2024

10 - من زوايا التاريخ: نبذة تاريخيّة عن الحدود التركيّة السوريّة - الدكتور باسيل خوري - العدد الرابع سنة 2024

نبذة تاريخيّة عن الحدود التركيّة السوريّة

 الدكتور باسيل خوري

مجلة النور العدد الرابع – 2024

 

كما اعتاد أهل جنوب لبنان أن يعيشوا في قلق دائم من أطماع جيرانهم الإسرائيليّين، كذلك ظلّ أهل لواء إسكندرون في قلق من العصابات ومن نفوذ من كانوا يسمّونهم بالتركمان، أي القبائل التركيّة التي سكنت في الولايات العربيّة من السلطنة العثمانيّة، وكان ولاؤهم للسلطان العثمانيّ، رغم أنّهم كانوا يدّعون أنّهم من سكّان البلاد. الحدود في الشرق الأوسط رسمت بعد انهيار السلطنة العثمانيّة، وبعد تقسيمه إلى مناطق نفوذ بريطانيّة وفرنسيّة. وتقسيم المنطقة إلى مناطق نفوذ ليس من الضروريّ أن يكون لغاية إنسانيّة، بل لتعويض كلٍّ من فرنسا وبريطانيا عن خسائرهما الاقتصاديّة أبّان الحرب العالميّة الأولى. وفيما يلي سرد مفصّل لالتحاق لواء الإسكندرون بما كان يعرف آنذاك بتركيا الكماليّة، أي بالجمهوريّة التركيّة التي أسّسها ونظّمها مصطفى كمال، الملقّب بالـ«غازي» أو بـ«أتاتورك» أي أبي الأتراك.

عند انهيار السلطنة العثمانيّة التي كانت قد وقفت مع «دول المركز»، أي الإمبراطوريّة الألمانيّة والنمساويّة التي انهارت مع انتصار قوّات “الحلفاء”، أي فرنسا وبريطانيا وإيرلندا وروسيا ما قبل البلشفيّة. فرنسا وبريطانيا اجتمعتا سرًّا لتقسيم أراضي السلطنة العثمانيّة. ذلك الاجتماع نتج عنه اتّفاق سايكس-بيكو على اسم ممثّلي هاتين الدولتين: مارك سايكس وجورج بيكو. سوريا كانت من حصّة الدولة الفرنسيّة التي، في بداية انتدابها عليها، قسّمتها إلى ثلاث دول: دولة الدروز جنوب سوريا في منطقة حوران، ودولة دمشق، ودولة العلويّين. بينما المنطقة الممتدّة شمال اللاذقيّة وغرب حلب، فقد أعطتها حكمًا ذاتيًّا تحت اسم «سنجق إسكندرون». فهذه المنطقة كانت جزءًا من ولاية حلب، وإنطاكيا كانت تنافس حلب على مدى التاريخ. إذ كانت إنطاكيا تمثّل الثقل الدينيّ المسيحيّ والثقل الاقتصاديّ قبل حلب. فقد كانت ولا تزال منفذًا لبترول العراق، ولسكّة الحديد التي كانت تربط البحر الأبيض المتوسّط ببغداد. وبما أنّ حلب كان لها الثقل الأبرز في المجال الدينيّ الإسلاميّ السنّيّ والصوفيّ، فقد اختارتها السلطنة مركزًا أساسيًّا لولاية شمال سوريا. لكن، ولفترة طويلة، كانت عصابات تركمانيّة تتحدّى القوّات الفرنسيّة المتمركزة في اللواء والنشطاء السوريّين، تخلف بينهم تارة وتحاربهم معًا تارة أخرى. وكان ذلك السبب في أن يطلب أهل اللواء الحماية من الدولة التركيّة الكماليّة، تمهيدًا لضمّه إلى تركيا. ولكنّ القرار بضمّ اللواء إلى تركيا سيأتي بشكل غير مباشر عبر محادثات ومفاوضات بين تركيا وفرنسا.

 قبل الحديث عن المفاوضات بين فرنسا وتركيا، يجب أن نرجع إلى الوراء، إلى الحرب العالميّة الأولى. المنطقة المسماة كليكيا، وهي المنطقة الحدوديّة بين تركيا وسوريا الممتدّة من مدينة إنطاكيا حتّى الحدود العراقيّة التركيّة، وفيها غالبيّة أرمنيّة كوّنت فرقة عسكريّة مساندة للجيش الفرنسيّ في الشرق. وقد حصلت هذه الأغلبيّة الإثنيّة على وعد من الدولة الفرنسيّة بتأسيس دولة أرمنيّة للأرمن في هذه المنطقة. لكنّ الدولة المنتدَبة أخلفت بوعدها وتنازلَت عن هذه المنطقة، مع لواء الإسكندرون، لتركيا الكماليّة كما سنرى لاحقًا.

