2024

7 - شؤؤن كنسيّة: ثبات الكنيسة - الأب فادي واكيم - العدد الرابع سنة 2024

ثبات الكنيسة

الأب فادي  واكيم

مجلة النور العدد الرابع – 2024

 

مرّت الكنيسة في ظروفٍ صعبة جدًّا، إذ لقيت المسيحيّة مقاومة كبيرة جدًّا مِن قِبل الفرّيسيّين والصدّوقيّين. بدأت الكنيسة تُقَدِّم الشُّهداء القدّيسين منذُ نشأتها. فبعدما قدّم المسيح نفسه ذبيحةً حيَّة، كان القدّيس استفانوس أوَّل الشُّهداء، إذ لم يرضَ التراجع عن إيمانه وحبّه للإله الحقيقيّ فاستشهد رجمًا بالحجارة، بموافقة شاول الّذي أخذ على عاتقه ملاحقة المسيحيّين ومحاكمتهم قبلَ أن يظهر له الرّبّ وينتقل من مُضطهِّد أوّل للمسيحيّين إلى المُدافع الأبرز عن المسيحيّة، ما أدّى إلى ملاحقته مِن قِبَل اليهود ثمَّ استشهاده.

انتشاِر المسيحيّة:

بدأ القّديس بولس الرّسول كرازته بالمسيح في طرسوس “فاجتاز في سوريّة وكيليكيا يشدِّد الكنائس” (أعمال41:15)؛ وبدأت رسالة المسيحيّين تنتشر في فينيقية وقبرص وأنطاكية على أيدي المسيحيّين الّذين تشتّتوا من أورشليم بعد استشهاد القدّيس استفانوس، وكانوا يخصّون بالكرازة اليهود فقط. وقد دُعيَ المسيحيّيون ب “المسيحيّين” أوّلًا في أنطاكية (أعمال 26:11)؛ ويُعتَقد أن يونانيِّين من أصل وثنيّ هم من أطلقوا هذه التسمية لأنّهم كانوا يسمعون كثيرًا باسم المسيح على ألسنة المبشِّرين.

الإضطِهادات

ابتدأت الاضطهادات ضدّ الكنيسة في رومية على عهد الإمبراطور نيرون (54-68م). كذلك في أنطاكية تمَّ اضطهاد المسيحيّة إذ كانت معتَبرةً هرطقة يهوديّة، ذلك أيّام الإمبراطور دوميتانوس (81-96م)، واستمرّت حتّى زمن الإمبراطور سفيرُس (222-235م) الّذي لم يضطهد المسيحيّة، وكان يحتفِظ في هيكله الخاصّ بتمثالٍ للسيِّد المسيح، وكانت أمّه امرأة تقيّة جدًّا. ثمَّ عادت الاضطهادات في زمن الإمبراطور ذاكيوس (249-251م)، أمّا خَلَفه الإمبراطور غاكس (251-253م) فلم يضطهِد المسيحيّين إلّا بعد امتناعهم عن تقديم الذبيحة للآلهة الوثنيّة. لكنَّ الاضطهاد الأكبر حصل في زمن الإمبراطور فاليرانوس (253-260م) الذي استُشهد في زمنه القدّيس نيكيفورس لرفضه إنكارَ الإيمان الحقيقيّ، وقد استشهد عن صديق له يُدعى سابريكيس الّذي خاف من الموت وأنكر المسيح، فطلب القدّيس أن يُقتل بدلًا منه.

من المؤكّد أنَّ اضطهاد المسيحيّين استمرَّ من جيلٍ إلى جيل، وظهرت الهرطقات الّتي هي اضطهاد وحربٌ أقسى من قتل الجسد، “لا تخافوا ممّن يقتلون الجسد...، بل خافوا، بالحريِّ، من الّذي يقدر على أن يهلك النّفس والجسد كليهما في جهنّم”. (متّى 28:10).

الهرطقات:       

سنة 313م. أصدر الإمبراطور قسطنطين منشور ميلان الّذي أطلق، بموجبه، للمسيحيّين حرّيّة المُعتَقد وحرّيّة العبادة. وقد شكّل هذا المنشور، بمفعوله ونتائجه، محطّةً مفصليّةً في حياة المسيحيّين. إذ، بعدما كانوا يجتمعون في أماكن سرّيّة، خوفًا من الاضطهاد، خرجوا إلى العلَن. ولكن، ما يؤسَف له أنَّ هذه الحرّيّة الدينيّة الّتي منحها قسطنطين للمسيحيّين تَرافقت مع ظهور البِدَع، الواحدة تِلوَ الأخرى.

