الحياة في النور
جورج معلولي
الخبر الذي يشهد له يوحنّا كشفٌ أو رفعٌ للحجاب: ليس هذا الخبر نورًا بين أنوار كثيرة، إنّما هو النور نفسه: «إنّ اللَّه نور» (1يوحنّا 1: 5). لا يتكلّم يوحنّا هنا على نور الأجرام السماويّة والشمس والقمر، إنّما يشهد للنور الإلهيّ غير المخلوق الذي هو اللَّه نفسه: الكائن والذي يكون والذي يأتي الذي كشف عن نفسه لأنبياء العهد القديم يكشف نفسه بمن «سمعناه ورأيناه بعيوننا ولمسته أيدينا» المتجلّي أمامنا (1يوحنّا 1: 1) في كلّ آن. هو نور وليس فيه ظلمة البتّة.
هل الظلمة ضدّ النور كما أنّ الليل ضدّ النهار؟ أو هي غياب النور أو نقص في النور وليس لها وجود في ذاتها؟ قد نقول ليس للظلمة كينونة كما النور، هي كالعدم بالنسبة إلى الكيان. غير أنّ للظلمة في رسالة يوحنّا الأولى كثافة الرفض ومقاومة اللَّه، وتبدو فاعلة في العالم المنغلق على النور. يشرح القدّيس ذياذوخوس أسقف فوتيكي في القرن الخامس: «لا طبيعة للشرّ وما من أحد شرّير بالطبع لأنّ اللَّه لم يصنع شيئًا رديئًا. ولكن عندما نعطي بدافع من رغبة القلب شكلًا لما ليس له جوهر، عند ذاك يبتدئ أن يوجد ما أردناه أن يكون. فينبغي إذًا أن نعرض دائمًا عن الميل إلى الشرّ، الذي فينا، بدأبنا على ذكر اللَّه. لأنّ طبيعة الخير أقوى من الميل إلى الشرّ ما دام للخير وجود، بينما لا وجود للشرّ إلّا حين نفعله». هذا الرفض للنور هائل لدرجة أنّه يعطي «شكلًا لما ليس له جوهر». غير أنّ السعي نحو الظلام لا بدّ من أن يصل إلى حائط مسدود في حين أنّ السعي نحو النور لا نهاية له، كما يوحي إلينا القدّيس غريغوريوس النيصصيّ. قد يتعثّر السعي إلى النور فيتّخذ الجوع إلى الحياة أشكالًا مشوّهة هي في صميمها بحث أليم عن النور: فالذي يختار «أسوأ حياة، في رغبته في أن يعيش ما يعتقده أفضل حياة، في رغبته نفسها في الحياة، في توقه إلى الحياة، يشترك - وهو المحروم من الخير - في حصّة من الخير» (ذيونيسيوس الأيورباغيّ المنحول)، وإن كصدًى خافت بسبب حركة توقه التي يستقطبها الخير رغم إخطائها الهدف.
أن نقول إنّنا في شركة مع النور ونحن قابعون في الظلام، نفيٌ لمعرفتنا للنور لأنّ النور يطرد الظلمة. يوجّه يوحنّا أنظارنا في رسالته الأولى نحو النور. يدعونا إلى أن نذكر النور وكلّ اللحظات المضيئة التي تزورنا السماء فيها. أمّا أن نتخبّط مع الظلمة فهذا إمعان في دنيا الأوهام. يوهم الإنسان نفسه أنّه يستطيع الابتعاد عن الحياة التي تحيينا. إذًا هو في الكذب (أو الوهم) ولا يحيا في الحقّ. وكما يوحي الجذر اليونانيّ لكلمة «الحق»، أن نكون في الحقّ هو أن نكون دومًا في خروج من السبات. الحقّ حركة خروج مستمرّة من حالة الغيبوبة (أي الغياب عن النور) إلى اليقظة أي إلى النهار الذي لا يغيب. هذا الحقّ يحرّرنا من الأوهام، من شبكة العنكبوت التي تربطنا ومن الأفكار التي تعطي شكلًا لظلام كثيف. يمكن للأوهام والهموم أن تكون للإنسان كشبكة العنكبوت تلتصق بها النفس التصاقًا وتصبح ضحيّة للعنكبوت الراكضة إلى التهامها. ولكنّ الذين يبتغون التصاعد يطيرون بخفقة جناح فوق هذه الشبكة كما يشرح القدّيس غريغوريوس النيصصيّ. يمكن للإنسان أن يتحرّر في علاقته مع نفسه ومع العالم من العلاقة الصنميّة التي قد تجمّد النفس في مرحلة من مراحل التصاعد وكأنّها المطلق. ينتقل عندها إلى علاقة «أيقونيّة» حيث يغدو العالم المخلوق أيقونة تقود إلى النور الذي يسند وجوده من الداخل ويتجاوزه في آن.
