رسالة من مؤمن إلى الأسقف
نقولا طبليّة
مجلة النور العدد الرابع – 2024
الكنيسة هي مِلك المسيح لأنّها جسده. فسلطانه فيها يُعَدُّ سُلطانًا مُطلقًا. لذا ليس للبشر أن يُقرّروا للكنيسة مبادئ ومُثلًا أو نهجًا في الحياة. فالمسيح هو الطريق والحقّ والحياة. الكنيسة ملك المسيح لأنّه يَملك فيها أيضًا. وبقدر ما يشترك معه البشر في هذا المُلك يكونون أعضاءً في جسده. فللحياة المسيحيّة هدف واحد: مجد اللَّه وبنيان الكنيسة. الأسقف هو سفير شعبه لدى اللَّه، له دالّة عند اللَّه لأنّه يأمر بأوامر السيّد وحده. لذا، فإنّ مصدر سلطته هو اللَّه عبر الكتاب المقدّس والمجامع ومصادقة الشعب له عبر عبارة «مستحقّ». وهو ليس بالحاكم أو الموظّف لأنّ السّلطة الأسقفيّة أمانة بين يديه. من هنا، فإنّ صُلب عمله الكرازة بالربّ «فإنّنا لسنا نكرز لأنفسنا، بل بالمسيح يسوع ربًّا» (2 كورنثوس 4– 5). لذا ركّزت الكنيسة في تقليدها، في خدمة رسامة الأسقف، على وضع إنجيل المسيح فوق رأسه، ليعرف أَنّه، يخضع فقط لسلطان الكلمة الإلهيّ. وهذا ما عبّر عنه القدّيس أغناطيوس الأنطاكيّ بقوله لأحد الأساقفة: «لا يُعمل شيء من دون إرادتك، أمّا أنت فلا تعمل شيئًا من دون إرادة اللَّه» (الآباء الرسوليّون) (منشورات النّور). وفي بحثنا هذا، سوف نستعرض النقاط التي تُشكّل برأينا، العمود الفقريّ لخدمة الأسقف، وهي: 1- في اختياره. 2- في سلطته. 3- في التواضع. 4- في مجد اللَّه ومجد العالم. 5- في المال والتدبير.
1- في اختياره: كَثُرت النصائح والإرشادات الرسوليّة والآبائيّة على السواء أمّا ملخّصها وإن طال، فيدعو أوّلًا إلى أن يكون الأسقف:
أ: بلا لوم: «إنّ الخصال أو الفضائل تجعل الأسقف بلا لوم، أيّ جامعًا الفضائل كلّها» (الدمشقيّ). والأسقف (على وجه الخصوص) يجب أن يكون على معرفة تامّة بجميع أنواع الحروب الروحيّة، لأنّ شعبه، ولا سيّما ذوي النفوس الضعيفة (وما أكثرهم اليوم)، عندما يرون رئيسهم مغلوبًا، مُلازمًا الصمت، ينسون أن يُعْزوا ذلك إلى ضعفه، بل يَرون في موقفه ضُعف العقيدة وتزعزعها. وهكذا، فإنّ جهل رَجلٍ واحدٍ وضعفه، قد يَجرُّ شعبًا برمّته إلى الهلاك» (في الكهنوت – منشورات النّور صفحة 106).
ب: بلا عيب: «الأساقفة يجب أن يكونوا بلا عيب، وفي صيتٍ حَسَنٍ. والأسقفيّة هي الكمال الأسمى يُدعَى إليها مَن تألَّه» (الآباء الرسوليّون – ص 183)، كذلك «يجب أن تكون له شهادةٌ حسنةٌ مِن الذين هم من خارج، لِئلّا يَسقط في تعييرات وفخّ إبليس» (1 تيموثاوس 3: 7).
ج: لاهج باللَّه: «يُكرِّس ذهنه ووقته ونشاطه لبنيان الكنيسة في وقت مُناسب وغير مُناسب» (2 تيموثاوس 4: 2).
د: هو مثال وقدوة: «تشبّهوا بي كما أنا بالمسيح» (1كورنثوس 11: 1). فالكلمة لا تُنقَل بالشّفاه فحسب، وإنّما بالقدوة.
هـ: وهو كُفء: «فلا التقوى والشيخوخة تكفيان لارتقاء درجة رئاسة الكهنوت، إن لم تقترنا بالكفاءة» (في الكهنوت – ص 77). كما أنّه «يجب ألّا يُمنع الكهنوت (أو رئاسته) عن حديث السنّ مُطلقًا، بل عن حديث الإيمان غير المجرَّب، وبين الاثنين هُوّة كبيرة وفرق عظيم» (في الكهنوت – ص 79).
و: هو شاهدٌ وحافظٌ للوديعة «احفظ الوديعة الصالحة بالروح القدس الساكنِ فينا فتصيرَ راعيًا حقيقيًّا لقطيع المسيح» (2 تيموثاوس 1: 14)، كما أنّه شاهِدٌ وشهيد دائمٌ لها، وحافظٌ لِتعليم الكنيسة الأُمّ وأمينٌ له.
