ميلادك علامة رجاء
وأمل وخلاص للبشريّة
الأسقف تيودور الغندور
مجلة النور العدد الرابع – 2024
ميلاد ربّنا ومخلّصنا يسوع المسيح هو حدث مركزيّ في تاريخ الخلاص البشريّ، حيث أعلن اللَّه عن تجسّده مولودًا في مغارة بيت لحم، ليكون نورًا للعالم وخلاصًا للبشريّة. هذا الحدث لم يكن مجرّد ولادة طفل عاديّ، بل كان تحقيقًا لوعود اللَّه القديمة بالخلاص المنتظر، الذي انتظره الشعب اليهوديّ عبر القرون.
كان الشعب اليهوديّ يتوق إلى ظهور المسيّا، الملك الموعود الذي سيحرّرهم من قيود الظلم، ويعيد لهم الكرامة والمجد. كانت النبؤات المتعدّدة في العهد القديم تشير إلى مجيء المسيح المخلّص، وبخاصّة تلك التي جاءت على لسان النبيّ إشعياء: «هوذا العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمّانوئيل» (إشعياء ٧: ١٤). كان هذا الانتظار يحمل في طيّاته الأمل والتحرّر، ولكنّه في الوقت نفسه كان مشوبًا بالغموض لأنّ المسيّا جاء بصورة مختلفة تمامًا عمّا توقّعه الكثيرون.
عندما ولد المخلّص، كانت البشرى الأولى للرعاة الذين كانوا يسهرون على رعيّتهم في الحقول. هؤلاء الرعاة، الفقراء والبسطاء، كانوا يمثّلون الإنسانيّة المظلومة والمهمّشة. جاءهم الملاك برسالة فرح عظيم: «لا تخافوا، فها أنا أبشّركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب: أنّه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلّص هو المسيح الربّ» (لوقا 10:2- 11). الرعاة يمثّلون القلوب المستعدّة لاستقبال النور الإلهيّ ببراءة وتواضع. يقول القدّيس غريغوريوس بالاماس عن الرعاة: «لقد كانوا أوّل من سمعوا صوت السماء، لأنّهم كانوا على تواصل مع الأرض بروح نقيّة وببساطة قلوبهم.»
من جهة أخرى، جاء المجوس من المشرق، حكماء علماء يتبعون نجمًا ساطعًا. هؤلاء لم يكونوا من بني إسرائيل، بل من أمم أخرى، ممّا يرمز إلى شموليّة رسالة المسيح. لم يسجدوا فقط لطفل صغير في مغارة، بل رأوا فيه ملك الملوك وربّ الأرباب، فجلبوا له الهدايا الثمينة: الذهب، اللبان، والمرّ. الذهب رمز إلى الملك، اللبان رمز إلى الكهنوت، والمرّ يرمز إلى الآلام والصلب. القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم يشرح سجود المجوس قائلًا: «إنّ حكمة المجوس تفوق تصوّر الكثيرين، فقد أدركوا بسرّ نورِ النجم أنّ هذا الطفل هو الإله المتجسّد، وركعوا أمامه بإيمان صادق».
وفي المقابل، نجد همجيّة هيرودس الذي رأى في ولادة المسيح تهديدًا لعرشه. فأمر بقتل كلّ الأطفال في بيت لحم ومحيطها. هذا العمل الوحشيّ يذكّرنا بما يحدث في العديد من مناطق الشرق الأوسط، وفي عدّة بقاع من العالم الغارق بالويلات، حيث يُقتل الأبرياء وتُستباح الدماء من دون رحمة. كما نقرأ في الإنجيل: «صوت سمع في الرامة، نوح وبكاء وعويل كثير. راحيل تبكي على أولادها ولا تريد أن تتعزّى لأنّهم ليسوا بموجودين» (متّى٢: ١٨).