أولى تلك البدع كانت بدعة آريوس. هو رئيس المدرسة اللّاهوتيّة الأنطاكيّة، المعروف بأنّه أنكرَ طبيعة الابن (المسيح) الإلهيّة وأنكر أنّها مُساوية لطبيعة الآب، وقال إنّها طبيعة مميّزة عن غيرها من الكائنات، ما يعني أنّه أنكرَ وِحدةَ الثّالوث بمجرد إنكاره طبيعة المسيح الإلهيّة المُتّحِدة أُقنوميًّا بطبيعته الإنسانيّة. من ثمَّ ظهرت هرطقة مكدونيوس المعروفة بهرطقة “أعداء الرّوح القدس” إذ شكّك بألوهيّة الرّوح القدس. ثمَّ ظهرت بدعة أبوليناريوس الّذي تبنّى نظريّة أفلطون إذ قال: «إنَّ الإنسان مؤلَّف من بدَنٍ ونفسٍ، والنفس تنتمي إلى العالم العلويّ. والمسيح اتَّخذ الجسد، أي البدن، من العذراء، أمّا النفس العاقلة فحلَّ محلّها الكلمة الإلهيّ نفسه». أيضًا ظهرت هرطقة نسطوريوس الّذي قال إنَّ العذراء هي والدة يسوع الإنسان وليس يسوع الإله الكلمة نفسه الّذي يضمّ في أقنومه (شخصه) الطبيعتين الإلهيّة والإنسانيّة معًا. وبهذا يكون قد جزّأ المسيح المتجسّد إلى شخصين يتعايشان في جسد واحد.

هذا، بالإضافة إلى الكثير من الهرطقات والانقسامات التي عرفتها الكنيسة في تاريخها، لكنّها (الكنيسة) بقيت ثابتةً وأخذت في الانتشار أكثر فأكثر.

الكنيسة في العالم

إنّ الكنيسة عرفت في تاريخها البشريّ، كما ذكرنا، أصعبَ الظّروف وأحلكها، وذاقت مرارتها، لكنّها، بقوّة «الّذي في وسطها»، «لم تتزعزع»، وبقيت ثابتة واستمرّت حتّى يومنا، وستبقى حتّى المجيء الثاني الأخير. فمهما حاولَ البشر فعله، ومهما غزت الهرطقات، تبقى هذه الأمور بشريّة ولن يستطيع أحدٌ المسّ بقدسيّة الكنيسة. ومهما كثُرَ التجديف لا أحد يستطيع إلغاء كلمة واحدة من كلام اللَّه، «السّماء والأرض تزولان وكلامي لا يزول» (متّى 35:24)؛ فاللَّه الثالوث أزليّ لا يحدّه مكان ولا زمان.

خاتمة

بالرّغم من كلّ المضايقات التي تعرّضت لها الكنيسة المقدّسة منذ تأسيسها - إذ قدّمت عشرات الآلاف من الشّهداء القدّيسين الذي استُشهدوا من أجل كلمة الحقّ ولم يقبلوا بالسُّجود إلّا لإله واحد مثلّث الأقانيم؛ فقُتلوا، رُجموا، نُشروا، امتحنوا، ماتوا بتوتير الأعضاء وقطع الرأس... ولم يقبلوا بالنّجاة ليحصلوا على قيامةٍ أفضل - لم يستطع أحد اخفاء النّور الحقيقيّ والحياة الحقّ.

وعملًا بدعوة الرّسول بولس إلى السّهر على كنيسة الربّ بقوله: “تنبّهوا لأنفسكم ولجميع القطيع الّذي جعلكم الرّوح القدس حُرّاسًا له لِتسهروا على كنيسة الله التي اكتسبها بدمه (أعمال 28:20)، علينا أن نسهر إكرامًا منّا لمن اكتسبها بدمه الكريم، يسوع المسيح؛ وإيمانًا به.

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search