زمان مضى إلى الأبد
الشمّاس بول نقولا
لا تبكِ يا زمان الوفى على زمن خلفك، ولا تصرّ على العودة، فالرغبة في عودتك نادرة. لا تحزن يا زمان الرضا من زمن صار الخصام فيه سلوةً، والخصم إن غاب خصمه خاصم نفسه. تاريخك يا زمان الشرف من يُخبر عنه؟ فالشيوخ رحلت ومن بقي صمت أو تلعثم. من يُحدّث بالكرم والضيافة، بالأخلاق والقيم، بالمبادئ والشيم.
حين كنت يا زمانًا مضى كان الخير سائدًا والبركة تحلّ في كلّ مكان وعلى كلّ إنسان، وكان الشرّ سجين المحبّة، وحين طُعنت بحربة الغدر والتسلّط والكبرياء، أُجيز له أن ينطلق من أقاصي المسكونة إلى أقاصيها، يُهيمن متهلّلاً بانتصارات لا تُحصى على مُعسكرات التآخي والتآزر والعيش الواحد.
لا تندُب ماضيك يا زمان العطاء والسخاء والتضحية، في زمن ليس وليدك، أو ابن عشيرتك، في زمن مجهول الهويّة، وهو نفسه يَجهل جذوره. ولّى زمن الإنسانيّة، فهل للإنسان وجود بعد؟ أم أنّنا أخذنا من أجدادنا الجسد أشكالاً وطرحنا المضمون مع الزمن المغدور؟ هل ورثنا أجسامًا خالية من القلوب، ورؤوسًا فارغة من العقول، وأدمغةً تفتقر إلى الفكر والثقافة واللياقة والأدب؟
لا تنوحي عليّ يا أيّام الصّبا إذا ما شاهدتني أُناضل شامخًا وأموت واقفًا وأُدفن حيًّا. فقد بتنا في زمن يسترجع معتقدات القبائل في كلّ مفاعيلها لا سيّما في أكل لحوم البشر، ويُحيي قانون الغاب حيث يفترس القويّ الضعيف بغريزة لا تعرف الحكمة.
الكلّ مستاء من الكلّ، والكلّ يخاف الكلّ، ومن أراد الطمأنينة لجأ إلى السلطة والمال والسلاح والزعامات. صارت أيّامنا كلّها في حركة بيع وشراء، حتّى الإنسان صار في هذا العصر سلعة، تُرانا هل عدنا إلى عصر العبيد؟ ألعلّنا فقدنا الإحساس والكرامة وعزّة النفس؟ ألعلّنا نسينا أنّ الإنسان إنّما يُحترم لأنّه خُلق على صورة اللَّه كمثاله؟ أو لأنّ الإنسان نفسه تخلّى عن هذه الصورة الجميلة ونكرها؟ أو لأنّ الإنسان نفسه قد استغنى عن أن يتمثّل بالإله الحيّ فوضع لذاته أمثلة دُنيويّة تجرّه إلى الموت. لقد أعدنا الوثنيّة إلى تقاليدنا يا زمان النهضة، لنَسقط مجدّدًا تحت أقدام أصنام من نوعٍ آخر وبأشكال جديدة، أي صنم لإله الإستهلاك، وتمثال لإله التكنولوجيا، وغيرها لآلهة الترف والرفاهية والاسترخاء، والغريب في أمرنا أنّنا لم نصنع معبدًا واحدًا نعبد فيه الإله المجهول الذي بشّر به بولس الرسول اليونانيّين، لأنّ الصلاة أصبحت مغيّبة عند الأغلبيّة، والصلاة، صلة مع اللَّه ولكن ليس من وقت نقضيه في معيّته.
فلماذا تلومينني يا جدّتي وقد دُفنت زياراتنا لك خلف شاشات الهواتف، ولِمَ تنتظرني يا جدّي وجلسة المقاهي أرفه من جلستنا معًا في باحة دارك؟ بلّغيني شوقك إليّ يا أمّي فأرسل لك في الحين صورتي حيث أنا ورفاقي، وأنت يا أبي أعذر غيابي فإنّ لهوَ الدنيا يُشغلني عن معولك وعن قطف الثمار من بستاننا، فمن الآن، لك جنّتك وحصادك ولي جنّتي وجنوني.
قل لي لمن ستشكي يا زمان الحقّ والحقيقة، وكلّ شيء بات مزيّفًا، العلاقات والعواطف والأحاسيس والضحكات والأخلاق والتحيّات، حتّى ما نأكله صار مزيّفًا، الحياة كلّها صارت مزيّفة. أليس هذا لأنّنا تخلّينا عن الإله الحقّ وانغمسنا بما هو باطل؟ ها نحن قد تحوّلنا بإرادتنا إلى آلات بأيدي الآلات، إلى معدّات تتقاذفها الأيادي السوداء. تحوّلنا عن طريق الصعود إلى طريق الهاوية، وها نحن نهوي سقوطًا لأنّنا نهوى الأبواب الرحبة التي تؤدّي إلى الهلاك.
متى نصرخ كفى قبل أن يبحّ صوتنا من إطلاق الشتائم والنميمة والتجديف؟ متى نصرخ كفى لمؤامرات الشياطين الذين يتحكّمون في كلّ تفاصيل أفكارنا وضمائرنا وأفعالنا؟ أيكفي أن نتذمّر ونبكي معك على أطلال زمن رحل إلى الأبد؟ أيكفي أن نندب أيّام طفولة دُفنت في مقبرة النسيان؟ إنّ أمس كان لنا واليوم يُؤخذ منّا، فلمن نلجأ إلّا للّذي يضمن الآتي؟ فلنهتفنّ إذًا إلى العليّ، تعال الآن يا سيّد تعال، فقد ظمأ حلقنا إلى مائك الحيّ، وجوفنا فارغ، جائع، يتوق إلى أن تملأه من جسدك الطاهر، عقولنا مظلمة، تتلمّس الاستنارة من نورك القدّوس، وقد انسلخت أرواحنا عن أجسادنا وبُتنا نحن أصنام هذا الدّهر، تعال يا من هو رؤوف كما سبقت فوَعدتَ. ولو أنّك لن تجد إيمانًا على الأرض، لكن فقط تعال، فما عدنا نقدر على أن نحتمل ثقل خطايانا، ما عدنا نطيق أن نحيا في الرذيلة، حيث تفصلنا هوّة عظيمة عنك، تعال يا محبّ أنقذ من تُحبّ، ولو خُنّا ورذلنا وطعنّا وأبعدنا أنفسنا عن محبّتك. إغفر لنا كما غفرت للصّ اليمين، ولا تتركنا يتامى. فأنت وحدك القادر على أن تنتشل الساقطين في بقعة اللاوجود، في العدم، فتعال إذًا وخذ بيدنا وأنهضنا من سقطتنا أيّها الربّ يسوع المسيح تعال.n