2024

9 – خاطرة: »يا ربُّ، وهذا مَا لَهُ» يوحنّا ٢١: ٢١ - الأب بولس نقولا - العدد الرابع سنة 2024

«يا ربُّ، وهذا مَا لَهُ» يوحنّا ٢١: ٢١

الأب بولس  نقولا

مجلة النور العدد الرابع – 2024

 

إذا بحثنا عن كثب في ما هو مشترك بين الأديان كافّة، يبرز الموضوع المتعلّق بخلاص الإنسان، جرّاء ما يعانيه الأخير من بؤس وشقاء ومصاعب وآلام وأمراض وغيرها من تحدّيات يسعى المرء لاكتشاف وسيلة تنزع من حياته هذه المعاناة كلّها وتقوده إلى الخلاص، ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ السبب الرئيسيّ لانشغال البشر بهذا الموضوع هو جهلهم مصير الإنسان بعد الموت، أو خوفهم من هذا الشبح الآتي على كلّ إنسان، والذي غلبه سيّد المسيحيّة وإلهها، فبات عبورًا من حياة مؤقّتة إلى أخرى أبديّة.

لقد كثرت البحوث والدراسات المتعلّقة بالخلاص في الديانات غير المسيحيّة، رغم أنّه ليس من المقبول حصر الخلاص في ديانة دون أخرى، إذ هو نعمة منسكبة على كلّ إنسان، لذا يُطالعنا القدّيس بولس الرسول بما هو لخيرنا وخير جميع البشر فيقول: «لأَنَّ كُلَّ مَنْ أَخْطَأَ بِدُونِ النَّامُوسِ فَبِدُونِ النَّامُوسِ يَهْلِكُ. وَكُلُّ مَنْ أَخْطَأَ فِي النَّامُوسِ فَبِالنَّامُوسِ يُدَانُ. لأَنْ لَيْسَ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ النَّامُوسَ هُمْ أَبْرَارٌ عِنْدَ اللهِ، بَلِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِالنَّامُوسِ هُمْ يُبَرَّرُونَ. لأَنَّهُ الأُمَمُ الَّذِينَ لَيْسَ عِنْدَهُمُ النَّامُوسُ، مَتَى فَعَلُوا بِالطَّبِيعَةِ مَا هُوَ فِي النَّامُوسِ، فَهؤُلاَءِ إِذْ لَيْسَ لَهُمُ النَّامُوسُ هُمْ نَامُوسٌ لأَنْفُسِهِمِ» (رو ٢: ١٢ - ١٤). وهذا أوّلًا وأخيرًا يعلِّمنا أنّه من غير الممكن حصر الخلاص بفئة معيّنة من البشر، وذلك لأنّه ليس من البشر يأتي إنّما من اللَّه «الَّذِي يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَخْلُصُونَ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ يُقْبِلُونَ» (تموثاوس ٢: ٤)، أضف، أنّ من يعتبر أنّ الخلاص يخصّه وحده، يجعل نفسه ديّانًا لإخوته سائر البشر الذين لم يميّز الله بينهم، لا بل جعلهم كلّهم أبناء له أخصّاء بابنه يسوع المسيح المتجسّد لخلاص البشر كلّهم، «ويبصر كلّ بشر خلاص اللَّه» (لوقا ٣: ٦). وهذا ما يوضحه لنا يسوع نفسه في إنجيل متّى، إذ لم يذكر المسيحيّين حصرًا، ولم يميّز أحدًا حين قال في إنجيل الدينونة، «تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي، رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ. لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي...» (متّى ٢٥: ٣٤- ٣٥).

