خاطرة
مغامرة آسرة
وسيم ميلاد وهبة
وحدها الصلاة تطرق أبواب السماء
القدّيس يوحنّا السلميّ
في دنيا الظنون والارتياب نحتاج إلى شاطئ تنجلي فيه الغشاوة ويقلّ فيه الغبار. هذا المكان قد تنكشف لنا معالمه بالتدرّج. والانكشاف هذا صعبٌ إلى أن نتحوّل نفوسًا تصلّي وتخشع. ولا شكّ في أن الصلاة تبلغ عمقها في مراحل اليأس وتراجع الأمل. عندها تكون النفس في حالة الصراع الأكبر بين الفشل والانتصار، بين الاستجابة والخذلان.
في دوّامة هذا الجهاد الروحيّ العظيم يمدّ اللَّه يد الحنوّ ويبلغ بنا إلى مرفأ الراحة المنشود، أمّا شرطه الوحيد فليس سوى ثقة به تمحي كلّ توانٍ وخوف.
من صميم الوجع، والبؤس والمعاناة، صرخ أعمى أريحا ليسوع طالبًا الرحمة، الرحمة فقط، وهي كلّ شيء. كان قد سمع بأنّ يسوع الناصريّ إنسان عظيم، مملوء من القداسة والعجب. وكان توّاقًا إلى رؤيته، جاعلًا أمل عمره في يديه. كان مصدّقًا حدّ التسليم بأنّ شفاءه لن يتمّ إلّا عبر هذا الرجل. يمكن أن نتصوّر النار التي اشتعلت في أحشائه عندما بلغ خبر عبور يسوع إلى مسامعه. طار فرحًا، عرف الأعمى الفرح الإلهيّ، فرح الأمل الذي يعادل فرح الشفاء والانتصار. هذا المرور ليسوع عاد فلملم أشلاء رجائه المكسورة وجمعها، وأعاد إلى قلبه النبض المفعم بالحياة. صرخ ثمّ أعاد الصرخة، يريد أن يتأكّد من أنّ يسوع سيسمعه وسيلتفت إلى حالته اليائسة. هذا الإصرار على الارتقاء إلى مسامع السماء من المستحيل ألّا يوصلنا إلى قلب اللَّه وليس فقط إلى مسامعه. الأكيد أنّ مناجاة الرحمة العظمى اجترحت معجزة الشفاء وأبرأت المسقام فجعلته سليم الجسد وفَرِح الروح!
هذه حادثة كانت فجرًا للصلاة القلبيّة، وحوادثُ أخرى من تجارب الذين التقوا الربّ يسوع وكان لهم شرف التخاطب معه، تفجّرت منها الصلاة الأشهر الصغيرة، والقويّة الوطأة: «يا يسوع ارحمني أنا الخاطئ». ربّما لم ينادِ الأعمى يسوع بابن اللَّه لأنّه غفل عن المعرفة اللاهوتيّة للإله المتجسّد، لكنّه، والأهمّ، أدرك حبّه اللامحدود، غير المرتبط بمعايير الفلسفة والعقائد، ولم ينثنِ أو يتردّد في إعطائه قلبَه. هكذا تأسّست صلاة القلب الحبيبة، سلاحًا قويًّا غير مخذول.
كما يقول المتروبوليت أنطوني (بلوم) «الصلاة مغامرة آسرة» والمغامرة تبدأ قبل كلّ شيء بأخذ القرار والاقتناع بخوضها. وفي هذه المغامرة نذلّل كلّ العوائق والتجارب التي تعتري سبيلنا حتّى نصل، بقوّة الذي يقوّينا، إلى غايتنا، إلى الخلاص. هي آسرة لأنّنا متى ذقنا حلاوتها، نعتادها وتصير ملازمة لأوقاتنا تعيش في تفاصيل حياتنا. نصير نحن جزءًا منها وهي تصير منّا.
وفي مغامرتنا مع صلاة القلب تساعدنا المسبحة الطالعة من تقليد ضاع في أعماق الزمن. هذه الخيوط المعقودة صلبانًا كأيّامنا التي تنطوي على الأحداث والهموم، السوداءُ بلون الحزن والخطيئة والموت، جميلة هي رغم ذلك وأنيقة كالفصح البهيّ الذاهب بنا إلى عالم الشفاء والفرح.
تأسرنا هذه الحلاوة طوعيًّا في الخير، في المكان الصالح فلا نعود بحاجة إلى حلاوة أخرى. أمّا إذا قرّرنا أن نبقى في هذا الاختطاف السماويّ والاتّصال اللامعقول، تستحيل نفوسنا صلواتٍ تحتوي الكلام الأوّل المتبرّر من الخطيئة، والتي تبلغ بنا حتمًا إلى جنائن النعيم الأوّل.