العدد الأوّل - سنة 2021

14 - الإيمان على دروب العصر - الفصح: أضواء من أوليفييه كليمان - د. جورج معلولي - العدد 1 سنة 2021

الحياة الأقوى من الموت وتجلّي الأرض: هذا ما تعلنه القيامة. يعطينا الفصح إمكانيّة مواجهة كلّ أشكال الموت التي تخترق وجودنا الشخصيّ والجماعيّ. في المسيح نحن قائمون وتغدو كلّ الميتات «الجزئيّة» التي نعيشها عبورًا (أي فصحًا) لكلّ البشر والكون.

 هل يكون العدم أي اللاشيء منتهى الكلّ؟ تسكن هذه العدميّة إحساس قلوب الكثير من البشر وفكرهم ويتفشّى الفراغ الجليديّ في يوميّاتهم. يفتّش الإنسان وقد تحجّر قلبه وتمزّق كيانه متأرجحًا بين القلق وإمكانيّة الاستسلام للدهشة، أي الانفتاح على ما لا يعقل. نعم قد أتى النور الذي ينير كلّ إنسان ولكنّنا ما زلنا نمشي في ظلمات الموت وظلاله. نصادف الحبّ والجمال والصلاح ولكنّ الموت يقسو ونحمل في نفوسنا مساحات هائلة من الحقد والغضب تجاه أنفسنا وتجاه الآخرين وتجاه الحياة. وتختلط الموسيقى بصرخات البؤساء والشعوب المقتولة. فنبحث عن أعداء نصبّ عليهم جام غضبنا وعبيدًا نسلبهم وهم سلطان وقوّة. زمان العبثيّة هو أيضًا زمان العنف والإرهاب.

في كثافة الموت تصل إلينا أنوار من جبل التجلّي وقد غرست قمّته في قعر الجحيم منذ تبرعمت في قلب الأرض سوسنة من عالم آخر. نكتشف أنّنا لسنا متروكين وحدنا في وادي البكاء لأنّ الكلمة صار جسدًا وشاركنا في كلّ شيء. حياة الكلّ صار مساويًا لنا في البشريّة  كما هو جالس عن يمين الآب. لم يكن يسوع فردًا بين أفراد، ولكنّه متّصل بكلّ إنسان أي بكلّ البشريّة. يأخذ في رحمته كلّ أشواقنا وأفراحنا ومآسينا. يحوّل في قانا الجليل ماء يوميّاتنا إلى خمر من حبّ وجذل وشكر في عرس اللَّه والبشر. وفي الجثسمانيّة يبكي كلّ دموعنا وفي حماقة الصليب يتّحد بكلّ معاناتنا. «إلهي إلهي لماذا تركتني»؟ كأنّ جدران حقدنا وفشلنا وجرائمنا ارتفعت حاجزًا بين اللَّه ونفسه حتّى اختبر اللَّه المتجسّد غياب اللَّه. ولكن حينها كلّ شيء ينقلب: تتبخّر كلّ خطايانا كأنّها قطرة في محيط الحبّ الإلهيّ. يطأ الحبّ الموت بالموت وتتفجّر ينابيع الحياة التي لا تموت في شراييننا. ولا نعود نحتاج إلى أعداء وعبيد لأنّ الموت مغلوب.

لقد احتار اللَّه – يقول القدّيس نيقولا كاباسيلاس – كيف يعطي للإنسان برهان حبّه، فاخترع التجسّد وكأنّ اللَّه يخرج من نفسه في التجسّد والصلب. يأتي اللَّه إلى جثّة آدم (أي البشريّة المائتة) ويمدّ لها يده مانحًا إيّاها ديناميكيّة الحياة التي لا تموت (كما تظهر أيقونة النزول إلى الجحيم وكما يشرح القدّيس غريغوريوس النيصصيّ). ليست الكنيسة إلّا هذا المختبر الذي تجري فيه قوى القيامة في مجاري الكون.

ليس هناك انفصال بين يسوع الرجل، الذي عاش في التاريخ، والمسيح القائم الذي التقى به التلاميذ. اختزال العالم بقوانين يعرفها العلم واختزال الإيمان باعتقادات ذاتيّة لدى التلاميذ (كما ادّعى البعض) يزيل عن القيامة كلّ حقيقتها أو يفشل في فهمها. يُدخل المسيح القائم من الموت نمطًا جديدًا من الحياة يفتح فجوة في غرفة العالم المربعة التي يسود فيها الموت وقوانينه. ليس المسيح القائم خاضعًا لقوانين الانفصال التي يخضع لها الزمان والمكان في كوننا. إذ اتّخذ يسوع في وجوده الشخصيّ كلّ مادّة الكون فغدت قيامته باكورة تجلّي المادّة، أي امتلائها بنور القيامة. 

غير أنّ معاينة جسد يسوع المتجلّي ليست معطاة لغير أصدقائه، لأنّ الإيمان وحده أي المحبّة الشخصيّة المبذولة بحرّيّة تفتح القلب على كشف المسيح. يغدو المسيح القائم مغروسًا بالروح فينا، نبع وجود جديد لكيان متجدّد. لا يفرض نفسه كما الأشياء تُفرض على الحواس الخمس بل تتعرف إليه النفس الملتفتة كما التفتت مريم المجدليّة لـمّا ناداها باسمها. فالراعي القائم يعرف خرافه بأسمائها وهي تعرفه وتتبعه. لا ينتمي بعد إلى العالم الذي نمسكه في قبضتنا ونفترسه حيث كلّ شيء خارجيّ ومنفصل عن كلّ شيء. يظهر فيه المسيح كبستانيّ مجهول ولا يتعرّف إليه إلّا من صادقه. في الوقت عينه يدعو تلاميذه إلى أن يجسّوه وأن يشاركوه الطعام فيفهموا أنّ جسده القائم جسد حقيقيّ مجبول من تراب الأرض ومادّة الكون وقد شفّ كلّيًّا للنور الإلهيّ.

وعلى باب القبر الذي غدا خدر اتّحاد الأرض بالسماء تزهر شجرة اللوز معلنة قدوم الربيع.

Loading...
 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search