مجلّتنا والبشارة
الأب ميخائيل الدبس
عندما أراد مؤسّسو حركتنا أن يطلقوا مجلّة، سمّوها «نورًا»، يُسطَّرون فيها إيمانهم وحياتهم في المسيح وخبرتهم الروحيّة النهضويّة، إنّما أرادوا عبرها أن يظهروا بعدًا أساسًا في حركتهم الروحيّة قائمًا على تجسيد حركتهم هذه كلماتٍ على ورق. أرادوا أن يؤكّدوا أنّ الحياة الكنسيّة لا تُحَدّ في الصلاة وقراءة «الكتاب». هذا منطلق وهذه غاية في آن معًا. منطلق لفعل بشاريّ لا تكتمل حياتنا في الروح من دونه، وغاية نصبو إليها بزخم أكبر ونجني مفاعيلها التقديسيّة ثمرًا أوفر إذا بلغناها حاملين جهود البشارة وجراحها وفرحها. العبادة والبشارة تمدّان غرسة الإيمان بنُسْغ الحياة والنموّ. تدوين خبرة حياتنا في الجماعة الكنسيّة ينقّي هذه الغرسة وينمّيها في عقولنا وقلوبنا وفي عقول قارئينا. الصياغة التدوينيّة مسؤوليّة ووجه تجسيديّ لحياتنا الكنسيّة ولفحوى فكرنا النهضويّ. في التدوين تأديب وسعي إلى معرفة تنبع من الحياة وتتجسّد كلماتٍ وصورًا تنفذ عبرها حياتُهم في المسيح، أخصب وأعمق، إلى عيونهم فعقولهم فقلوبهم لتكون دمغة حسّيّة تعبر الزمن لأجيال قادمة.
التدوين حصن البشارة
مجلّتنا تبشير والتبشير ليس خيارًا أو ترفًا. إيماننا يذوي إن لم نطلقه نحو الآخر. انعدام البشارة سمّاه بولس الرسول «ويلًا» يميت العبادةَ وفعلَ قراءةِ الكتاب المقدّس، يسجنهما في الأنا. البشارة تسليم حياة خبرها المؤمن في صليب المسيح وقيامته دربًا لبلوغ حقيقة لا تُحَدّ بكلمات على ورق. السؤال التحدّي: هل اكتفى الرسل والآباء في بشارتهم بحقيقة معاشة متوارَثة أم اضطرّوا إلى تدوينها؟
في أبعاد عقيدة التجسّد لا تُخدَم البشارةُ إن لم تجسَّد سلوكًا وتدوينًا. ما كان سلوك القدّيسين ليبلغ إلينا إن لم يدوَّن. صحيح أنّ التدوين لا يستوعب ملء البشارة ورحابة السلوك المقدّس، لكن من دونه يبقى هذان كنزًا من دون حصن يحيطهما ويحميهما من غزوات البدع والتزوير. لذا دوِّن الكتاب ودوِّن التسليم.
الحركيّون والكتابة
أيّها الحركيّون، أتوجّه إليكم رغم قناعتي بأنّ مجلّتنا ليست لنا حصرًا، لكنّ لوعتي من غربتكم عنها جعلتني أخصّكم ذكرًا. إن أردتم لمجلّتكم أن تستمرّ عليكم أن تجعلوها مطرحًا لتجسيد حياتكم في الجماعة الكنسيّة وبشارة لما تختزنه قلوبكم من معرفة خلاصيّة، ومجال تعبيرعمّا يختلج قلوبكم من معاناة وشكوى، من تألّقات وخيبات... جسّدوها كلماتٍ. الكلمات تكشف أنوار تألّقاتكم وعتمات خيباتكم، وفي كلا الكشفين بداءات نورٍ تصدّ الكبرياء وتكشف السقطات وتمنع عنّا سكرة النجاح وإحباط الفشل.
ما وراء الصمت والتخلّي.
