2024

8 – رعائيّات: كندا - الأب إيليّا متري - العدد الرابع سنة 2024

كندا

الأب إيليّا  متري

مجلة النور العدد الرابع – 2024

 

كندا عالم لا تعرفه قبل أن تنزل فيه. الناس هناك، كلّهم أو معظمهم، يحيون بهدوء على حدةٍ. بيوتهم ممدودة أمامك من خارج على جَمال لافت. لكنّها بمعظمها تخصّ أهلها الذين تراهم يخرجون منها دائمًا بصمت، ثمّ يعودون إليها، ويختفون فيها.

هذا يعبّر عن شيء كثير من بلد كبير يغفو على أحلامه. الذين منكم يعرفون أنّ عدد سكّان كندا اليوم هو أربعون مليونًا منهم أربعة بالمئة فقط من السكّان الأصليّين، يمكنهم أن يعرفوا أنّ البلد هو، واقعيًّا، «بلدان في بلد»، أي هو تجمّع لبلدان عديدة منها بلداننا. في الشكل، وحدة البلد إذًا، الوحدة الحقيقيّة، حلم محفوظ إلى أجلٍ تصعب تسميته. البلد عدد إذًا، أرقام لا يزيدها شيء مثلما يزيدها ظلم العالم القريب والبعيد (الحروب والفقر...)، وتاليًا التوغّل، أكثر فأكثر، في «حرّيّة متفلّتة» هي جنون العالم اليوم. لا أتكلّم فقط على لوثة تشريع المثليّة الجنسيّة والتحوّل الجنسيّ والإجهاض...، بل أيضًا على هذا الاعتقاد المحموم بأنّ الطفل يمكنه هو نفسه أن يختار جنسه!

هل نقلتُ إليكم قلقًا لا تعرفونه؟

لا أُدخل نفسي في سطورٍ أكتبها إن ذكرتُ أنّ الناس في كندا، الملتزمين كنسيًّا، تجمع الكثيرَ منهم وحدةُ قلق. خذوا دليلًا مثلًا هذا السؤال الذي يتردّد صداه في قاعات الكنائس وفي بيوتٍ تأتي منها: «كيف نحفظ أولادنا؟». السؤال يعني حرفيًّا: كيف يكون أولادنا أقوى من العالم؟ هذه هي حرب الإنسانيّة المتجدّدة في غير مكان. كيف يبقى للَّه شهوده في الأرض؟ هناك في المسيحيّة أساسان للحياة يفترض أحدهما الآخر. الارتباط باللَّه شخصًا، والارتباط بجماعة الإخوة. هذا لا يتغيّر، أينما كنّا. كلّنا نعرف أنّ الكنائس في العالم، لا سيّما في المدن المنظّمة، جرحها الأكبر واحد: أولادها معظمهم يغيبون بين جدران المدينة. هذا يساعد على القول إنّ الكنائس، التي يلتحف أعضاؤها الملتزمون فيها بالنور، مسؤولة دائمًا، في غير مكان، عن أمرين: عن توبة الخراف الضائعة والكسولة، ثمّ عن دعوة الإنسان الذي لا يهمّه شيء سوى أن يقضي حياته وراء جدار. الاستقامة كلّها هنا. لا أقول إنّ الهجرة تعطي المهاجرين تكليفًا إلهيًّا للخدمة في أماكنهم الجديدة، بل إنّ الله قادر على أن يستعملهم إلى ما فيه مجده. لا أزكّي الهجرة. أسجد لقدرة اللَّه.

هذا لا ينسيني المحبّة الأخويّة التي لا تُنسى. هناك في «صحراء بعيدة» تعزيات عظيمة تقول إنّ اللَّه هو فعلًا هنا. لا أتكلّم فقط على الإخوة الغيورين الذين لا يريدون شيئًا سوى أن تكون الكنيسة أعظم، بل أيضًا على الذين يحبّون الغرباء، الذين يفعلون أيّ شيء من أجل أن يقولوا للسائح العابر إنّك أخ قريب، الذين يسافر بعضُهم اثنتَي عشرة ساعةً من أجل أن يلتقوا بأخٍ تعبق به رائحة ذكرياتهم أو وطنهم. عجيب أمر الإخوة الذين تراهم، أمام أيّ أخ أتاهم من بعيد، أخ من الماضي أو لا يعرفون عنه سوى اسمه، يفتحون قلوبهم دارًا! المحبّة أعظم جَمالًا من المدينة الجميلة، أيّ مدينة. المحبّة أقوى من الغربة.

يبقى ما يعنيني في غير حال، أي أن نلتزم أنّ هذا المدى الذي نحيا في ظلّه، لبنان وسورية...، يحتاج دائمًا إلى مَن يخدم الناس فيه إلى معرفة الحقّ. الكنائس، التي سعت وراء مؤمنيها إلى الخارج، من أجل الخدمة والشهادة، مسؤولة أن تحفظ بلادها التي تأتي منها. لا أتكلّم بتفصيلٍ على مسؤوليّة أعرف أنّ كثيرين أجدر منّي بتوضيحها. كلّ ما أحاول ذكره أنّ كندا من خارج تختلف عنها من داخل. أعرف صعوبات الحياة في بلادنا. ولكنّ الذي نزل يومًا في الغربة، أو ضاق بنزولها فيه، يمكنه أن يقول لنا إنّ بلداننا، رغم كلّ شيء، هي مكاننا الأمثل للحياة والعمل من أجل حاضر لنا أفضل ومستقبل أبلغ، لنا ولأولادنا.

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search