2020

15. خاطرة - لماذا ارتجّت الأمم!!! (مزمور ٢: ١) - إلياس عادل توما – العدد السادس سنة 2020

لماذا ارتجّت الأمم‫!!! ‫(مزمور ٢‫: ١

إلياس عادل توما

 

 

يطالعنا كتاب المزامير الشريف بصورٍ تعكس لنا مُناجاة البشريّة للخالق، وتوصّف حالةً نعيشها في كلّ زمنٍ، من توبة وخوف، ومن فرح وابتهال، وإلى ما هنالك من خلجات الإنسان الـمُتعب.

أقف متأمّلًا هذه الآية «لماذا ارتجّت الأمم؟» (مزمور2: 1)، ونحن اليوم نحيا حقبةً مميّزة في تاريخ البشريّة الـمعاصر، حقبةً لربّما لا نجد لها مثيلًا عبر التاريخ البشريّ. تحدّث الكثير من العلماء والباحثين عن ضربة تستهدف الجنس البشريّ كلّ فترة معيّنة أو كلّ قرن، بدءًا بالحروب، وانتهاءً بالأوبئة، ومرورًا بالكوارث الطبيعيّة وغيرها من الضربات التي «ترجّ» الكيان البشريّ.

ضمن هذا السياق، أقف عند تساؤل كاتب المزامير «لماذا ارتجّت الأمم؟»، حيث لم يكن استعمال لفظة «الأمم» عبثًا، وإنّما كان دلالةً على التنوّع الثقافيّ والحضاريّ، ودلالةً على الاختلافات بين الجماعات البشريّة حول الهدف والغاية. وكلّ هذه الأمم والحضارات تُبنى أُسسها على قواعد غير متينة، وهي تاليًا تُتيح لهزّات الزمن أن تنال من أساساتها. ولكن لماذا نجد هذه الهشاشة في الأسس؟ ولماذا تؤثّر هذه الهشاشة بشكل كبير في هيكليّة هذه الأمم؟ ولماذا تحتاج الأمم إلى زمان طويل للاستفاقة والعودة إلى البنيان؟ هذه الأسئلة تستلزم التفكير للتوقّف والبحث، وتتطلّب الصدق للوصول إلى نقاط الضعف.

أمام هذه التساؤلات تستحضرني قصّة قايين وهابيل الواردة في الإصحاح الرابع من سِفر التكوين؛ وبعيدًا عن كلّ التفاصيل المعلومة أقف أيضًا عند مشهد لقاء الأخَوَين مع الربّ، اللذين فرش أحدهما قدّام المذبح كلّ أنواع الأعشاب والنباتات العطريّة والنفيسة، وأمّا الآخر فوضع على مذبحه عجلًا للذبح. وأتساءل أمام هذه المشهد، هل تصرّف الأخوان بحُكم العادة، أو قاما بتقديم الواجب للقاء الحبيب؟

ولمّا أوقِدت النار، استقامت صلاة أحدهما وأمّا الآخَر فلم تستقم صلاته، و«ارتجّ» هذ الأخير خوفًا، ثمّ قتل أخاه، وأنهى بذلك حياة نسل كامل وشيك القدوم.

لم يكن المعيار في ما قُدّم، وإنّما في الدوافع. نعم! فدافع هابيل يختلف عن دافع قايين. وهناك من قدّم لغاية إيقاد النار وحسب، وهناك من قدَّم لغاية فِعل الذبيحة وتقديم القلب للربّ. والحقيقة أنَّ الإنسان حين يقدّم قلبه يصل مباشرة بخطّ مستقيم إلى القلب الأكبر، أمّا عندما يعرض عن تقديم قلبه يسير بطريق أفقيّ طويل بعيدًا عن الطريق الشاقوليّ، وهذا يجعل من ثباته أمرًا صعبًا وتكون قدماه بحالة «اللاتوازن».

بهذا الإطار نُسقط المعطيات الواردة في حادثة قايين وهابيل على واقعنا الحاليّ لنفهم أكثر ونعي ما يدور حولنا. يشكّل مفهوم الذبيحة بحدّ ذاته لُبَّ الموضوع، ذلك بأنَّ الكلّ بدءًا يُقدّم ذبيحته الخاصّة، وصولًا إلى البعد الأكبر الكامن في تقديم الإنسان ذاته قربانًا عن أخيه وبأشكال مختلفة، لذا لا بدّ من التمييز بين نوعين من الذبائح.

«الذبيحة العُشبيّة» (دعوني أسمّيها كذلك) هي تلك الذبيحة الـمَنوطة بغايات شخصيّة، وهي ذبيحة تعبّر عن الأنانيّة لا يهمّها الآخر؛ وحتّى لو أتى فيها ذكر اللَّه فيكون مرتبطًا بغايات خاصّة وقتيّة، وهدفها المجد الباطل. إنّها ذبيحة تطلب السلطة والبطش على حساب الشعوب، ولذلك تبدأ دول بالتهام دول أخرى، والمجتمعات بابتلاع مجتمعات أخرى، وينهب الأفراد خيرات أفراد، ويلتهم الإنسان أخاه؛ والنتيجة بالبعد النهائيّ هي دخان أفقيّ لا يتصاعد نحو اللَّه أبدًا.

