في مطلع خريف ٢٠١٦ تلقّيت، مع مجموعة من الأخوات، دعوة إلى لقاء من نوع جديد عنوانه «لقاء المرأة»، في دير سيّدة بلمّانا.
كان اللقاء بحضور الأخ فادي نصر الأمين العامّ لحركة الشبيبة الأرثوذكسيّة حينذاك، وبرعاية رئيسة الدير الأمّ ماكرينا، التي استفاضت في التحديث عن التحدّيات العظيمة التي اجتازتها، بمعونة الربّ، أثناء تأسيس الدير ومتابعة أمور تمويل احتياجاته بمشاريع إنتاجيّة تتناسب وإمكانات الراهبات على العمل، إلى أن تحوّل المكان إلى ما هو عليه اليوم.
استهلّ الحديث الأخ فادي فشرح أهمّيّة دور المرأة في تاريخ الكنيسة، وأصغى باهتمام بالغ إلى كلّ أخت متعرّفًا إلى ما تملكه من إمكانات ومواهب، وما لديها من طموحات للعمل على تنفيذها.
عندما جاء دوري ذكرت له كيف تلقّيت خبر لقاء المرأة بفرح وكثير من الاستعداد. إذ أعجبني الاهتمام بالمرأة ومتاعبها، لكونها حاضنة الأسرة وموقد انفعالاتها، فإن كانت هي بخير أمست الأسرة بسلام حتّى لو ضاقت سبل المعيشة.
بعد ذلك أوضح لنا أنّه سيترك لنا المجال لنفكر بمشاريع نتمكّن من إدارتها. ومن تلك اللحظة بدأنا نفكر بجدّيّة باحتياجاتنا وإمكاناتنا، وأدركنا أنّنا أمام انفراج من نوع ما، وشكل جديد من العمل البشاريّ وبخاصّة بالنسبة إلينا نحن في حلب، التي كانت تعيش فترة عصيبة من الحصار والحرب الدائرة في قلب المدينة وحولها.
لم يخب حدسي، فاللقاء حمل أفكارا جديدة. لذلك كان لا بدّ لنا من دراسة الحالة والتعامل مع مبرّرات وجودها، وإمكانيّة الأخوات لخوض تجربة جديدة تقدّم عبرها السيّدات المعتّقات بروح الكلمة وفكر الحركة شكلًا جديدًا للمدّ البشاريّ، من طريق جذب أوسع شريحة من سيّدات المجتمع لنتعاضد، في محاولة منّا في تخفيف آلام مخلّفات الحرب، والنهوض معًا لترميم إمكاناتنا والخروج من نفق يصعب على كلّ واحدة منّا احتماله وحدها. وبما أنّ صيرورة الحركة تعتمد على تطوير أولويّاتها بحسب حاجة المجتمع، كان لا بدّ من أن نجد خطوة من هذا النوع في مثل هذه الظروف التي اقتحمت حياتنا من دون سابق إنذار.
في البدء، لم يتقبّل المجتمع الحركيّ طرحًا من هذا النوع، أي وجود فرق حركيّة للسيّدات، لأنّه اعتبرها خطوة إلى الوراء. لكن مع الإقبال الشديد والاستعداد الهائل للعمل، تبلورت هذه الخطوة بسرعة كبيرة وما لبثت أن أثبتت السيّدات استعدادهنّ للعمل الجماعيّ والانخراط في رؤية كان لها مبرّراتها وأفقها.
لم يكن سهلًا إقناع الأخوة المسؤولين بأهمّيّة الفكرة، لأنّهم اعتادوا أن يكونوا أسرًا تنمو في أحضان الكنيسة والحركة منذ الصغر، لدرجة كنّا نجد الآباء والأبناء يجلسون معًا في اجتماعات الهيئة وهم يتحاورون، وغالبًا ما شهدنا سجالات تدور بين الأجيال لأجل تحديث الفكر وإيجاد أطر جديدة للعمل.