فكيف لنا نحن المؤمنين المسيحيّين أن ندين الآخرين، ونقصي عنهم خلاص اللَّه، ونحن لم نبشّرهم بعدُ بالحدّ الأدنى من الإيمان الذي ورثناه من الرسل والآباء القدّيسين؟

الكتاب أفضل شاهد إذ نقرأ: “فَلْيَكُنْ مَعْلُومًا عِنْدَكُمْ أَنَّ خَلاَصَ اللَّهِ قَدْ أُرْسِلَ إِلَى الأُمَمِ، وَهُمْ سَيَسْمَعُونَ» (اع ٢٨: ٢٨). وأيضًا: «اَللَّهُ الَّذِي هُوَ غَنِيٌّ فِي الرَّحْمَةِ، مِنْ أَجْلِ مَحَبَّتِهِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي أَحَبَّنَا بِهَا، وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ بِالْخَطَايَا أَحْيَانَا مَعَ الْمَسِيحِ، بِالنِّعْمَةِ أَنْتُمْ مُخَلَّصُونَ» (افسس ٢: ٤ - ٦).

كما أنّ للآباء أقوالًا جمّة في هذا الموضوع. فالقدّيس يوحنّا الدمشقيّ يخبرنا عن ضرورة وجود عاملَينِ أساسيَّينِ في مشروع الخلاص، العامل الإلهيّ أي النعمة الإلهيّة من جهة، والعامل البشريّ، أي إرادة البشر الحرّة من جهة ثانية. ويوضح القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم أنّ البداية الصحيحة لتدبير الخلاص، هي أن تتحوّل لغتنا وأعمالنا ومواقفنا الحياتيّة اليوميّة إلى تدبير بالروح القدس. ويبرز القدّيس باسيليوس الكبير دور الروح القدس في مشروع تغيير العالم وإصلاحه من أجل خلاصه، إذ يقول: «الروح القدس هو الذي يجعل الخليقة تعبر من الخراب إلى النظام، ويجعلها واقعًا جميلًا، نظيفًا».

ثمّ يتحدّث باسيليوس عن دور الروح القدس في عمل الفداء: «في ما يتعلّق بعمل الفداء بالنسبة إلى الإنسان على يد إلهنا العظيم ومخلّصنا يسوع المسيح، والذي تمّ بحسب إرادة الله، من يستطيع أن يناقض ما يتمّ بواسطة نعمة الروح القدس؟».

هذه بعض من الاستشهادات الرسوليّة والآبائيّة التي نؤمن بها، ولكنّنا مع الأسف نحجبها بقصد أم بغير قصد عن الآخرين.

لذلك نستطيع أن نستنتج أنّ الأهمّ في هذا الأمر هو أن نهتمَّ بخلاصنا أوّلًا، لكي نستطيع أن نسأل سؤال بطرس عن التلميذ حبيب المسيح : «يَا رَبُّ، وَهذَا مَا لَهُ؟» (يوحنّا ١٢: ٢١) أي بكلام آخر «ماذا ينتظره». هذا سؤال يظهر حنوّ بطرس، إنّه إظهار لاهتمامه بيوحنّا. نحن، في مطلق الأحوال، نأخذ هذه الآيـة ونستعـمـلها بشـكـل معـرفيّ ليـس إلّا، أي نتسـاءل «ماذا ينتظر غير المسيحيّين؟» من دون أن نهتمّ بخلاصـنا. لـذا، فـالأمر الأسـاسـيّ الـواجب اتّباعُه هو الاهتمام بخلاص نفوسنا أوّلًا، ، كما يدعونا القدّيس غريغوريوس اللاهوتيّ: «لنتطهّر أوّلًا ومن ثمَّ سنطهّر، لنستنير أوّلًا ومن ثمّ سننير». وأيضًا كمـا يعلّمنا القدّيس سارافيم ساروفسكي: «جِدِ السـلام فـي قلبك والآلاف مـن الناس سيخلُصون». إذًا فلنبدأ بالعمل على خلاص أنفسنا أوّلًا لكي نستطيـع أن ننقـل بُشــرى الخــلاص الـسارّة إلـى الذين ربّما «سيسبقوننا إلى ملكوت اللَّه» (متّى٢١: ٣١).

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search