تحدّيات العالم الأرثوذكسيّ
النزعة الإكليريكانيّة (إصلاحًا ومرتجى)
ريمون رزق
«أمّا المعزّي، الروح القدس، فهو...
يذكّركم بكلّ ما قلته لكم»(٥٣)
ولأنّ «أبواب الجحيم لن تقوى عليها»(٥٤)، استمرّت الكنيسة، رغم كلّ هذه الانحرافات، حاملة الفكر الإنجيليّ، بنعمة مجّانيّة من لدن الروح القدس الذي يُحيي ليتورجيّتها ويُلهم كبار آبائها. علينا اليوم، تفاعلًا مع هذه النعمة الإلهيّة أن نسعى إلى استرجاع ما يمكن استرجاعه من حياة الكنيسة الأولى، علّنا نترك للأجيال الآتية إمكانيّات نهضويّة، متناسين التقاليد البشريّة التي يعتبرها البعض «مقدّسة»، لنعود إلى نقاوة التقليد الشريف. وقد سعى إلى ذلك كثيرون عبر الأجيال، فاستنارت الجماعات المسيحيّة في أيّامهم بالنور الإلهيّ وحامليه من القدّيسين، لكن لم تتراجع العثرات إذ لم يكن ممكنّا دائمًا إحياء «أخويّة» الأوّلين. فتفاقمت الأوضاع أحيانًا باتّجاه تسلّط الرؤساء وتخاذل المرؤوسين.
الأوضاع الراهنة
يخطر في بالي ما قاله، في السنة 1982، أحد كبار الأساقفة الأرثوذكسيّين(٥٥)، في عظة ألقاها في القدّاس الإلهيّ الختاميّ لأحد المؤتمرات الأرثوذكسيّة العامّة. قال، متوجّهًا إلى علمانيّي الكنيسة: «لقد اكتشفنا أنّكم موجودون، ليس فقط كمجموعة من الناس الأتقياء، بل كمكوّن لملء الكنيسة، فلا بدّ من استغفاركم على كلّ ما مضى من تصرّفات تقزّمكم، والدخول في حوار معكم، في كلّ مكان وعلى كلّ الأصعدة»(٥٦). أثار هذا الكلام آمالًا كبيرة في نفس الكثيرين، وانتظرت أجيال أن تتحسّن علاقات المشاركة بين الإكليروس والشعب في الكنيسة الأرثوذكسيّة. لكن ما عدا مبادرات يتيمة، هنا وهناك، فلم يتغيّر الكثير، وبقي الشعب التقيّ بعامّة «قطيعًا» يسيّر، لا يُسأل رأيه، وإذا سُئل لا يؤخذ به، بل يُطلب منه أن يطيع إذا ابتغى «ملكوت اللَّه». أمّا «غير الأتقياء» وهم الأكثريّة فيتباعدون عن الكنيسة باطّراد، إذ لم يشهدوا أيّ حوار حقيقيّ وتشاور. فبقيت كنيستنا، في عدد من أمورها، تخالف لاهوتها الأصيل ولا تُقدم على الإصلاحات الضروريّة لتعود إلى ينابيعها، وتجعل الإنجيل ولاهوتنا المبنيّ عليه يسوسان علاقاتنا بعضنا ببعض.
ما يجب إصلاحه
- ثمّة أفكار مغلوطة تنمّي التوتّر في واقع الحياة الكنسيّة. من بينها تطبيق مبدأ الديمقراطيّة على الكنيسة، وهو لا يتجانس معها أبدًا، لأنّها ليست مجرّد كيان إنسانيّ، ولا يقودها «الناس من أجل الناس»، بل يقودها اللَّه نفسه من أجل إحقاق الحقّ على الأرض والخلاص في ملكوته. فلا يخضع كيان الكنيسة وعقيدتها وليتورجيّتها ومناقبيّتها لتصويت الأكثريّة، إذ كلّ هذه معطاة من اللَّه، وعلى الإكليركيّ والعلمانيّ التقيّد بها على حدّ سواء.