صور جميلة من تاريخ طويل عشناه بتفاصيل غنيّة عن فرح الحياة في إطار هذا الانتماء. لكنّ هذا لا يلغي أهمّيّة الالتفات إلى تأثيرات الحرب على المجتمع، وما أحدثته من تغييرات في أواصر العلاقات الأسريّة، من فقدان المعيل أحيانًا إلى هجرة الأقارب، إلى دخول أفكار غريبة نتيجة تغيّرات ديموغرافيّة تعرّضت لها المدينة، حتّى ناءت الأرواح بأحمالها من الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الناجمة عن الحرب. كلّ هذا أثّر في بنية المجتمع الروحيّة، وجعل البيوت موحشة تضجّ بأوجاع كان على المرأة بالغالب الدور الأكبر في تحمّلها، لحماية العائلة من مخاطر الانهيار والتشرذم في مجتمع زادت شروره وما عاد أحد يعرف حدًّا لها وهذه المعطيات لم تكن غافلة على أحد.
من أهمّ النقاط التي أقرّتها السيّدات في لقائها الأوّل، بعد التداول في أهمّيّة تنمية الحياة الروحيّة والفكريّة عند المرأة لكونها عماد التنشئة الأسريّة، وإقامة دورات للدعم النفسيّ تدفع المرأة إلى تقديم مبادرات خلّاقة للنهوض بأسرتها ومجتمعها، وتوفير دورات لرفع مستواها المعرفيّ لدخول سوق العمل بقوّة. وهنا بدأ الحديث عن مطلب أساس هو خوض تجربة المشاريع الصغيرة، كركيزة للانطلاق واشتعلت الفكرة بحماس وبدأت كلّ مجموعة تناقش إمكاناتها واحتياجاتها. وفعلًا قدّمت السيّدات أوراق عمل لأفكار أوّليّة تستطيع القيام بها، منها مشروع بيت المونة ومشروع الخياطة، ومشروع «آباؤنا» ومشروع لرعاية ذوي الاحتياجات الخاصّة ودار نشر. طبعًا كلّ مدينة حسب خصوصيّتها، واختيرت منسّقة لسوريا تتواصل مع الأمانة العامّة من جهة، ومع منسّقات السيّدات في المحافظات السوريّة، ومع منسّقة السيّدات في لبنان، لترتيب البرامج السنويّة بما فيها اللقاءات المنتظرة لمتابعة التطوير.
وهكذا انتهى اللقاء تاركًا في نفوسنا أجمل الأثر، وعدنا وفي أذهاننا صفاء الصلوات والسهرانيّة التي ملأت قلوبنا سلامًا، وأسهمت في اغتسالنا من هموم الأمس القريب.
تمّ التواصل بعد المؤتمر، وتشكّلت أوّل فرقة سيّدات في حلب بحلول عيد البشارة العام ٢٠١٧، بحضور ثماني أخوات. تلونا صلاة لمباركة لقائنا وكانت بشارة ولادة أوّل فرقة سيّدات في حلب. بينما راح العمل في باقي المدن، على توسيع عمل الفرق وزيادة التفاعل بين الأخوات لخلق جوّ عمل يخرج الفرق من مشكلة عدم الفهم الحقيقيّ لمفهوم الفرقة الحركيّة ومفهوم الأخويّة، ويحثّهم على تقديم الأفكار للعمل البشاريّ والسعي نحو التعاضد في المواقف الحياتيّة الصعبة. وبدأت الأخوات الجدد يدركن أهمّيّة التفاعل الفكريّ وتطوير الذات حيث حاولنا، قدر الإمكان، تمكين السيّدات من إعداد قراءات كتابيّة وشروحات عنها ودعمها بشروحات عن بداءة النهضة الفكريّة، التي حصلت في منتصف القرن الماضي، وكيف تبلورت الفكرة وخاضت في غمار تكوين الشباب المتحمّس والهادف لدعم الكنيسة والعمل معها، لخلق حياة كاملة بالمسيح مكرّسين وقتهم وفكرهم ليحيوا مع أخوتهم ولأجلهم.
لم يمض شهر حتّى بدأت اللقاءات تزداد، وحضّرنا لمعرض حلويات عيد الفصح الذي تميّز بجودة المعروضات وإتقانها، والفرح الناتج من مشاركة السيّدات جميعهنّ بالعمل بهمّة عالية. لم تتأخّر أيّ منهنّ عن التزام العمل الجماعيّ، رغم أنّ المجموعة كانت تضمّ الكثير من السيّدات العاملات.