من يتبع يسوع لا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة (يوحنّا 8 : 12). ذلك بأنّه النور الآتي إلى العالم في كلّ لحظة لكي يستنير كلّ من يلتصق به ولا يمشي في الظلام (يوحنّا 12 : 46). وكلّ من يحيا فيه يعطيه الكلمة أن يكون ابنًا لله (يوحنّا 1)، أي كشفًا حيًّا للحياة الإلهيّة والنور الإلهيّ.
كيف نسير في النور كما هو في النور؟ ما هي نوعيّة الرؤية (أو العين) التي تقودنا في هذه الطريق؟ «سِراجُ الجسدِ هوَ العَينُ. فإنْ كانَت عَينُكَ سَليمَةً، كانَ جسَدُكَ كُلّهُ مُنيرًا. وإنْ كانَت عَينُكَ مَريضَةً، كانَ جسَدُكَ كُلّهُ مُظلِمًا. فإذا كانَ النورُ الذي فيكَ ظَلامًا، فيا لَه مِنْ ظلام» (متّى 6: 22- 23). فإنْ كانَ كيانك كُلّهُ مُنيرًا (أي مشرّعًا كلّ نوافذه وأبوابه على النور)، «ولا أثَرَ للظلامِ فيهِ، أنارَ بأكمَلِهِ كما لو أنارَ لكَ السراجُ بِضوئِهِ» (لوقا 11: 34- 36). عين الذهن والقلب كالنقطة البؤريّة للعدسات الزجاجيّة تتجمّع فيها كلّ قوى الكيان. وكما المرآة التي تتّخذ بهاء الذهب الموضوع أمامها، هكذا كيان الإنسان الذي غسله الكلمة يستقبل إشعاعات الشمس الإلهيّة ويعكسها (القدّيس غريغوريوس النيصصيّ).
إتّخذوا الشمس داخلكم يقول لنا يوحنّا، فتشعّوا على الأبرار والأشرار. عندما تشرق الشمس تنير الأرض وكلّ ما فيها وتجعله مرئيًّا، هكذا شمس الحقّ إذ يشرق في الذهن النقيّ (والقلب) يكشف نفسه ويكشف مبادئ كلّ المخلوقات التي به كانت وتكون، كما يقول القدّيس مكسيموس المعترف في مئويّات المحبّة. فمحبّة اللَّه ومحبّة البشر وصيّتان لا تنفصلان. فإذا سِرنا في النور، «كما هو في النور، شارَكَ بَعضُنا بَعضًا، ودَمُ اَبنِهِ يَسوعَ يُطَهّرُنا مِنْ كُلّ خَطيئَةٍ». (1يوحنّا 1: 7). وكلّ ما يضع عائقًا أمام شركة البشر فهو إخطاء للهدف. كلّ خطيئة نقص في المحبّة أو انحراف عن المحبّة. إذا قُلنا إنّنا بِلا خَطيئَةٍ (أي أنّنا كاملون في المحبّة) خَدَعْنا أنفُسَنا وما كانَ الحَقّ فينا، أمّا إذا اَعتَرَفنا بِخَطايانا (بنقص المحبّة فينا) فَهوَ أمينٌ وعادِلٌ، يَغفِرُ لَنا خطايانا ويُطَهّرُنا مِنْ كُلّ شَرّ (أي من كلّ انحراف أو نقص في المحبّة). لـِمَ الخجل في الاعتراف بأنّ الحياة تنقصنا وبأنّنا نشتاق إلى محبّة لا نهاية لها تتدفّق إلينا ومنّا إلى العالم؟ أن نعترف بفقرنا إلى اللَّه هذا هو الحقّ وهذه هي اليقظة. هذه هي الحياة في النور. n