2020

7. الإيمان على دروب العصر - المسيحيّ والعالم: أضواء من الأب ألكسندر (شميمان) - جورج معلولي – العدد الرابع سنة 2020

الإيمان على دروب العصر

المسيحيّ والعالم:

أضواء من الأب ألكسندر شميمان

 

لم يكن ألكسندر شميمان لاهوتيًّا مسجونًا خلف مكتب وأوراق. سافر كثيرًا والتقى العديد من الناس، المؤمنين منهم والملحدين، والمثقّفين، والكتّاب، وأيضًا الناس البسطاء والمهاجرين.

ارتاد الفنادق، واللقاءات الاجتماعيّة، ومؤتمرات المثقّفين والجمعيات العلميّة، رغم اعترافه بالملل الذي يرافق هذه الاجتماعات. كان يتحدّث إلى جماهير كبيرة أو مجموعات صغيرة دعته إلى الحديث في الرعايا. كان حسّاسًا للمفاجآت السعيدة التي يمكن أن تحدث بعد ذلك، مترقّبًا لقاءات غير متوقّعة، حاضرًا لاستقبال أحداث صغيرة تثير اهتمامه فجأة.

من دون المشاركة في أيّ حزب، كان متابعًا شغوفًا للسياسة الدوليّة أو الوطنيّة. تذكر العديد من النصوص في مذكّراته الأحداث التي وقعت خلال تلك السنوات: الانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة أو الفرنسيّة، التوتّرات بين الغرب والاتّحاد السوفيتيّ، وتصاعد الحركات الأصوليّة. كان في العالم ولم يكن من العالم.

العالم بالنسبة إليه هو أيضًا الطبيعة. طوال مذكّراته، تشير ملاحظات موجزة  إلى جمال الطبيعة في مكان سكنه... كان يحبّ بشكل خاصّ جمال الخريف، في تشرين الثاني، أو - مع اقتراب عيد الميلاد - المدينة المضيئة  المغطّاة بالثلج المبتهجة بأصوات الأغاني في عيد الميلاد، رغم جانبه التجاريّ.

«دائمًا الشمس ذاتها في الأيّام الباردة – يقول في مذكّراته - بالأمس، بينما كنت أذهب إلى الكنيسة عند غروب الشمس، وجدران المنازل والأشجار مضاءة،  كان لدي شعور وجيز بقوّة أخرى، الانطباع بأنّنا هنا، داخل حياتنا، نتحسّس حضور حياة أخرى، كأنّ جوهرها هو في ارتباطها بشيء «آخر» وفي الوقت عينه بالشهادة والانتظار. كان لي الشعور ذاته يوم السبت في بوسطن أثناء تساقط الثلوج بغزارة - مثل قصّة لا يستمع إليها أحد: «إنّه لأمر مدهش كم كلّ شيء في العالم، في الطبيعة يتحرّك. لكن في هذه الحركة (أي تساقط الثلوج، الغصن المستنير من الشمس، المروج ...)، كلّ لحظة تكشف عن الجمود المبارك، الامتلاء، إنّها «أيقونة» الأبديّة كحياة، الحياة التي تفيض».   

العالم أيضًا هو عالم الحضارة المعاصرة، الذي يلاحظه في سلوك الناس، وبشكل خاصّ المسيحيّين، في كلّ ألوانه: عبادة النجاح، البحث عن السعادة، المطالبة بحقوق الإنسان، وتأكيد الفرديّة... وأكبر حزن لديه كان أن يرى الكنيسة غير قادرة على التحدّث إلى هذا العالم.

يلقي نصّان الضوء على صعوبة العلاقة بين الكنيسة والعالم. الأوّل، كتبه في زمن الصعود، يسلّط الضوء على جدليّة علاقة المسيحيّة بالعالم، مستنيرًا بكلمتين من كلمات يسوع: «المسيحيّة غامضة». من ناحية، «هكذا أحبّ اللَّه العالم...» (يوحنّا 3: 16)، من جهة أخرى: «لا تحبّوا العالم ولا ما هو في العالم» (1يوحنّا 2: 15). يتابع في نصّ آخر: «نقطة واحدة، على أيّة حال، تبدو لي واضحة: يتم تعريف «الإحداثيّات» الأساسيّة لهذا الإيمان بالمحبّة. أوّلًا، عبر محبّة قويّة للعالم بكلّ «معطياته» (الطبيعة، المدينة، التاريخ، الثقافة). ثمّ، عبر قناعة واضحة (أو «اختبار»)، بأنّ هذه المحبّة موجّهة نحو «مكان آخر» يتجلّى في العالم، وفي وحي هذا «المكان الآخر» يتمّ فهم جوهر ودعوة وجمال هذا العالم. ولهذا السبب أشعر بالملل، أشعر بحزن مماثل حيثما يُنكر هذا «الوحي» أو الكشف: أي،  من ناحية،  عند الذين يحبّون هذا العالم من دون أيّ مرجعيّة لهذا «المكان الآخر»، ومن ناحية أخرى، عند  الذين يشدّدون على تناقض هذا «الواقع الآخر» مع العالم.

الليتورجيا، عنده، هي مكان هذا الخلاص الذي يتمّ  تحقيقه والاحتفال به «من أجل حياة العالم».

«تُركت الكنيسة في العالم لتحقيق الإفخارستيّا وإنقاذ الإنسان، عبر استعادة هويّته الإفخارستيّة. (...) ليس للكنيسة هدف آخر، فهي لا تملك «حياتها الدينيّة» منفصلةً عن العالم. وإلّا فإنّها تصبح معبودة نفسها. الكنيسة بيت، ينطلق منه الجميع إلى العمل وإليه يعود الجميع بفرح ليجدوا فيه الحياة والسعادة، حيث يجلب كلّ واحد ثمار أعماله، وحيث يتحوّل كلّ شيء إلى عيد وحرّيّة وملء. ولكن على وجه التحديد، حضور هذا البيت، وخبرة  هذا البيت الملكوتيّة، غير المتغيّرة، التي تتغلغل فيها الأبديّة وتظهر فيها الأبديّة، فقط هذا الحضور يمكن أن يعطي معنى وقيمة لكلّ شيء في الحياة، ليعيد كلّ شيء إلى هذه الخبرة والملء بطريقة أو بأخرى. «هيئة هذا العالم تزول». ولكن فقط عبر تحوّل  العالم وكلّ ما يحتويه يصبح ما هو عليه: عطيّة اللَّه، وفرح الشركة...».

هذا البعد الإفخارستيّ، الشكريّ، هو اهتمام شميمان الأوّل، رؤيته وحدسه في علاقته مع العالم. هذه رؤية تولد من الإفخارستيّا، من أجل أن تكون الحياة وافرة للكلّ، من أجل حياة العالم.

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search