أحرز المعرض نجاحًا لم نتوقّعه، ثمّ نظّمنا لقاءات متنوّعة وصارت اجتماعاتنا دوريّة، مثل أيّ فرقة حركيّة أخرى، إلى أن حان موعد اللقاء السنويّ. حرصنا على أن تشارك فيه أخوات لم يسبق لهنّ خوض هذه التجربة، فكان لقاء فعّالًا أوقد فيهنّ روحًا حماسيّة إضافيّة، بعد تذوّق الحياة مع الأخوات من مختلف المراكز الحركيّة.
بعد ذلك راحت الأعداد تتكاثر، وتاليًا تزايدت الفرق في مختلف المراكز، وإلى الآن ما زال العمل يزدهر في فرق السيّدات، ويتزيّن بازدياد الوعي، رغم أنّ بعض التوجّهات لم تلق الاهتمام الكافي. فمثلًا تمّ تغييب دور المشاريع الصغيرة رغم كلّ المساعي التي بُذلت، وتحوّلت البداءة التي كانت مقدّمة لأفكار إلى مشاريع لا طائل منها، رغم وجود تمويل لها، وذلك لأسباب عدّة منها تسليم المشاريع إلى لجان تتغيّر فيها المسؤوليّات، من دون أن تمثّل مشروعًا شخصيًّا لأيّ منهنّ. هذا ما أدّى إلى ضعف الأداء وتراجعه وتاليًا لم تقدّم هذه المشاريع مردودًا مادّيًّا للسيّدات في ظلّ حاجات حياتيّة متزايدة. وهذا ما أكّدته غالبيّة السيّدات عند السؤال عن سبب عدم متابعة الأعمال. العمل المنتج يصعب نجاحه من دون تبنٍّ شخصيّ للإدارة وتأمين احتياجاته وإن اشتركت فيه أكثر من سيّدة. لذلك وجدت تلك السيّدات أنفسهنّ خارج الفكرة والعمل، رغم أنّ الفكرة ما زالت حلمًا للكثير من الأخوات، إلّا أنّ تنفيذها يحتاج إلى قناعة كبيرة بقدرة السيّدات وإلى إعطائهنّ الدعم اللازم لرفع معنوياتهنّ والوقوف معهنّ من دون تقييد لطريقة إدارة العمل.
وهكذا إلى الآن لم نستطع تفعيل دور المشاريع الصغيرة في خدمة المجتمع، ولم نتمكّن من تفعيل دور السيّدات في ريادة هذه المشاريع.
وكقراءة لما حدث، أجد أنّنا وإن لم نتمكّن من حلّ مشاكل الواقع الاقتصاديّ الصعب، لكن على الأقلّ دفعنا المرأة إلى الانخراط في حلقات بحث والانفتاح على تجارب الأخوات الأخريات اللواتي بتن قريبات منهنّ، وما زلنا حتّى الآن ندرس أفكارًا قد تؤدّي إلى تمكين المرأة من القيام بدور فعّال في البيت والمجتمع بشكل عامّ، والمجتمع الحركيّ بشكل خاصّ. قالت لي إحدى الأخوات: «بت أفهم مشاعر ابني تجاه الحركة». وأخرى قالت إنّها صارت تفهم الإنجيل، وأخريات تحدّثن عن أهمّيّة الخروج من الوحدة والعزلة إلى مجتمع فيه متعة المحبّة والمعرفة. وأخريات انخرطن في دورات أشغال يدويّة مميّزة، وكثيرًا ما وجدت فلس الأرملة يقدّم ذاته بسخاء ليسدّ حاجة في مكان ما. ومع ذلك فالتجربة ما زالت تحتاج إلى فترة أطول لكي تنضج الأفكار التي تصاغ فيها بالعمل أحيانًا، وبالاستقراء من الواقع أحيانًا أخرى، ومن وضع كلّ الإمكانات لمساعدة المرأة على تجاوز الأزمات التي تعيشها، وتصبح قادرة على التعبير عن قدراتها ورغباتها وإمكاناتها ومؤثّرة في مجتمع يحتاج إلى كلّ طاقة إيجابيّة فيه. نحن نسير على دروب الفرق الحركيّة كافّة ونطمح دومًا إلى نهضة روحيّة أسريّة شاملة.