التخلّي والصمت تدوينًا ليسا حلًّا. هما انعكاس لذاتنا التي أخشى أن تكون قد غدت لا ترى الاستقامة إلّا في ما تعتقده، وكلّ ما عداه انحراف، التي تخشى المواجهة بنور الكلمة المدوّنة. أيّ حركيّ هذا لا يريد من مجلّته إلّا ما يدغدغ قناعاته الموروثة وما يريحه في فراش سكونٍ غافلٍ عن نفحات الروح المتجدّد اللامحدود؟ لم تدّع الحركة يومًا أنّ كلّ ما دوِّن في مجلّتها صحيح وغير قابل للنقد أو التقويم. لكنّها تعتقد أنّ انسياب خطأ أو ترسّخَه في ما دوَّن هو دعوة إلى من زرع اللَّه فيه فضيلة المعرفة والتمييز ويبغي بقاء الحركة على أصالتها الأولى، ألّا يدفنها في ترفّع تقويّ انسلاليّ، بل أن يفعّل موهبته لتقويم ما اعوجّ- بحسب اعتقاده- بروح المحبّة والاحترام والانفتاح.
النشر الورقيّ
في لقائي مع بعض إخوتي في المراكز الحركيّة تلمّست فيهم كلّ الغيرة والإيجابيّة والمقترحات العملانيّة. سنسعى كأسرة تحرير إلى الاستجابة لها. لكن لن نتخلّى عن النشر الورقيّ وسنسعى إلى إعادة النظر في أشكال النشر الإلكترونيّ. لن نتخلّى عن الأثر المحسوس بالعين واللمس وحتّى الشمّ. أعرف اليوم في عصر الهواتف الذكيّة قارئًا يشمّ رائحة الكتاب الذي يقرأ وكأنّه يستبطن ما يقرأه بجميع حواسّه ولا ينقصه سوى أن يتذوّق طعم ورقه!!!
كُشِف لي في هذا اللقاء ثقلُ واقع أخشى أن نسلم له: الناس لا يقرأون. لا أنكر هذا الواقع لكنّي أعتبره مريضًا وأرفض بناء كلّ النشاط النشريّ عليه. أرفض تعميمه. ربّما هو واقع بلدنا أو بعض من شرقنا أو غربهم، لكنّه لا ينطبق على مجتمعات عدّة. واقع عدم القراءة ليس قدَرًا لا مفرّ منه أتى من العدم، نراعيه لا لنألفه بل لنواجهه. هو ثمر نهج تربويّ قائم على الانجراف في كلّ سيل يوجَّه صوبنا تحت عنوان العصرنة والتقدّم. نهجنا التربويّ المسيحيّ أساسه أنّ المسيحيّة خميرٌ يخمّر فتات صلاحٍ في العالم لا مرآة تعكس أمراضه وعيوبه وتتآلف معها.
دعوة
بعد ما قيل أدعو إلى أن نربّي أجيالنا منذ حداثتهم على عشرة الكتاب والكتابة، أن نقرأ لهم ومعهم، أن نكتب لهم ويكتبوا لنا، أن يلحظ الأب الراعي والمرشد والمعلّم هذه الموهبة ويرعاها وينمّيها.
أمّا في ما خصّ الكتّاب، فأنا لا أطلب ولا يحقّ لي التخلّي عن شخصيّتهم التدوينيّة وأسلوبهم وإطلالة وجوههم من وراء كلماتهم. لكن وجب علينا أن نبتكر قوالب أدبيّة جديدة نسكب فيها أفكارنا، قوالب تتوافق مع متغيّرات عصرنا التي لا يمكن غضّ النظر عنها بخاصّة عند إنسان اليوم الذي يُنعت باللاقارئ. المطلوب إن أمكن:
- الاقتضاب قدر الإمكان بأسلوب بسيط، بجمل قصيرة تغيب عنها كثرة الضمائر والجمل الاعتراضيّة.
- عناوين فرعيّة مواكبة لتقسيم تسلسليّ مرفق بأفكار رئيسة تدوَّن على هامش كلّ قسم من المقالة أو مقطع منها.
- وضع ملخّص تحفيزيّ لكلّ مقالة يمكن نشره إلكترونيًّا.
- الاستفادة من تقنيّات الكتابة التي توفّرها تكنولوجيا الطباعة الحديثة.
خاتمة
أتوجّه إلى من تعنيه هذه المجلّة: صفحاتها بتصرّفك، اكتب ولا تراع إلّا الصدق محترمًا القارئ عقلًا وخلقًا، متوافقًا مع عقائد إيمانك ومبادئ حركتنا التي ولدت هذه المجلّة ونريدها أمينة لمبادئها التي وضعها المؤسّسون من وحي الكتاب والتسليم المقدّسَين.n