أن يحيا الإنسان بسلام، موفور الكرامة، ناعمًا بالاستقرار، مطمئنًّا إلى يومه وإلى غده، هذا حقّه المُكتسَب. في بلدي ليس هذا – وللأسف – واقع الحال. إنسان بلدي محروم من هذا الحقّ. إنّه – ومن زمان – يفتقر إلى أبسط مقوّمات العيش الكريم الذي به يعرف نفسه إنسانًا.
ففي ظلّ الأزمات والخضّات المتلاحقة، التي يُنتج بعضُها بعضًا فيشتدّ ضغطها علينا يومًا تلوَ يوم، وقد أَرهقتنا وتأبى أن تعفَّ عنّا، يبدو السلام ضالّتنا الكبرى. نشتهيه ولا نظفر به. وليس الهدوء الحذر، المتقطّع، الرجراج، الذي «ننعم» به بين الحين والآخر، سلامًا. إنْ هو إلّا هدنةٌ هشّة بين انتكاسة وأخرى، يتصدّق بها علينا القابضون على رقابنا، فقط ليمنّنونا بأنّهم أَعطَونا فرصة لالتقاط النفَس ليس إلّا. لماذا هو كذلك؟ لأنّه سلام المصالح، مصالح الكبار الأقوياء، يتنافسون عليها ويتصارعون، وقد جعلوا من أرض الصغار الضعفاء، أرضِنا، مسرحًا لهم وحلَبة. هؤلاء مصالحهم رياح متقلّبة لا قرار لها، تتقاطع حينًا وتتنافر أحيانًا، وهي، في كلّ حال، في تقاطعها وتنافرها، تجري على حسابنا، بعكس ما تشتهيه سفينة سلامنا المنشود.
فحيال هذا المشهد يبدو السلام لمن يَنشده، ويرقَبه، ويُمنّي النفس به، مُشتهًى عسير المَنال، بعيدَه. ذلك بأنّ السلام الراسخ شرطه العدل، وهذا الأخير هو أيضًا – وللأسف – ضالّتنا الكبرى. أجل، بالعدل نؤسّس للسلام، بالعدل نبنيه، وبالعدل نثبّته ونحصّنه. إنّ ثمّة عروةً وثيقة بين السلام والعدل تجعل أنّ الأوّل وليد الثاني. فبقدر ما يترسّخ العدل في الأرض يترسّخ السلام ويعمّ. هذه العلاقة السببيّة بين العدل والسلام هي حقيقة ثابتة لا نقاش فيها. إنّها من المسلّمات. وهي – وهذا ما ينبغي الانتباه إليه – مؤسّسة في كتابنا المقدّس. ففيه نقرأ: «الرحمة والحقّ تَلاقيا، العدل والسلام تعانقا» (مزمور 85: 11)، ونقرأ أيضًا: «لأنّه حين تكون أحكامك في الأرض يتعلّم العدل سكّان المسكونة” (إشعياء 26: 9). ولئلّا يبقى الكلام في العدل مجرّد تنظير فقد كانت له، في الكتاب المقدّس أيضًا، ترجماته العملانيّة التي تُجسّده أفعالًا وتجعله واقعًا معيوشًا. فعلى سبيل المثال نقرأ لإشعياء: «روح السيّد الربّ عليَّ (والمتكلّم، هنا، هو المسيح الذي يتنبّأ به إشعياء برؤيا استباقيّة) لأنّه مَسَحني وأرسلني لأبشّر الفقراء وأجبر منكسري القلوب وأنادي بالإفراج عن المسبيّين، وبتخلية المأسورين، لأُعلن سنة رضًا عند الربّ» (إشعياء ٦١: ١- ٢). ويردّد لوقا الإنجيليّ، نقلًا عن إشعياء، هذا الكلام النبويّ عينه في الإصحاح الرابع من إنجيله، الآيتين 18 و19. كذلك، وبكلام منسوج على نَول الكلام الماسيانيّ ذاته الذي لإشعياء، يصرخ صاحب المزامير في وجه حكّام العالم وطغاته مندِّدًا فيقول: «اللَّه في جماعة اللَّه قائم، في وسط الآلهة يقضي: «إلى متى تقضون بالظلم وتُحابُون وجوه الأشرار. أُحكموا للكسير واليتيم، وأَنصفوا البائس والفقير. نَجُّوا الكسير والمسكين وأنقذوهما من أيدي الأشرار» (مزمور 82: 1 و4).