ز: غيرُ متسرّع: «لا تضع يدك بالعجلة على أحد ولا تشترك في خطايا الآخرين، لأنّه عليك أن تختبرهم» -أي المتقدّمين إلى الكهنوت - (1 تيموثاوس 3: 10).
فلنتذكّر كيف واجه القدّيس يوحنّا الرحيم الغنيّ الذي اشتهى الشموسيّة رُغم زواجه مَرَّتَين، وكان ذلك إبّان المجاعة التي حلّت ببلاد مصر. وما كان جواب قدّيسنا رغم حاجته الماسّة إلى المال، سوى ذاك الجواب الإلهيّ: «إنّ الحمل في الشريعة، ما كان لِيُقبلَ قربانًا إلّا خاليًا من العيب. لذا، فليس لك نصيبٌ ولا قُرعةٌ في هذا الأمر» (السنكسار الأرثوذكسيّ – جزء 1 – ص 366).
2- في سُلطته: دعا القدّيس أغناطيوس الأنطاكيّ الأسقف «بالمُسَقَّف مِن اللَّه» توكيدًا لخدمته ولمصدريّتها. وما بدايات العهد الجديد سوى تَدعيمٍ لهذه الخدمة العظيمة التي أكَّدتها الكنيسة وأَوصَت بها. وقد زادت عليها بعض التوضيحات: «لا يفعلنّ أحدٌ منكم شيئًا يتعلّق بالكنيسة من دون إرادة الأسقف، لأنّه حيث يكون الأسقف تكون الكنيسة» (الآباء الرسوليّون – ص 135). «ولأنّ صوت الأسقف هو صوتُ اللَّه، لذا، فأصغوا للأسقف لكي يُصغي اللَّه لكم» (الآباء الرسوليّون – ص 140)، «ومن احترم الأسقف يحترمه اللَّه» (المرجع نفسه). مِن هنا، فإنّ سلطة الأسقف ليست مُسْتَمَدّة من الشعب، ولا من شخصه، بل من سلطة المسيح الذي اختاره بناءً على موهبة خاصّة لَحَظَتْها فيه الجماعة، ليحكمها بها. وهو العارف، أي الربّ، ضعفاته ونقائصه أيضًا. فليس أحدٌ كاملًا غيره. وإلى هذا أشار الرسول «إنّنا نحمل هذا الكنز في أواني خزفيّة ليكون فضلُ القوّة لله، لا مِنّا» (2 كورنثوس 4: 7). لا بُدّ من الإشارة والتذكير بالحزم والتأديب والتوبيخ «لأنّ الكلّ أخطأوا وأعوزهم مجدُ اللَّه» (رومية 3: 23). لذا أوصى الرسول الأساقفة بالحزم: «الذين يُخطئون وَبّخهم أمام الجميع لكي يكون عند الباقين خوفٌ» (1 تيموثاوس 5: 2). فالأسقف، بما له من سُلطة، عليه أن يتكلّم ويعظ ويوبّخ، بكلّ سُلطان، دون أن يستهين به أحد (تيطس 2: 15).
مع التأكيد على وجوب الحرص في اختيار الرعاة قبل رسامتهم «لِنَنْتَبِهَنّ جيّدًا، لأنّ الكنيسة اليوم أكثر اضطرابًا مِن موج البحر. فالكهنوت يُسلّم تارة إلى أيدٍ غير نقيّة لتدنيس نقاوته، وتارَة أخرى لأيدٍ ضعيفة لا تستطيع تحمّل ثقل المسؤوليّة» (في الكهنوت – ص 77). أمّا في حال حدوث خطأ من أيّ راعٍ كان، فعندها «يستطيع الأسقف أن يُقصي من الكهنوت، وعلى الرغم من إرادة الشعب، غير المستحقّين، غيرَ واضعٍ أمام عينيه، سوى اعتبارٍ واحدٍ، وهو خير الكنيسة، لأنّه ليس عليه إرضاء الناس، بل خلاص نفسه والفوز برضى ربِّه، ويا ويله مِن حُكمٍ رهيبٍ قاطع حَكَم به على نفسه» (في الكهنوت ص 79).
3- في تواضعه: «الكبرياء هي أصلُ كُلِّ الشرور». إنطلاقًا من حكمة الربّ وتدبيره، اجتهد هو أوّلًا، في تعليم الرسل التواضع، بالكلام والقول، ومن ثمّ بالعمل. فقال لهم إنّ عليهم أن يصيروا أطفالًا، أي متواضعين، إن أرادوا أن يشتركوا في ملكوت السموات.
كما أنّ الرسول بولس يريدنا أن نكون أطفالًا في الشّرّ (1 كورنثوس 14: 2). التواضع لا يعني ضُعف الشخصيّة، بل على العكس، فهو يجعل من صاحبه صاحب رأي ثابتٍ، وإيمانٍ صلب، في عدل وحكمة يعكسهما الروح القدس، أو المواهب، في شخص رجل اللَّه.