خرجت دول الحلف من الحرب العالميّة الأولى منهكة، مع نزاعات حول تقسيم الولايات الشرقيّة للسلطنة العثمانيّة فيما بينهم. فإتّفاق «سافر» (10 آب 1920) حدّد منطقة كيليكيا والشواطئ الشماليّة لسوريا ضمن الأراضي السوريّة، وبالتالي تحت الانتداب الفرنسيّ. ولكنّ القوميّين الأتراك لم يعجبهم هذا القرار، إذ إنّ كليكيا ولواء الإسكندرون منطقتان جبليّتان لهما أهمّيّة استراتيجيّة واقتصاديّة مهمّة لهم. استراتيجيّة لأنّ هذه المنطقة تشرف على شمال سورية والأناضول على حدّ سواء. واقتصاديّة لأنّها تربط الداخل السوريّ والعراقيّ بالبحر الأبيض المتوسط عبر سكّة حديد بغداد، وكذلك لوجود عدد لا بأس به من المناجم.

أمّا فرنسا فكانت مستعدّة أن تقدّم تنازلاتٍ للقوميّين الأتراك لكي تتجنّب النزاع مع تركيا في قضيّة الملاحة الحرّة عبر مضيقي البوسفور والدردنيل، ولأنّها كانت تعاني من شحّ في العديد والعتاد الذي لا يسمح لها بالسيطرة على مقدّرات كليكيا ولواء الإسكندرون. لذلك دخلت فرنسا منذ 14 كانون الثاني 1920، في مفاوضات مع تركيا، نتج عنها اتّفاق سلميّ بخصوص الحدود الجنوبيّة لتركيا. أي كما قلنا سابقًا منطقة كيليكيا ولواء إسكندرون. لكنّ هذه المفاوضات باءت بالفشل لأسباب عدّة. من بين هذه الأسباب خطأ في رسم الخريطة المتداولة بين الطرفين التي تضع سكّة حديد بغداد ضمن الأراضي التركيّة، وهذا ما لا تقبله بريطانيا المنتدبة على العراق. ولكنّ فرنسا أرسلت مندوبًا لها كي يحاول فضّ النزاع.                                                       

في ذلك الوقت كانت اضطرابات تندلع في إنطاكيا وبعض مدن اللواء، من حين إلى آخر بين التركمان القاطنين في ضواحي المدن وفي سهل العمق شمال إنطاكيا وبين القوميّين السوريّين على خلفيّات إيدولوجيّة كتعليم اللغة التركيّة في المدارس، أو استعمال اللغة التركيّة كلغة رسميّة في الدوائر الرسميّة. كان القوميّون السوريّون يتسلّحون بقرارات الدولة المنتدبة ليواجهوا التركمان وبخاصّة أنّه كـان لديهم نوّاب في البـرلمـان السوريّ في دمشق.                                                   

قلنا سابقًا إنّ فرنسا انتدبت مفوضًا من قبلها للمحادثات مع تركيا. كان اسمه هنري فرنكلان بويون، وهو ميّالٌ إلى أفكار القوميّين الأتراك. فقد قبل التخلّي عن بعض التزامات فرنسا في معاهدة “سافر” شرط أن يترك لها المجال في استثمار مناجم في الأناضول، وفي سهول القطن في لواء الإسكندرون. نتج عن محادثات هنري فرنكلان بويون مع الأتراك اتّفاق أنقرا في 20 تشرين الأوّل 1921. ولكن كان يوجد بعض النقاط الخلافيّة بين الطرفين، وبخاصّة فيما يتعلّق بالقسم الشرقيّ للحدود التركيّة السوريّة ومنبع الفرات. لكن بعد ما يقارب خمس سنوات في شباط 1926، أعلنت تـركيا أنّها توصّلت إلى تفاهم بشأن الحدود مع سوريا وأنّها مستعدّة لإبرام اتّفاق صداقة وحسن جوار.                                                                                            

ولكنّ ترسيم الحدود سيظلّ عالقًا حتّى سنة 1939، ويكون مدار بحث طويل وشاقّ بين دولة فرنسا والدولة التركيّة. عدّة معاهدات ونقاشات ستجري بينهما. لكن في النهاية ستنجح تركيا في ما تخطّط له. فمنطقة كيليكيا ستنضمّ لتركيا واللواء سيتحوّل إلى مقاطعة تركيّة باسم هتاي.                                                     