هذا هو العدل، وهذه ترجماته. وبهذا العدل، إذا ارتفع قوسه، يَعُمّ السلامُ الأرضَ فتغدو الأرض بعضًا من سماء. بَيدَ أنّ أيّة من هذه الترجمات لا أثر لها في واقعنا البشريّ. واقعنا البشريّ يدلّ على أنّ حكّام الأرض قد سَدّوا آذانهم عن هذا الكلام، فلا يسمعونه أو لا يريدون أن يسمعوه؛ إنّهم أشبه بأوثان الأمم التي «لها أفواه ولا تتكلّم، لها عيون ولا تبصر، لها آذان ولا تسمع...» (مزمور ١١٥: ٥ و٦). ولذلك سقط العدل في الأرض. أجل، لقد «سقط العدل على المداخل» على حدّ تعبير الأخوين رحباني في رائعتهما «زهرة المدائن»؛ ويبدو – للأسف – أنّه قد سقط إلى غير قيام. فما دامت هناك أنظمةٌ قاهرة وشعوبٌ مقهورة لن يعرف عالمنا العدل، وتاليًا، لن ينعم بالسلام الناجز. ما دام هناك فقير يستعطي ويشتهي كسرة خبز ولا من يمدّ له يدًا، ليس عدلٌ ولا سلام. ما دام هناك شريد يبحث عن سقف يقيه برد الشتاء وحرّ الصيف ولا يجد، ليس عدلٌ ولا سلام. ما دام هناك عريان يشتهي كساءً يستر به عريه ولا يجد، ليس عدلٌ ولا سلام. ما دام هناك سجين محكومٌ زورًا ويشتهي من يحرّره من مظلوميّته ويفكّ أسره ولا يجد، ليس عدلٌ ولا سلام. ما دامت هناك عَمالة للأطفال جائرة، لا تراعي سنّ الطفولة ولا حقّ الطفل بالرعاية والأمان، ليس عدلٌ ولا سلام. ما دام هناك شعبٌ مقتلعٌ من أرضه عنوة، بالزُّور والبهتان، ويحلُم باستعادتها ولا يستطيع، لأنّ حكّام الأرض يقايضون عليها ويقامرون بها في لعبة الأمم، ليس عدلٌ ولا سلام.... ما دام هذا مشهد البشريّة في الأرض ليس عدلٌ ولا سلام. وأغلب الظنّ أنّ هذا المشهد باقٍ ما بقيتِ البشريّة؛ إنّه – على ما يبدو – نصيبنا في أرض الأحياء.
ما العمل إذًا؟ ماذا نفعل ونحن نَنشُد سلامًا راسخًا تقرّ به قلوبنا والنفوس، ويكون لأولادنا من بعدنا قاعدة يبنون عليها حياتهم بفرح وطمأنينة وثقة بالآتي من الأيّام؟ ماذا نفعل ونحن نعلم يقينًا أنّنا خائبون سلفًا إن طلبنا سلامًا من بشر؟ «فقد انقطع الأمناء من بَني البشر» (مزمور ١٢: ١) وما سلامهم إلاّ منّة يتصدّقون بها علينا، من فُتات موائدهم، متى وافقت مصالحهم، ويحجبونها عنّا متى خالفتها. أنستسلم؟ بالطبع لا. بل نسعى مع الأبرار الطيّبين، الصالحين – وهؤلاء، بالطبع، قلّة عزيزة، لكنّهم موجودون – الذين جَرَحهم مشهد الظلم يستشري وحرّك حسّهم الإنسانيّ فهبّوا لمقاومته. نسعى مع هؤلاء بما مَلكت أَيماننا من الوسائل السلميّة اللاّعنفيّة، المشروعة والمُتاحة، كلٌّ على قدر طاقاته وبحسب ما أُوتي من مواهب، أَقلُّه لتقليص رقعة الظلم والظلام، ما أَمكن، وتوسيع رقعة العدل والضوء، ما أَمكن أيضًا. وفي هذا المسعى كلّه نُلقي رجاءنا على اللَّه لإيماننا بأنّه ربّ السلام ورئيسه «وسلامه ليس له حدّ»، ولإيماننا، تاليًا، بأنّ السلام الحقيقيّ منحةٌ منه، هبةٌ عُلويّة يُغدقها على الأرض.