أمّا مفهوم «الذبيحة الحيّة» فهو مُغاير تمامًا، إذ نجد جسورًا من التفاني والبذل، وحجمًا هائلًا من الحبّ والتضحية، ولذلك تبدأ دول بتقديم العون لدول، والمجتمعات تساند مجتمعات أخرى، والهِمَم تُبذل لتحسين واقع الإنسان؛ والنتيجة بالبعد النهائيّ هي دخان شاقوليٌّ يتصاعد مباشرةً نحو اللَّه.

أمّا المشهد الحقيقيّ والسائد فهو المحاولات الدائمة لذوي «الذبيحة العُشبيّة» قتل ذوي «الذبيحة الحيّة»، ولذلك ينشأ «ارتجاج الأمم» والضوضاء في كلّ الأرجاء، وتدور رحى الحرب، ودويّ أصوات الغضب يعلو.

ونسأل: لماذا ارتجّت الأمم؟ وهل ستقف هذه الحرب؟ بالتأكيد لن تقف، فالمعنى الأكبر يكمن في الدوافع.

عندما تخاف اللَّه فأنت تخاف على جوهرتك الثمينة، أي تخاف على صديق العمر وعلى الحبيب من الفقدان، والفقدان ليس انقطاعًا، وتخاف أيضًا أن تهتزّ تلك العلاقة المبنيّة على التسليم الكامل بإرادتك الكاملة لكلّيّتك في حضنه.

أمّا حين تخاف من اللَّه، فخوفك منه ناجم عن قناعتك بأنّك ستقف يومًا ما أمام قاضٍ يمتلك كلّ أخطائك فقط، ويضرب بعصا القاضي كلّ من عصى. وفي هذه الحالة أنت تخاف أيضًا من حالة «اللا أمان» أمام الأمان المطلق لأخيك الذي قدّم ذبيحة روحيّة، وهذا الخوف سيقودك إلى أفعالٍ آثمة مبتغاها العبث بالآخر، بهدف إعادة تكوينه بمقاساتك الـمشوّهة، فتصير الحالة الـمجتمعيّة بكلّيّتها منغمسة بلون واحد عُشبيّ، تسعى إلى جعله زائفًا لتصيرا أنت وهو سواسيّة. وتصبح رغبتك في جعله يحيا بدون حب اللَّه أكبر من رغبتك في حالة مُستقرّة تحياها. وتسأل «لماذا ارتجت الأمم»؟

مع الأسف هذا النوع من الحروب منتشر في كلّ الأوساط بدون استثناء، حتّى إنّنا في بعض الأحيان من شدّة حبّنا للآخر نستأثر به لأنفسنا، لنحدّ أيّ امتدادٍ له حتّى لو كان إيجابيًّا.

صراع قايين وهابيل هو صراع أزليّ يدفع فاتورته كلّ المحيط، وكلّما اشتدّ الصراع تضخّمت الفاتورة وازداد الارتجاج. لذا، نحن لن ننتظر أن تقف هذه الصراعات يومًا، لكنّنا سنبحث عن حلول تحول دون تأثّر الآخرين، وهذا يتطلّب منّا بذلًا أكثر، وحبًّا أكثر وأكثر وأكثر، ويتطلّب فرحًا في كلّ تفصيل نحياه في حبّنا للمحيط، كما يتطلّب أن نبتعد قدر الإمكان عن جلدنا لذواتنا، لأنّنا سنكون ظالمين لأنفسنا باستقطابنا حرب قايين وهابيل في داخلنا فقط، والنتيجة بالبعد النهائيّ ستكون تشظّيًا قبيحًا.

علينا أن نُفعّل مخزون النعمة الممنوحة ونُتاجر بها، لعلّنا نمسي في شراكة حقيقية جذّابة تستقطب تجّارًا آخرين يعشقون دفن وزناتهم، ويلهثون خلف وزنات الآخرين، وإن لم نعِ قيمة النعمة فلنكتفِ بمقطع من الإفشين الذي يُتلى في رسامات خُدّام الربّ: «النعمة الإلهيّة التي في كلّ حين للمرضى تشفي وللناقصين تكمّل».

إذًا، أيّ ذبيحة سنرتضي!؟ هل سنتناول عجلًا أم باقة ياسمين!؟ هل سنبذل نفسنا أم سنُنهي نفسًا!؟ هل سنُدافع عن إنسان يموت حيًّا أم سندفع إنسانًا حيًّا للموت؟n

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search