هذا المشهد يتكرّر في الكثير من الأماكن في الشرق الأوسط والعالم أجمع. الأمّهات يبكين أطفالهنّ، والشعوب تئنّ تحت وطأة العنف والظلم. وكما ذرفت راحيل دموعها في الماضي، نرى أمّهات اليوم يتفجّعن على أولادهنّ الذين يموتون نتيجة الحروب والنزاعات. إنّ ما يحدث من أحداث مؤلمة يشبه إلى حدّ كبير ما حدث في أيّام المسيح. القتل والعنف ما زالا يطاردان الأبرياء، والشرّ ما زال يسعى لإخماد نور الحقّ. لكن كما أنّ قبضة هيرودس لم تنجح، فإنّ الحقّ لا يمكن أن يموت، وسيظلّ النور يشرق رغم الظلمات كلّها. القدّيس أثناسيوس الكبير قال: «الشرّ قد يسيطر لفترة، لكنّه لن يدوم. المسيح جاء لينير طريقنا بالحقّ والحبّ، وهذه القوّة لا يمكن لأيّ قوّة بشريّة أن تطفئها». في هذا السياق، نحن مدعوّون إلى أن نستمرّ في الرجاء والإيمان بأنّ اللَّه يعمل في التاريخ. فالمسيح، الذي جاء في وقت مليء بالاضطرابات والظلم، هو ذاته الذي يعزّينا في آلامنا اليوم ويعطينا القوّة للاستمرار.
الرجاء في وقت الضيق هو أحد أعمدة الإيمان المسيحيّ، ويُعتبر نورًا إلهيًّا يضيء لنا الطريق وسط الظلام. الآباء القدّيسون في الكنيسة الأرثوذكسيّة تركوا لنا كنوزًا من التعاليم التي تُذكّرنا بأهمّيّة الرجاء، خاصّة في أوقات المحن والضيقات. القدّيس باسيليوس الكبير قال: «إنّ الضيقات التي تواجهنا ليست دليلًا على تخلّي اللَّه عنّا، بل هي فرصة لنثبت محبّتنا للَّه وإيماننا بتدبيره الصالح». فالرجاء ليس مجرّد شعور بالتفاؤل، بل هو إيمان ثابت بأنّ اللَّه يقود التاريخ، حتّى وإن كنّا لا نفهم كلّ ما يحدث حولنا. القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم في عظاته يشير إلى أنّ الرجاء باللَّه يجب أن يكون حاضرًا دائمًا، حتّى في أصعب الظروف: «لو كان اللَّه معنا، فمن علينا؟ لا تيأس أبدًا عندما تحاصرك التجارب، بل ارفع عينيك إلى اللَّه الذي يملك السماء والأرض». هنا، يعلّمنا الذهبيّ الفم أنّ الرجاء ليس فقط في الخلاص الأبديّ، بل أيضًا في أنّ اللَّه لن يتركنا وسط الضيقات، بل سيكون معنا ويقوّينا. القدّيس أفرام السريانيّ يشدّد على ضرورة الاتّكال على اللَّه في الظروف كلّها: «يا من تشعر بالضيق، تذكّر أنّ اللَّه الذي خلقك ويعرف تفاصيل حياتك كلّها، لن يسمح بتجربة تفوق قدرتك». هذه الكلمات تعزّز الفكرة بأنّ الرجاء هو الثقة الكاملة في أنّ اللَّه لن يتركنا وحدنا في وسط العواصف، بل هو القادر على تحويل الشرّ إلى خير. الرسول بولس يقول: «الرجاء لا يخيب، لأنّ محبّة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس» (رومية 5:5). هذا يذكّرنا بأنّ الرجاء الذي نضعه في اللَّه ليس خياليًّا أو ضعيفًا، بل هو رجاء مستند إلى محبّة اللَّه الثابتة والقويّة. الرجاء هو سلاحنا الروحيّ في مواجهة كلّ ضيق وألم. وكما يذكر القدّيس سمعان اللاهوتيّ: «إنّ اللَّه لا يترك من يرجو رحمته». فلنحافظ على قلوبنا مرفوعة إلى اللَّه، مع الثقة الكاملة في أن نور المسيح سينيرنا حتّى في أحلك الأوقات، وأنّه معنا في كلّ خطوة على الطريق.
بينما نعيش في عالم مليء بالألم والمعاناة، يظلّ ميلاد ربّنا ومخلّصنا يسوع المسيح علامة أمل وخلاص للبشريّة. لقد أتى ليعيد السلام والمحبّة، وليكون نورًا في ظلمات هذا العالم. دعونا نستلهم إيمان الرعاة والمجوس، ونتعلّم من تواضعهم وخشوعهم أمام عظمة اللَّه. وفي مواجهة همجيّة العالم، نتمسّك بنور المسيح الذي لا ينطفئ، ونتذكّر دائمًا أنّ «النور يضيء في الظلمة، والظلمة لم تدركه» (يوحنّا 5:1).