4- في مجد اللَّه ومجد العالم: عن هذا تُطالعنا هذه المقولة التي توجّه بها أحد أساقفة كنيستنا ومعلّميها قبل صيرورته أسقفًا، توجّه بها إلى أسقف بُعَيد رسامته: «تنبّه سيّدي الأسقف لئلّا تتسرّب إليك محبّة هذا العالم لِتُرضي هذا وذاك وتكسب مجدًا. فليس لك أن تنظر إكليل المجد الذي أعدّه اللَّه للّذين يحبّونه. تذكّر سيّدي: إنّ اللَّه أكبر من رعيّتك وأكبرُ منك».
5- في المال والتدبير: صحيحٌ أنّ المال هو عصب الحياة، لكن في الكنيسة هناك تحذير دائم أرساه الربّ يسوع بقوله لتلاميذه، وهو العارف، «لا تعبدوا ربَّين (سيّدَين)، اللَّه والمال» (متّى 6: 24).
لاحظوا عبارة الربّ وكيف سَمَّى المال رَبًّا (سيّدًا) ثانيًا، وهو إنّما قصد تحذيرنا من فخّ الشيطان الأقوى والمطوّق حياة البشر بكلّ حناياها. أمّا الوجه الإيجابيّ للمال، فهو من دون شكّ، تسخيره في سبيل تدعيم الخيرات الأرضيّة الوقتيّة وتنميتها من أجل أن تكون معبرًا إلى الخيرات الأبديّة. لذا، فمن أولويّات الرعاية الأسقفيّة تنظيم المال في الأبرشيّات عبر مؤسّساتها الكنسيّة والتربويّة والاجتماعيّة، وحتّى المعاملات الإداريّة الخاصّة بها، لتكون في خدمة المحتاج، أوّلًا، وفي سبيل إنعاش الرعايا، ثانيًا، بدل جمعها وترصيدها (راجع حياة القدّيس باسيليوس الكبير مثلًا).
إنّ الكنيسة، بلسان رسولها العظيم بولس، قد حذّرت الأساقفة، الرعاة، مِن السقوط في هذا الفخّ المُهلك. «وأمّا الذين يريدون أن يكونوا أغنياء فيسقطون في تجربة إبليس وفخّه، وشهوات كثيرة غبيّة ومُضرّة. لأنّ محبّة المال أصلٌ لكلّ الشرور» (1 تيموثاوس 6: 9 – 10). وفي المقابل، تدعوهم ليكونوا أغنياء في الأعمال الصالحة وكُرماء في العطاء، أسخياء في التوزيع.
هناك نقطة أخيرة في موضوع المال لا بُدّ من التنبّه لها، وهي تتعلّق بأولئك الذين انتدبهم الأسقف ووضع يده عليهم ليكونوا خُدّامًا أمناء ووكلاء له، مُستحقّين لهذه الخدمة الشريفة، وقد أوصى بها الرسول أيضًا: «وأمّا الشيوخ المدبّرون (خُدّام الكنيسة) حسنًا، فَليُحسبوا أهلًا لكرامة مُضاعفة، لا سيّما الذين يتعبون في الكلمة والتعليم، لأنّ الفاعل مُستحقّ أجرته (1: تيموثاوس 5: 13– 18). فلا يجوز بعد اليوم السماح بتكالب البعض لبيع القدسات أو الاتّجار بها، إنّما ينبغي للأسقف، الذي هو أبٌ «للكهنة والخُدّام»، أن يُدبِّر هذا الموضوع، وهو المُنتخب بإرادة الروح «مُدبّرًا أوّل».
سيّدي الأسقف: أنت تعلم ونحن نعلم أنّ أحدًا لا يستطيع أن يُصيّرك قدّيسًا، أو ملاكًا، أو راعيًا بالفعل حسب قول الكتاب «ليس أحدٌ يأخذ الكرامة لنفسه إلّا من دعاه اللَّه» (2بطرس 1: 17).
وإن تطايرت الدعوات والألقاب البشريّة، فلا تُسكِرَنَّك. سيّدي، للربّ القدّوس وحده هذه الكرامة المدعو إليها أنت وإخوتك عبر خدمة جليلة وعطاء لا بُدّ أن يبلغ حَدَّ البذل بحسب قول الرسول بطرس: «أتحبّني، إرعَ خِرافي». فإذا استطعت أن تصلب ذاتك أوّلًا، إذ ذاك تصير مسيحًا آخر تحمل على كتفَيك المتفرّقين وتجمعهم بين يدَيك إلى واحد حينها تكون لك، أوّلًا الكرامة ومن ثمّ المجد، فتعانق الآب بواسطة الابن الساكن فيك بالروح القدس، وتصير مع أحبّتك في وحدة، بعد أن تكون قد دُبّجت أيقونةً حيّة بحسب قول القدّيس أغناطيوس الأنطاكي، لأنّك صرت راعيًا حقيقيًّا لقطيع المسيح في فردوس لا توصف خيراته وجمالاته. ألا أهّلنا اللَّه بشفاعات قدّيسيه لننال رحمته. آمين.