- ومن النظريّات المغلوطة أيضًا أنّ الإكليروس له سلطة ولا يخضع لأيّ مرجعيّة، لا يشارك الناس، ولا يقدّم حسابًا لأحد. يجعل مثل هذا الاعتقاد من أبناء اللَّه الأحرار عبيدًا لا يُطلب منهم سوى طاعة الرؤساء وتأمين عيشهم. واللَّه بنفسه قال: «لا أعود أُسمّيكم عبيدًا لأنّ العبد لا يعلم ما يعمل سيّده، لكنّي سمّيتكم أحبّاء لأنّي أعلمتكم بكلّ ما سمعته من أبي»(٥٧). فالحفاظ على الحقيقة والاهتمام بالكنيسة والتبشير وأعمال الرحمة هموم مشتركة بين أبناء الكنيسة. فلا طاعة عمياء بينهم ولا ديمقراطيّة، بل طاعة متبادلة وقبول حرّ، محبّ وفرِح لكلّ ما يؤدّي إلى المحبّة الإلهيّة والخلاص.
- تعكّر نظريّة أخرى صفو العلاقة بين الإكليريكيّ والعلمانيّ، تكمن في التضاد الخاطئ بين «الروحيّ» و«المادّيّ»، الذي يعتبر أنّ الإكليريكيّ يهتمّ بالروحانيّات والعلمانيّ بالمادّيّات، بينما كلّ شيء في الكنيسة هو روحيّ ومادّيّ في آن. نُساهم مادّيًّا في بناء بيت الكنيسة، لكن هدف البناء هو روحيّ. نجمع المال من أجل خدمة إخوة المسيح وبنيان الجسد. نتناول خبزًا وخمرًا استحالا إلى جسد الربّ ودمه الكريمين. القول إنّ العلمانيّين يهتمّون فقط بالأمور المادّيّة هو إهانة لهم لكونهم أبناء اللَّه العليّ. فالتباين أو التنافس بين «الروحيّ» و«المادّيّ» بدعة حقيقيّة علينا العمل على إبسالها.
- ومن النظريّات الخاطئة أيضًا ما يعتقد به بعض العلمانيّين، أنّهم «يشترون» الإكليريكيّ لكونهم «يدفعون» للحصول على خدماته الأسراريّة. يكمن الخطر الداهم تحت هذا المفهوم وواقع «البطرشيل» المرتبط به، أنّ الإنسان قد يعتبر أنّ بإمكانه «شراء» النعمة أو الخلاص، كما اعتقد طويلًا أهل الغرب بواسطة «البراءات» البابويّة(٥٨). الواقع أنّ على الخادم أن يعيش من خدمته، كما يقول بولس الرسول. لكن لا بدّ من تقليص العلاقات الماليّة بين الإكليريكيّ والعلمانيّ لتفادي انتشار هذا المفهوم الخاطئ، وذلك بواسطة نظام مساهمات منتظمة للرعيّة تؤمّن معيشة الكاهن وعائلته ونشاطات الرعيّة وخدماتها.
- لا حاجة إلى التبسّط بعاهة الانفراديّة والتسلّط التي تتّسم بها أوساط الكنسيّة الأرثوذكسيّة بعامّة. ويعتقد كثيرون أنّ الوديع المتواضع يصبح سلطويًّا عندما يُمارس الأسقفيّة. أليست صفة القدسيّة والسيادة اللتين تُلصقان بالمطران، والتبخير المتواصل له في الخِدم، ومزايدات الناس في مديحه والتطييب على أقواله، هي كلّها المسؤولة لا شعوريًّا عن بعض تصرّفاته، أكثر من ميوله الشخصيّة؟ بما أنّ الكنيسة أخويّة تشاوريّة، مجمعيّة النهج، كما أرادها ربّها وعاشها الرسل والمسيحيّون الأوائل، تهدّد طبيعتها بالذات كلّ تجربة سلطويّة فيها، وتُفقدها فاعليّتها وتجعلها أقلّ إلهامًا لأبنائها وتأثيرًا على العالم(٥٩).
