السلام المقرون بالمحبّة
عبداللَّه بطش
مجلة النور العدد الرابع – 2024
سَمِعنا كثيرًا، نحن الذين نُدعى بجيل التّسعينات، منذ نعومة أظفارنا، عن الحروب وتداعياتها، وما ينتُج عنها من مآسٍ وأضرارٍ جسمانيّة ومعنويّة... كانت لنا كالرّوايات، عرفناها في كتب التّاريخ، ورصَدْنا في طيّاتها تصويرًا عميقًا للواقع المُعاش آنذاك، إضافة إلى أحداث وصرخات عالية مدوّية تستنكر ما يجري، كما أخبَرنا بها أجدادنا في دردشاتٍ عائليّة، كاسترجاعٍ لحقبات عاشوها، وهي تُظهر لنا قوّتهم وشجاعتهم في المقاومة من جهة، وقساوة فقدانهم لأحبّة غَدَرَهم الموت وكذلك التّهجير من جهة أُخرى.
أمّا اليوم، وبعد عقودٍ من الزّمن، أثبَتَت لنا الأيّام بأنّه ليس من سِلمٍ دائمٍ ولا من أمنٍ مضمون... لماذا؟ وكيف؟ أسئلة تبقى مُستترة خلف مبدأ حرّيّة الإنسان وكيفيّة تعاطيه معها، والمساحة الّتي يلتزم بها في ممارستها.
نحن اليوم إزاء معاناة وآلام وانكسارات وجراحات لا يُستهان بها، فالعنف المُمارَس على الجنوب وانعكاسته المهيبة على كافّة أرجاء بلدنا، وَضَعَنا، نحن الشّباب، في صدمةٍ وخيبة أمل في مستقبلٍ مجهول ومصيرٍ مُبهَم، إذ إنّه أيقظ لدينا شعور الخوف، وهدّد استقرارنا وعطّل طموحاتنا، كأنّنا بذلك نسترجع شريط ذكريات أجدادنا، ونجد أنّ التّاريخ يُعيد نفسه معنا.
جرّاء هذه الظّروف الصّعبة، يواجه المسيحيّ تحدّيات جمّة، وبخاصّة، تلك المُتمَحوِرة حول دور اللَّه وتدخُّلاته في المِحَن والأزمات. ولا يخفى على أحدٍ أنّ الأحاديث كثُرت فيما بيننا، خلال جلساتنا واجتماعاتنا، حول مسألة التّدخّل الإلهيّ لمواجهة أوضاعنا الرّاهنة، فالغالبيّة منّا في حال تعجّب وتساؤل: لماذا لا يُوقِف اللَّه هذا العُنف ويُنهي الحرب؟ وكأنّنا منتظرون منه أن يلعب دور «السّاحر»، فيُزيل كلّ آثار المشاهد المؤلمة من مسرح الحياة.
ممّا لا شكّ فيه، أنّ إلهنا إله محبّةٍ وسلام، فربّنا سيّد السّلام ورئيسه، كونه هو المحبّة الصّافية، ما يعني أنّه لا يتحقّق السّلام إلّا إذا اقترن بالمحبّة. هذه حقيقة لا مناص منها.
واستنادًا إلى المفهوم المسيحيّ، يتمثّل السلام في العيش باستقامةٍ وحسب مشيئة اللَّه، وبالتّالي، إن اعتمَدْنا في مسار حياتنا على الاستقامة والاتّكال على اللَّه، سيكون السّلام أمرًا محسومًا يَعمُّ القلبَ وينتشرُ في الدّنيا أينما حَلَلْنا.
ما من حربٍ حصلَتْ بقبولٍ من اللَّه. اللَّه هو الخير. لكنّه يسمَحُ بحدوثها لكَوْننا مُخَيَّرين، فبِمُجرَّد مَنْحه إيّانا الحرّيّة كاملة، يُصبح الشرّ خيارًا، إن مارسْناه، سنُحاسَب عليه. فعلينا أن نعي دائمًا بأنّ للحرّيّة ضوابط، تَضمَحلّ حين نخترقها، وبالتّالي تُنتَهَك.
في الحقيقة، ما يجب أن ننتظره من اللَّه، في ظلّ الوضع المرير الّذي نمرّ به، ليس تغييرًا أو إلغاء للظّروف القاهرة الّتي توجعنا، إنّما إيمان بما سيزوّدنا به من قدرات وقوّة حتّى نتخطّاها، وهو حتمًا السميع المُجيب. هذا، بالتّأكيد، ما يتفاوت بين البشر، ويتطلّب منّا جهادات روحيّة وثقة صادقة باللَّه. فعندما نسلّم أمرنا للرّبّ ونضعه في عُهدته، ونَثِق بأنّه سيَنتَشِلُنا من مرارة واقعنا، سيُدفِق علينا عندها وابلًا من نِعَمِه ورحماته، وكأنّه بذلك يجعلنا نلتمس شيئًا من الملكوت السّماويّ.
علينا أخيرًا، في هذا الزّمن العصيب، أن نعيش حياتنا باتّزانٍ، وألّا نصرف أنظارنا ووعينا عن حقيقة الأبديّة، فحياتنا الأرضيّة ليست سوى فرصة لنا لاختيار المحبّة المُترجمة بأعمال الرّحمة، وما نقوم به أرضيًّا له تأثير كبير على مصيرنا الأبديّ.
نحن نبقى جميعًا على رجاء ألّا تبقى نفس بشريّة متألّمة ومشرّدة. هذا واجبٌ علينا وفرصةٌ لنا حتّى نتحرّك لِنُعين إخوتنا، ونُعلن حبّنا السّاكن في قلب كلّ من نمدّ له يد العون.