سوف أوجز المراحل التي مرّ بها لواء الإسكندرون منذ نشأته ككيان مستقلّ تحت اسم «سنجق إسكندرون»، مرورًا بـ«دولة هتاي» وصولًا إلى «مقاطعة هتاي».                                                        

منذ أن وضعت عصبة الأمم سوريا تحت الانتداب الفرنسيّ، وفلسطين والعراق تحت الانتداب البريطانيّ، كانت النعرات الإثنيّة متكرّرة ولا تتوقّف، وبخاصّة في لواء الإسكندرون. فكانت الصدامات تتكرّر خاصّة بين التركمان. وهذه الصدامات المتكرّرة دفعت بعصبة الأمم إلى أن تمنح اللواء استقلالًا ذاتيًّا. وكان ذلك، كما جاء في بعض المراجع والمقالات التي تحدّثت عن هذا الموضوع، تحت تأثير السياسة الخارجيّة التركيّة. وبعض المراجع تقول إنّ جمعيّة قوميّة عملت على تأسيس تيّار فكريّ قوميّ تركيّ في مجتمع اللواء يطالب بالانضمام إلى تركيا. وبفعل هذا كلّه، جرت مفاوضات بين عصبة الأمم وبرلمان اللواء على استقلاليّة اللواء. وهذه المحادثات أدّت إلى التصويت في البرلمان على استقلال اللواء تحت اسم «دولة هتاي» التي ترأّسها تيفور سكمان وعيّن عبد الرحمن ملك رئيسًا للوزراء. أمّا بالنسبة إلى تيفور سكمان، فتقول بعض المراجع إنّه من أصل أناضوليّ، وحيكت قصّة أنّه من اللواء، وسكن في الأناضول لكي تعطى صفة شرعيّة لمركزه كرئيس جمهوريّة هتاي. أمّا اسم “هتاي” فله قصّة من تأليف القوميّين الأتراك. هناك أطروحة في إنكلترا، وفي بعض الدراسات السوريّة تفيد أنّ القوميّين الأتراك زعموا أنّ الحثيّين كانوا في البداية من سكّان اللواء القدامى، قبل أن ينتقلوا إلى جنوب شرق تركيا ويؤَسّسوا إمبراطوريّتهم. من هنا تأتي كلمة «هتاي».      

                 

وعند إقرار الجمهورية، تقرّر أن تكون اللغة التركيّة اللغة الرسميّة مع اللغتين العربيّة والفرنسيّة كلغتَيْنِ ثانويّتَيْنِ. ولكنّ هذه الجمهوريّة لم تدم طويلًا، فقد بقيت من 2 أيلول 1938 حتّى 23 حزيران 1939. في 23 حزيران 1939، تمّ توقيع اتّفاق التحاق اللواء بالجمهوريّة التركيّة. في مذكّرات جدّي «باسيل خوري» الذي كان ممثّل طائفة الروم الأرثوذكس في جمهوريّة هتاي، يروي كيفيّة الانتخاب. وفي مركز المحافظة بإنطاكيا متحفٌ صغيرٌ يجسّد حادثة توقيع الاتّفاق.    

                                                                          

أتى ليلًا قائدٌ فرنسيٌ إلى منزل جدّي وقال له إنّه من الضروريّ التوقيع على التحاق اللواء بتركيا كي لا تقع مجازر بين التركمان والعرب كما حدث للأرمن أبّان الحرب العالميّة الأولى. التصويت على الالتحاق كان على الشكل التالي: كلّ مواطن في جمهوريّة هتاي يستطيع التصويت على قبول الالتحاق بتركيا أو رفضه إذا كان يستطيع القراءة والكتابة. وهذا ما أدّى إلى عزل عدد كبير من السوريّين المسيحيّين والعلويّين عن الانتخاب. لأنّ هاتين الإثنيّتين كان فيهما عدد لا بأس به من الأميّين. أمّا التركمان والأتراك الذين صوّتوا على الالتحاق فكانوا من المثقّفين الأتراك الذين انتحلوا صفة مواطنين في جمهوريّة هتاي.

                                                         

هكذا استولى الأتراك على القسم الكبير من منطقة كيلكيا، وضمّوها إلى أراضيهم. وهكذا أصبحت «عنتاب» تسمّى «غازي عنتاب» و«أورفا» بـ«سنلي أورفا» وما إلى ذلك من المدن والقرى في المنطقة التي كانت تسمّى «كيليكيا». تشرّد كثير من السوريّين (مسلمين ومسيحيّين). فمنهم من استقرّ في سوريا ومنهم من هاجر إلى أوروبّا وأميركا.  

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search