سامريّو كنيستي ووطني
الأب ميخائيل الدبس
افتتاحية مجلة النور العدد الرابع – 2024
خلال فترة ممارستي للتعليم الدينيّ في الثانويّة الوطنيّة الأرثوذكسيّة، أدرجتُ أمثال الربّ يسوع ضمن برنامج هذا التعليم. كنّا نتأمّل في مضمون المثل وهدفه، أي ما أراد الربّ أن يكشف أو يستر، عبره، بعضًا من أسرار الملكوت بلغة عصره ومدارك أناسه، ثمّ نحاول معًا أن نجسّد مضمونه في حياتنا اليوميّة. وفي محاولةٍ للتأكّد من مقدار بلوغنا هذا المسعى، كنت أطلب من الطلّاب أن يصيغوا قصّةً تحاكي قصّة المثل، موضوع تأمّلنا، بطريقة تراعي زمنهم وبيئتهم الحاضرة ويعرضوها على رفاقهم تمثيلًا. وهكذا كنت أتلمّس وإيّاهم أهمّيّة أن نحيا تعليم الكتاب في حاضرِنا وبين أناس زمننا (تأوين)، لا أن نتلقّن معلومات أراد الكاتب أن يُبْلِغها لأناس زمنه فحسب، مع أهمّيّة هذا المسعى في قراءتنا للكتاب. لكن إن وقفتَ عنده جعلتَ الكتاب نصًّا أدبيًّا نستمتع بجماليّاته ونُبْقيه خارج قلوبنا وحياتنا.
في جحيم الحرب التي نمرّ بها، لحظت تجسيدًا ومحاكاة لبعض ما ورد في مثل السامريّ الشفوق (لوقا 10، 25– 37) أردت الوقوف عنده دون المغالاة في محاولتي أن أطابق بين ما فعله السامريّ باليهوديّ المجرّح والمرميّ وحيدًا بين ميت وحيّ، وبين ما يقوم به إخوةٌ لنا في الإيمان والمواطنة تجاه من جرّحتهم هذه الحرب واقتلعتهم من جذورهم ورمتهم غرباء في وطنهم، فالغربة القسريّة هي ارتماء بين الموت والحياة.
قبل أن أعرض بعضًا من أوجه المماثلة بين هذا المثل وبين ما لحظتُه من أصالة إنسانيّة وإيمانيّة تحلّى بها من اهتمّوا بنازحي الحرب، أودّ أن أظهر فارقًا بارزًا بهذا الشأن. ما يجمع بين اليهوديّ والسامريّ كان عداوةً وحروبًا وبغضًا، وهذا وجه أساسٌ وبارزٌ لهذا المثل. أمّا ما يجمع بين النازحين ومُسْتَضيفيهم فهو وحدة المواطنيّة والتاريخ والمصير وما الاختلافات بينهم إلّا وجهٌ من وجوه غنًى حضاريٍّ وثقافيّ وإنسانيّ. وكم يؤلمني أن يرى البعض في هذه الاختلافات مبعثًا لاستحالة عيش ولقاء ومحبّة معهم.
ما يغيب عنّا في تأمّلنا لمضامين هذا المثل هو ما يتعرّض له السامريّ، أثناء اهتمامه باليهوديّ المجرّح، من احتمالات أخطارٍ لا تقلّ عمّا تعرّض له اليهوديّ على أيدي اللصوص. كان السفر، حينها، محفوفًا بمخاطر هجمات اللصوص، وعلى المسافر أن لا يهمل تدابير سلامته. هذا ما تدبّره السامريّ، أوّلًا في سفره على دابّة تؤمّن له سرعة التنقّل والتفلّت من كمائن اللصوص، وثانيًا في تزوّده بالخمر والزيت تحسّبًا للجروح التي يمكن أن تصيبه من هجمات اللصوص. السامريّ تخلّى عن هذَين التدبيرَين، الخمر والزيت والدابّة، وقدّمهما للمجرَّح. مسح جـروحـه بالخـمـر والزيت ونقله على دابّته إلى الفندق، أي أنّه أطال سفره وسار هو على قدمَيه معـرّضًا ذاتـه للخطـر. إعتنى بـه شخصيًّا ولم يتّكل فقط على الفندق. لم يوكِل أمرَه إلى مؤسّسة أو جمعيّة.
سلام على سامريّي كنيستي ووطني الذين علّمونا أنّ المحبّة والقربى، كعاملَيْن يحكمان العلاقات البشريّة، تفرضان ارتقاء الإنسان من الدائرة البيولوجيّة (قربى الجسد) والنفعيّة والسياسيّة والدينيّة والمذهبيّة إلى الدائرة الإنسانيّة الشخصيّة، إلى التعامل مع إنسانٍ أو جماعةٍ محدّدة رماها الشرّ في دربنا، إلى ملاقاته شخصيًّا. سلام لكم يا من تخطّيتم حاجز الفوارق والاختلافات إلى رحاب الإنسانيّة، إلى الفرح الذي لا يُنتَزَع. سلامٌ لكم يا من هزمتهم الخوف الناجم من مخاطرِ تفقّدِ مراكز إيواء النازحين التي أصبحت هدفًا لعدوٍّ بارعٍ في لبس أثواب الحملان، وابتكار مبرّرات لإجرامه وحقده وعنصريّته.
الرحمة والغفران لكلّ الإعلاميّين الذين سقطوا على مذبح الحقيقة، ولكلّ المسعفين العزَّل إلّا من سلاح جرأة تقديم العون وتغليبِ الحياة على الموت، والذين ما ســقـطـوا سهوًا بل عمدًا وغدرًا على يدِ عدوٍّ لا يفقَه معنى فعلِ الخير، لا بل يمنع غيره من فعله.
سلامٌ لكم جميعًا، على اختلاف معتقداتكم، يا من أنتم لنا عربون رجاءٍ بقيام وطنٍ يولد من مغارة البؤس والظلم، أنتم القادرين على جعل هذه المغارة مبعث فرح وسلام يولد منها خلاص إنسان هذه الأرض، فرح لا ينجم من مُتَعِ الاستهلاك والاستيلاء بل من المشاركة والعطاء. وسلامٌ لا يُبنى على القهر والدم بل على الحقّ وكرامة الإنسان التي ختمها الربّ بدمه.