- ثمّة مغالطات أخرى لا مجال لذكرها هنا، تعشعش في الأوساط الكنسيّة، إكليروسًا وعلمانيّين، يجب بترها من الجذور، ليعي الإكليريكيّون والعلمانيّون على حدّ سواء أنّهم إخوة متشاركون فعلًا في «ذبيحة التسبيح»، وعاملون معًا لبناء جسدهم المشترك الذي هو جسد المسيح. لا ينفع الاستمرار بتجاهل خطورة المشكلة العلائقيّة بين الإكليروس والعلمانيّين، واعتبار أنّ كلّ شيء على ما يُرام في الرؤية اللاهوتيّة الأرثوذكسيّة. كفانا تدغدغ بلاهوت لا نعيشه. إذا لم توضع خطّة عمليّة لتقويم الوضع الراهن، وتنمية وعي الإكليريكيّين والعلمانيّين معًا على ضرورة إحياء علاقتهم في ضوء متطلّبات الإنجيل، لا بدّ من أن تتفاقم الأمور وتزيد الهوّة. يجب اتّخاذ خطوات عمليّة لتخطّي اعوجاج دام قرونًا، ولن ينتهي سريعًا.
هل من خطوات عمليّة؟
فعلينا المباشرة في التخطيط وترك النتائج إلى رحمة الفادي. تتطلّب هذه المعالجة أوّلًا مواقف روحيّة وأخلاقيّة تكمن في لجم أهواء كلّ أعضاء الكنيسة التي تُعيق انفتاحهم على بعضهم البعض، كامتناعهم الكلّيّ عن الأحكام والدينونة والتزامهم المحبّة والتسامح طريق حياة. أمّا الخطوات العمليّة الطويلة الأمد فيجب أن تنصبّ على الأمور التالية:
- التشديد في تعليمنا على لاهوت المواهب، والكهنوت الملوكيّ، والخلافة الرسوليّة التي هي خلافة جماعات رسوليّة يترأسها الأساقفة ولا خلافة أشخاص، والكفّ عن «تأليه» الأساقفة.
- الإحياء الليتورجيّ(٦٠) ليعي الطرفان تكاملهما في إقامة الخِدم الإلهيّة. لا يجوز للكاهن أن يُقيم الذبيحة الإلهيّة في غياب العلمانيّين، إذ هم مشاركون له حقيقيّون في الخدمة، وليسوا مستمعين، يبادلونه السلام وبـ«آمينهم» يساهمون في إتمام الخِدم.
- تنمية روح المجمعيّة على كلّ مستويات العمل الكنسيّ، لا سيّما بواسطة تعميم المجالس المشتركة بين الإكليريكيّين والعلمانيّين على كلّ صعد الحياة الكنسيّة، وإشراك العلمانيّين في مهامّ الكنيسة التبشيريّة والتعليميّة والاجتماعيّة والثقافيّة وغيرها. وإيجاد آلية تذكّر الأسقف بأنّه يمثّل ضرورةً آراء رعيّته في اجتماعات المجمع المقدّس.
- التأكيد على أنّ «القدسات» هي «للقدّيسين»، أي إلى كلّ أعضاء الكنيسة، والتخفيف تاليًا من إطلاق صفة القداسة على فئة منهم دون سواها.
- مع البقاء على الاحترام الواجب للإكليريكيّين وشكرهم الدائم على خدماتهم، التوقّف تدريجيًّا عن استعمال الألقاب التي تشير إلى السيادة والفوقيّة، والتخفيف من تقبيل الأيادي أو عدم ممارسته إلّا عندما تقتضيه القامات الروحيّة المشعّة.
- الإقلاع عن كلّ ما يميّز ظاهريًّا الإكليريكيّ عن العلمانيّ، لأنّه يغذّي الشعور بفرق «كياني». فلنتساءل لماذا بقي الإكليروس على لباس القرون الوسطى بينما يلبس العلمانيّ ما يقتضيه عصره؟ ولماذا، رغم الرموز التي تُعطى لكلّ منها، يتسربل الأسقف لباس الأباطرة البيزنطيّين، ويعتمر تاجًا؟ أليس اللباس يغذّي لا شعوريًّا عند اللابس والناظر على حدّ سواء أفكارًا تشير إلى السلطة أكثر منها إلى الأخوّة؟
هذا بعض من كلّ. علينا التسابق جميعًا إلى الصلاة والتفكير لإيجاد سبل تجعل أعضاء كنيستنا «يحبّون بعضهم بعضًا»(٦١) على أرض الواقع، إذ بالمحبّة وحدها، كما يقول الربّ، «يعرف الجميع أنّكم تلاميذي».n