ولذا، كثرت في عباداتنا الطلبات السلاميّة، وهي تحتلّ فيها حيّزًا مركزيًّا. في هذه الطلبات نطلب «من أجل السلام الذي من العُلى»، الذي به تُعانق كنيستنا العالم أجمع؛ ولذا فإنّ الطلبة التي تلي، مباشرةً، هي «من أجل سلام كلّ العالم...». هذه الطلبات السلاميّة إنّما هي موجودة لتُذكّر الكنيسة بأنّ أبناءَها يعوّلون عليها في خدمة فعليّة تؤدّيها وتساهم بها في إرساء قواعد العدل والسلام، ليس فقط في صفوفهم بل، وأيضًا، في صفوف الجميع. بطبيعة الحال، ليس مطلوبًا من الكنيسة أن تؤدّي دورًا تقنيًّا، مباشرًا، في إرساء قواعد السلام السياسيّ، أو السلام الأمنيّ، أو ما إليهما، لكون هذا الدور لا يدخل في نطاق خدمتها (ما خلا، طبعًا، دورها الإرشاديّ التَوعَويّ وصوتها النبويّ الذي عليها أن ترفعه للتنديد بالسياسات اللاّإنسانيّة)؛ غير أنّ لها، وبالتأكيد، دورًا تؤدّيه في نطاق السلام الاجتماعيّ لتعزيزه وإرساء قواعده. ليست الكنيسة بديلًا من الدولة ولا يمكنها أن تكون، بل لا يجوز لها أن تكون. هذا من حيث المبدأ. إلّا أنّها، عند غياب الدولة، أو عند تقاعس الدولة عن القيام بواجبها كراعية اجتماعيّة لشعبها، وتاليًا، كحاملةٍ همومَ شعبها، المعيشيّة بخاصّة والإنسانيّة بعامّة، مُطالَبةٌ بأن تسدّ ولو بعضًا من الفراغ الذي يتركه غياب الدولة أو تقصيرها على هذا الصعيد؛ لاسيّما أنّ الرعاية الاجتماعيّة لصيقةٌ بطبيعة الكنيسة كراعية وتشكّل تجسيدًا ميدانيًّا فعليًّا لرسالتها الإنسانيّة(١). فمن قَبيل التمثيل لا الحصر، وفي ظلّ الظروف القاسية، بل المأسَويّة، التي نعيش (وقد طال أَمدها) أظنّ أنّ كنيستنا مُطالَبةٌ، ودائمًا على سبيل المثال لا الحصر:
1- بإطلاق ورشة جدّيّة خاصّة بالأوقاف، الهدف منها دراسة إدارتها في ضوء رؤية تنمويّة تتطلّع إلى كيفيّة توكيل شبيبة الكنيسة بها لاستصلاحها واستثمارها والاستفـادة منـها. أمّا الغاية مـن هـذه الـورشـة فهي مساهمة الكنيسة في ربط الشبيبة بكنيستها وأرضها، عسى أن تحدّ هذه المبادرة، ولو رمزيًّا، من النزف البشريّ الحاصل نتيجة هجرة الشباب.
2- وربطًا بالبند الخاصّ بالأوقاف، بوضع خطّة مدروسة ترمي إلى تأمين فرص عمل وسَكن للشباب.
3- بتأمين حصص غذائيّة وتموينيّة، دوريّة ومنتظمة، للعائلات المحتاجة (ويهمّني التنويه، هنا، بالجهد الجبّار الذي يقوم به، في هذا المضمار، مركز طرابلس لحركة الشبيبة الأرثوذكسيّة ومعه سائر المراكز، تحت شعار «خدمة المحبّة»).
4- برفع الصوت عاليًا للتنديد بالهدر العامّ والفساد اللذين يصيبان الناس في أرزاقهم وأتعابهم، وكذلك بالغلاء الفاحش والمتوحّش الذي يهدّد الناس بلقمة عيشهم.
5- أيضًا برفع الصوت عاليًا للتنديد بالنَفَس الطائفيّ البغيض الذي به يُساس البلد، مع كلّ السيّئات الناجمة عنه.
6- أيضًا وأيضًا، وربطًا بالبند الخامس، بأن يكون لها، بين سائر الأُسر الروحيّة في البلد، شرف الريادة – وهذا تراثها أصلًا – بالمطالبة علنًا بدولة مدنيّة يحكمها مبدأ المواطنة، بحيث يكون جميع المواطنين فيها، على اختلاف انتماءاتهم الدينيّة والسياسيّة والعقَديّة والفكريّة...، سواسية في الحقوق والواجبات وأمام القانون.
بهذه الخطوات، إذا نجحت – وغيرُها كثير -، تكون الكنيسة قد استنزلت على محيطها بعضًا من سلام المسيح، علمًا أنّ سلام المسيح يختلف، جوهريًّا، عن سلام العالم، فهو القائل: «سلامًا أترك لكم، سلامي أُعطيكم، ليس كما يُعطي العالمُ أُعطيكم أنا...» (يوحنّا 14: 27). إنّ سلام المسيح هذا دُفع إلينا من على الصليب، مرّة وإلى الأبد، لننقله إلى محيطنا رسالةً سمـاويّة. فإذا خرجنا من الكنيسة عند انتهاء القدّاس الإلهيّ فلكي ننقل إلى كلّ مَن نلقاه في طريقنا السلام الـذي أَطلقَنا به الكاهن عند قـوله: «لنخـرج بسـلام». أَجَل، هذه وظيفتنا: نحن في الأرض رُسل السماء إلى الأرض. أمّا ترجمة هذا الكلام فهي أنّ المسيح سكب علينا سلامه نعمةً من لَدُنه ونحن صُنّاعه حيث نحن، والطـُّوبى لنا إذا أَحـسَنّا صُنـعـه؛ فـقـد قـال ربّنا: «طُوبـى لصـانـعي السـلام، فإنّهم أبناءَ اللَّه يُدعَون» (متّى 5: 9).
هذه هي المعادلة. وبهذه المعادلة، إذا تحقّقت، تتحقّق مسرّة الآب في الابن بالروح القدس.